الائتلاف الألماني... خيار الضرورة!

عندما خرج أولاف شولتز، الرئيس المؤقت للحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) في ألمانيا ليعلن أخيراً موافقة أعضاء الحزب على دخول الحكومة الائتلافية الألمانية، لم تبدُ عليه علامات الانشراح أو السعادة. بل على العكس من ذلك، فإنه بدا متعباً ومهموماً. كان ذلك مطلع الشهر بعد أكثر من خمسة أشهر من الشكوك والمفاوضات المضنية لتشكيل الحكومة منذ انتهاء الانتخابات البرلمانية نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي. لقد خرج شولتز أمام قاعة تغص بالصحافيين وأيضاً بأعضاء الحزب. وقال وهو يكشف نتيجة تصويت أعضاء حزبه على دخول الحكومة مع الحزب (الاتحاد) الديمقراطي المسيحي بزعامة أنجيلا ميركل: «لدينا الآن وضوح في الرؤية. الحزب الديمقراطي الاجتماعي سينضم للحكومة». هكذا بكل برودة أعلن أن حزبه سيبقى حاكماً. وجاءه رد الفعل في القاعة أبرد حتى من طريقة إعلانه. لم يصفّق أحد من أعضاء الحزب، ولم يعلُ الصراخ. لا شيء. فقط ساد السكون. الصحافيون في القاعة راحوا يتهامسون حول سبب غياب رد الفعل. ثم راحوا يتساءلون بصوت مرتفع ويحللون على قنواتهم. وفي اليوم التالي، كتبت مجلة «دير شبيغل» أن وجه شولتز بدا وهو يعلن انضمام حزبه للحكومة «وكأنه تلقى للتو خبر سقوط فريق نادي كرة القدم الذي يدعمه إلى الدرجة الثانية».

انعدام الحماسة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) في ألمانيا وجمهوره بدخول ائتلاف حكومي برئاسة المستشارة أنجيلا ميركل يعكس صراعاً طويلاً عاشه الاشتراكيون الألمان بين الانتخابات الأخيرة وتشكيل الحكومة الجديدة. إذ إنهم رفضوا في البداية المشاركة في أي حكومة، وأعلن زعيمهم حينئذٍ مارتن شولتز - الذي استقال لاحقاً - أن الحزب سيجلس في صفوف المعارضة. ويذكر أن كان السبب الرئيس لخسارة الاشتراكيين أصواتاً كثيرة في الانتخابات، ذهاب الكثير منها إلى حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف والمعادي للأجانب.
لقد أراد شولتز، يومذاك، تجميع الصفوف وإعادة كسب ثقة الناخبين. بيد أنه أمام عجز ميركل عن تشكيل حكومة من دونهم، والضغوط المتزايدة من الرئيس الألماني للتشكيل، ونفور معظم الأطراف من فكرة الدعوة لانتخابات جديدة قد لا تختلف نتيجتها كثيراً عن الانتخابات الأخيرة، قرّر هذا الحزب الديمقراطي الاجتماعي العودة للحكومة للمرة الثالثة شريكاً أصغر. مع هذا، نجح الاشتراكيون بانتزاع وزارات مهمة من ميركل، لعل أهمها وزارة المالية التي أغضب تخلي المستشارة عنها حزبها المسيحي الديمقراطي. وذهبت إليهم أيضاً من الحقائب الوزارية الست التي حصلوا عليها حقيبة وزارة الخارجية المهمة.

