صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد

ابن عائلة سياسية... ونقطة تقاطع علاقات وثيقة داخل النظام الإيراني

صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد
TT

صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد

صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد

يعد صادق لاريجاني، رئيس القضاء الإيراني، أبرز المسؤولين المنصّبين من المرشد علي خامنئي، وفضلاً عن كونه أبرز المرشحين لخلافته، فإنه قد يكون أبرز المؤثرين في تعيين المرشد الثالث.
انطلاقاً من ذلك فإن صادق لاريجاني يعد أحد أكثر المسؤولين إثارة للجدل في إيران، ليس لدوره السياسي فحسب، بل أيضاً لثرائه الفاحش ورغبته الشديدة في الاحتفاظ بالسلطة وقوة قبضته في كتم أصوات المعارضين، بالإضافة إلى طبعه الحاد وعلاقاته الواسعة مع النخبة الأرستقراطية. وإلى جانب كل ما سبق، يمثل لاريجاني الجيل الثاني من المسؤولين الإيرانيين الذين صعدوا بعد الجيل الأول من قادة النظام. وهنا، يعد «الإخوة لاريجاني» أبرز النماذج لسطوة الأسرة المتنفذة في هيكل نظام كانت أبرز شعاراته تكريس المؤسسات في صلب الدولة وتمكين الدستور. لكن النموذج يُظهر كيف تعمل المؤسسات تحت تأثير أسر بعينها دون الانفتاح على الشعب، وهنا يمكن للقارئ تتبع منطق تداول السلطة في إيران.

«أداء كبار المسؤولين القضائيين والمظالم في هذا الجهاز من الأسباب الرئيسة للاستياء العام. إن التغيير الفوري لرئيس السلطة القضائية وتعيين شخص آخر وفق معايير مقررة دستورياً يمكن أن يهدّئ من خواطر الشعب».
كان هذا جزءاً من رسالة من الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد إلى المرشد الإيراني قبل أسابیع قليلة، وهي رسالة اعتبرها البعض حدثاً تاريخياً. ورغم تراكم المطالب التي جاءت في الرسالة فإن «البطل الحقيقي» للقصة ما كان غير رئيس الجهاز القضائي الإيراني، الشيخ صادق لاريجاني.
صادق هو الابن الوحيد بين أبناء الشيخ هاشم آملي لاريجاني الذي سار على خطى أبيه وارتدى ملابس رجال الدين. وعلى هذا الأساس، بخلاف إخوته الذين يُعرفون باسم «لاريجاني»، اختار لقب «آملي» لنفسه، نسبةً إلى مدينة آمل في محافظة مازنداران بشمال إيران. وهو مع أنه لم يعش فيها، اعتمد بذلك طريقةً تذكِّر بسلوك رجال الدين الإيرانيين في الانتساب إلى المدن التي ينحدرون منها.

النشأة والبداية
وُلد صادق في النجف، مثل أغلب إخوته. وفي سن الخامسة اصطحبه والده المرجع الشيعي إلى حوزة قُم العلمية. وهناك بدأ تلقي الدروس الدينية بموازاة الدروس المدرسية.
لم يُعرف لاريجاني قبل منتصف التسعينات. بل بدأ تداول اسمه عندما كتب رداً على المفكّر الحداثي والليبرالي الإيراني عبد الكريم سروش. حينذاك كان أحد الطلاب الأكثر تطرفاً عند مصباح يزدي الذي يُعرف –بدوره- بالتطرف بين رجال الحوزات في قُم. أما قبل ذلك فلم يكن له أي أثر. وبالتالي، فغيابه عن النشاط الثوري إبان حقبة الخميني يشكل مادة للانتقادات الواردة له من منتقديه. وحقاً، ليس له أي سجل في أثناء أيام الثورة ولم يُلحظ وجوده في الحرب العراقية – الإيرانية. ولاريجاني يقرّ بذلك لكنه يبرّره قائلاً: «كنت أرجح الدراسة وتلقي العلوم».
دخل لاريجاني في سن الثامنة والثلاثين إلى «مجلس خبراء القيادة» بعدما ألّف كتباً في الرد على نظريات سروش حول قبض الشريعة وبسطها (في منتصف التسعينات) واختاره المرشد علي خامنئي بعد 3 سنوات كأحد فقهاء «مجلس صيانة الدستور». ومن ثم، أثار تعيينه كأحد فقهاء هذا المجلس انتقادات من الحوزات العلمية. ذلك أنه وفق المنتقدين ليس متخصصاً في الفقه، بل جاءت دراسته في مجال الكلام والدراسات الإسلامية.
هذا أيضاً ما استند إليه معارضوه عندما وقع اختيار خامنئي عليه ليكون رئيساً للقضاء خلفاً لمحمود هاشمي شاهرودي. فوفقاً للدستور الإيراني يجب أن يكون رئيس السلطة القضائية الإيرانية شخصاً بلغ في الفقه درجة الاجتهاد. وعلى هذا الأساس، طالب أحمدي نجاد في رسالته المفتوحة إلى خامنئي أن يختار شخصاً بدلاً من آملي لاريجاني «تنطبق عليه المواصفات التي ينص عليها الدستور الإيراني». وبدوره أشار الزعيم الإصلاحي مهدي كروبي في رسالته الشهيرة إلى خامنئي الشهر الماضي إلى هذه القضية ليتبين أنها نقطة توافق بين المنتقدين. لكن على ما يبدو أن هناك أهدافاً أخرى عند خامنئي، إلى جانب تبعية صادق، لتعيينه في منصب رئيس القضاء.

شبكة العلاقات الثمينة
إنها أهداف يميل بعض المحللين إلى أن أهمها، ربما، حاجة خامنئي إلى دعم «شبكة» داعمي الرجل بين مراجع تقليد الشيعة والجماعات والقاعدة الشعبية التابعة لهم. إذ تجدر الإشارة إلى أن صادق -أو آملي لاريجاني- صهر المرجع حسين وحيد خراساني، وهو مرجع كان قد وجّه انتقادات لاذعة إلى خامنئي قبل تعيين صهره في منصب رئيس القضاء. إضافة إلى ذلك، تتمتع أسرة لاريجاني بشبكة علاقات عائلية واسعة مع أسر المراجع. فأخوه علي لاريجاني صهر مرتضى مطهري أحد أعضاء لجنة الثورة، وأخوه باقر لاريجاني صهر حسن زاده آملي، أحد مراجع قُم القدامى، وجوادي آملي أحد مراجع قُم متزوج من عمّة «الإخوة لاريجاني». كذلك، فإن الأخت الوحيدة لصادق لاريجاني زوجة مرجع شيعي هو محقق داماد. ومن يعرف تعقيدات نفوذ المراجع في إيران (السلطة والشعب) يعرف تماماً أن هذه الأسماء ليست سهلة. إنها شبكة من أفراد متنفذين في الحوزات العلمية الشيعية في إيران يحتاج خامنئي إلى دعمها. وهذه العلاقات الأسرية الواسعة نفسها بالضبط تفتح آفاقاً أخرى أمام صادق لاريجاني وتعزّز طموحه، وهو الذي يشغله هاجس خلافة خامنئي في منصب الولي الفقيه.
إلى جانب العلاقات العائلية الواسعة مع شخصيات متنفذة في الحوزة العلمية، يتمتع صادق بنفوذ واسع في مؤسسة خامنئي، كما أنه يعمل على بناء علاقات حسنة مع الحرس الثوري بواسطة الامتيازات التي يقدمها لأهم قادة الحرس الثوري، وكذلك عبر علاقات أخيه علي لاريجاني، رئيس البرلمان الحالي، وأحد أبرز الأعضاء القدماء في المكتب السياسي للحرس الثوري. كل ذلك يجعل صادق لاريجاني مرشحاً أساسياً لمنصب المرشد الثالث بعد خامنئي.
أضف إلى ما تقدم، أن الرجل يملك نفوذاً واسعاً الآن في «مجلس خبراء القيادة»، وهو المجلس الذي من مهامه الأساسية، وفق الدستور، اختيار المرشد. ويعتقد البعض أن لاريجاني حاول أن يكون رئيساً للمجلس لكن أغلب الأعضاء يعارضون ذلك؛ بل حتى أولئك الذين يُعدُّون من أنصاره كانوا يعتقدون أنه مع وجود أحمد جنّتي فإن حلة رئاسة «مجلس خبراء القيادة» فضفاضة على قامة صادق لاريجاني. مع هذا، لم يهتم الأخير كثيراً لذلك، بدليل أنه لم يترشّح للحفاظ على كرسي نائب رئيس المجلس في آخر انتخابات شهدها المجلس في الأسبوع قبل الماضي. وهو يدرك أن جنّتي يبلغ من العمر 92 سنة. وبالتالي، فهو متقدم جداً في السن ليكون خليفة المرشد. هذا إلى جانب العلاقات الوثيقة يين جنّتي ولاريجاني. وتفيد التقارير حالياً بأن نفوذ لاريجاني الملحوظ في «مجلس خبراء القيادة» يعزز موقعه كأحد المرشحين لمنصب المرشد الثالث. أما أهم ما يمكن أن يعترض طريقه فهي قساوته وتعطشه للاستبداد، وسوى ذلك من المآخذ التي يعددها خصومه.