الشريك البافاري المزعج
من ناحية أخرى، لم تتوقف التنازلات الكبيرة التي اضطرت ميركل إلى تقديمها عند هذا الحد، بل امتدت إلى حليفها البافاري المحافظ، الحزب (الاتحاد) الاجتماعي المسيحي، الذي وافقت على منحه حقيبة وزارة الداخلية وإسنادها إلى زعيمه اليميني المتشدد هورست سيهوفر.
مع هذا السياسي اليميني المتشدد بدأت «الخلافات» داخل الحكومة بالظهور سريعاً، بل في اليوم التالي لتشكيلها. إذ اختار سيهوفر الذي تسلم وزارة وُسعت صلاحياتها وبات اسمها «وزارة الداخلية والبناء والوطن»، أن يبدأ «عهده» بهجوم صريح على المسلمين، أراده - بالطبع - ضد اللاجئين، وقال في أول مقابلة أدلى بها أن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا».
هذا الكلام ناقضه كل من المستشارة ميركل والرئيس الألماني (الاشتراكي) فرانك فالتر شتاينماير، وأيضا، آندريا ناهلس التي ستتسلم قيادة الاشتراكيين رسمياً الشهر المقبل، وعدد كبير من أعضاء الأحزاب المختلفة من اليمين إلى الوسط واليسار. وبطبيعة الحال، لم يرحّب بتصريحات سيهوفر ذات النبرة العنصرية إلا حزب «البديل لألمانيا»، وإن كان اتهم سيهوفر «بسرقة جُمل» من برنامجه الانتخابي، وبعض السياسيين البافاريين المتشددين في حزبه. لكن، الاختلاف توقف هنا. لم تؤنب ميركل وزير داخليتها، ولم تدعوه للتراجع عن تصريحاته. بل اكتفت بإظهار «الخلاف» وكأنه مجرد اختلاف في الرأي الذي لن ينعكس على سياسة الحكومة.
يفسر الصحافي زاهي علاوي، المتخصص بالشؤون الألمانية، تساهل ميركل في الرد على وزير داخليتها بأنها «لا تريد إظهاره على أنه دمية؛ لأن هذا سينعكس سلباً عليها في استطلاعات الرأي، وثانياً لا تريد الدخول في سجالات إعلامية». وبالفعل، فإن أسلوب ميركل كثيراً ما اعتمد على تجنب السجالات الإعلامية مع خصومها أو من مع تخالفهم الرأي. ويستطرد علاوي إنها تفضل حل «الأزمات عبر اجتماعات ولقاءات داخلية خاصة».

فقاعات انتخابية؟
من ناحية أخرى، كثيرون اعتبروا تصريحات سيهوفر «فقاعات انتخابية» بالنظر إلى أن حزبه الاجتماعي المسيحي مقبلٌ على انتخابات محلية في ولاية بافاريا خلال أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وللعلم، كان هذا الحزب قد خسر أيضاً أصواتاً كثيرة في الانتخابات العامة الأخيرة لصالح «البديل لألمانيا»، ومن ثم، فإنه يتخوف الآن من أن يتكرّر «السيناريو» في الانتخابات المحلية. وعلى هذا الأساس، يصف علاوي الانتخابات المقبلة بأنها «مصيرية» للاجتماعيين المسيحيين. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن حزب ميركل لا ينافس الحزب الاجتماعي المسيحي في بافاريا، ولا يطرح أي مرشحين فيها، بل يعتبر ممثلي هذا الحزب ممثلين له في البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) بحسب اتفاق بين الحزبين المحافظين الشقيقين.
ويوافق محمد ثور، العضو في الحزب الديمقراطي الاجتماعي، على أن لهجة سيهوفر ستخفّ بعد الانتخابات في بافاريا؛ إذ يقول: «صحيح، ما يحصل الآن عبارة عن فقاعة لكسب ناخبين». إلا أنه يضيف أن خطورتها تكمن في أنها جاءت في تزايد الاعتداءات على المساجد في عموم أنحاء ألمانيا، وكلامه هذا لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تعميق الشرخ.
عند هذه النقطة يذهب علاوي أبعد ليقول: إن ميركل في الحقيقة «لا تمانع» بمثل هذه التصريحات الصادرة عن سيهوفر «لأنها في حاجة إلى سحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف واستعادة الأصوات التي خسرتها له بسبب أزمة اللاجئين». ويتابع: «إنها تحاول كسب الشارع، وترى أن عليها أن تثبت أنها قادرة على لجم موجة اللجوء. إنها لا تريد أن تنهي تاريخها السياسي بالفشل».
لكن المخاوف الحقيقية الآن تتعلق بإمكانية أن يجرّ سيهوفر الحكومة المشكّلة من ائتلاف يميني - يساري هشّ، إلى مكان أقرب إلى اليمين المتطرف من الوسط، في محاولة لكسب أصوات خسرتها الأحزاب الثلاثة لصالح «البديل لألمانيا». هذا الأمر يستبعده مصطفى عمار، عضو رئاسة مجلس الأمناء في الحزب الديمقراطي المسيحي؛ إذ يرفض أن تكون الحكومة متجهة نحو اليمين. ويعتبر هذه الخلافات طبيعية قائلاً: «اعتدنا على مثل هذه الأمور... علينا أن نختلف كي نصل إلى حل». ويتحدث عن ضرورة حصول نقاش بين الجمعيات الإسلامية والحكومة في الموضوع.