تعامله عدواني وحاد
هؤلاء يقولون إن صادق لاريجاني عدواني وحادّ الطباع. ووفق مصطلح المتدينين، ليس له سعة الصدر ويُعرف بحقده بين الخاصة والعامة. ويعتقد محللون أن هذا الحقد من أسباب تنامي قوة ونطاق عمل جهاز استخبارات السلطة القضائية ليتحوّل من جهاز داخلي في السلطة القضائية إلى جهاز يقوم بأعمال استخباراتية موازية لوزارة الاستخبارات وجهاز استخبارات الحرس الثوري. ولعل اعتقال المنتقدين وممارسة الضغط والتعذيب بحقهم والبحث عن نقاط ضعف المنافسين والمنتقدين من بين أعمال جهاز استخبارات السلطة القضائية في زمن صادق آملي لاريجاني. وبالإضافة إلى ذلك، يرميه خصومه بالتطرف ونزعة الغضب وسرعة الانفعال. ويزعمون أنه لا يؤمن بالتنافس ويرى أن كل من يعارضه عدو. وهو يتهم راهناً أحمدي نجاد بالخيانة العظمى والشق عن مسار الثورة. وهذه حدة خُلقٍ أزعجت خامنئي مراراً. وفي سياق النزاع مع أحمدي نجاد، سعى مراراً إلى اعتقال الرئيس السابق، لكن محاولاته اصطدمت بمعارضة من المرشد الإيراني. مع هذا اقترب قليلاً من مبتغاه في عزل أحمدي نجاد خلال الأسبوع الماضي، باعتقال مساعديه اسفنديار رحيم مشايي وحميد بقايي.
تمكن ملاحظة هذا التطرف بوضوح في مرآة الأرقام. فعلى مدى السنوات السبع الأولى من رئاسته في القضاء جرى إعدام أكثر من 4300. إذ أعدم خلال الدورة الخمسية الأولى من رئاسته 2600 متهم، بينما صودق في العامين الأولين من فترة رئاسته الثانية على إعدام 1700.

انتهاك حقوق الإنسان
في نهاية مارس (آذار) 2012، أدرج الاتحاد الأوروبي اسم صادق لاريجاني ضمن قائمة تضم 17 مسؤولاً إيرانياً رفيعاً بتهمة الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان. وقال الاتحاد إن فرض العقوبات ضد لاريجاني ومنعه من دخول الأراضي الأوروبية، جاء رداً على توقيعه أحكاماً بالإعدام والرجم وبتر الأعضاء والجلد ورشّ الحمض (الأسيد) في أعين المتهمين، إضافة إلى قمع احتجاجات «الحركة الخضراء» الإصلاحية بين عامي 2009 و2010. وفي منتصف يناير (كانون الثاني) 2018، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على 14 شخصية وكياناً إيرانياً لانتهاكها حقوق الإنسان، خصوصاً قمع المحتجين في أكثر من 80 مدينة إيرانية، وكان لاريجاني أبرز المسؤولين الإيرانيين.
صادق لاريجاني يقف اليوم على مشارف المستقبل؛ تماماً مثل النظام الإيراني برمّته. إنه ينتظر وفاة المرشد ليرى إن كانت مقامرته ستثمر أم ستفشل. رئاسته جهاز القضاء تعطيه مكانة سامية بين المتنافسين على خلافة خامنئي وبين التيار المحافظ، لكنه إذا فقد المنصب سيبتعد عدة خطوات عن السباق على خلافة المرشد، علماً بأن فترة رئاسته الثانية للقضاء ستنتهي في أغسطس (آب) 2019.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.