مخاطر هشاشة التفاهم
على أي حال، فإن الخلاف حول مكانة الإسلام في ألمانيا لم يكن إلا الخلاف الأول لهذه الحكومة الفتية. ويتوقع زاهي علاوي أن تظهر خلافات أكثر في المستقبل. وحقاً، فإن الحزبين الرئيسين في الائتلاف (الديمقراطيون المسيحيون والاشتراكيون)، رغم اتفاقهما على الحكم معاً، يختلفان حيال الكثير من القضايا، بدءاً بقوانين الصحة والضرائب، وصولاً إلى التعليم والبيئة، بل ولو لدرجة أقل إزاء السياسة الخارجية.
اليوم، أمام الاشتراكيين مهمة صعبة لإعادة كسب ناخبيهم ومحاولة إبعاد أنفسهم عن الديمقراطيين المسيحيين، أو إثبات أن حزبهم ليس «الشريك الأصغر» في الحكومة، وفي الوقت نفسه البقاء فيها.
لا شك، سيتوقف الكثير من الانسجام أو انعدامه داخل الحكومة الائتلافية على العلاقة بين المرأتين اللتين تحكمان الحزبين الرئيسين: أي المستشارة ميركل وأندريا ناهلس الزعيمة الجديدة للحزب الديمقراطي الاجتماعية التي تنتظر تتويجها رسمياً بعد بضعة أسابيع، مع الإشارة إلى أنها راهناً رئيسة كتلة الاشتراكيين في البرلمان الاتحادي.
علاوي يرى أن «ميركل في حاجة إلى الوفاق مع ناهلس، وإلا فإن مهمة الحكومة لن تكون سهلة». ويضيف، إن زعيمة الاشتراكيين الجديدة «ستحاول أن تفرض شخصية المرأة القوية التي يمكنها مواجهة ميركل المرأة الحديدية». والواضح أن تختلف إحداهما عن الأخرى بشكل كبير رغم أنهما تتشاركان في نجاحهما بالصعود داخل حزبيهما، ومواجهة الذكورية المسيطرة تقليدياً على الحزبين.

زعيمتان تحت المجهر
خلافات ميركل وناهلس لا تتوقف فقط عند التباعد الآيديولوجي بين حزبيهما المحافظ واليساري المعتدل، اللذين يختلفان بالفعل في الكثير من القضايا بين اليسار واليمين، بل تتصل أيضاً بشخصيتيهما.
ناهلس، التي كانت تخدم في الحكومة السابقة وزيرةً للعمل «يعوزها شيء من الدبلوماسية وبعض تصريحاتها كانت توصف بالهزلية» وفق علاوي. في المقابل، هناك ميركل السياسية المخضرمة «التي تحافظ على دبلوماسيتها ورزانتها». في هذا السياق، فإن الصحافة الألمانية التي حلّلت مطولاً العلاقة بين المرأتين، تحدثت حتى عن أن مستقبل ميركل «يعتمد بشكل جزئي على ناهلس». إلا أنها تساءلت عما إذا بإمكان الزعيمة المرتقبة للاشتراكيين «أن تخدم سيدين»، أي أن تعمل على نجاح الحكومة... وفي الوقت نفسه مساعدة حزبها على استعادة الثقة من ناخبيه في ظل اعتراض كثيرين من أعضائه على دخوله الحكومة.
هذا جانب قد يهدد مستقبل هذه الحكومة. ذلك أن ناهلس بإمكانها أن تتحول إلى الهجوم على الحكومة في حال شعرت أن ثمة حاجة إلى ذلك بهدف إنقاذ حزبها. لكن مع ذلك، فإن من مصلحة الاشتراكيين حالياً على الأقل إنجاح الحكومة. وحول هذه الناحية يشرح علاوي أن «الاشتراكيين مجبرون على الإكمال بالحكومة، وفي الوقت ذاته محاولة إقناع ناخبيهم بأنهم ليسوا تابعين لميركل والمحافظين. إنهم في حاجة أن يثبتوا أن الكثير من القرارات المصيرية والحاسمة لعبوا دوراً مؤثراً فيها».
وفي الواقع بدأ ذلك يتكشف أيضاً في الأيام الأولى من حياة هذه الحكومة. إذ خرج وزير المالية الاشتراكي أولاف شولتز ليتحدث عن ضرورة الاستثمار أكثر في التعليم والبنى التحتية. وهذه قضايا سيكون لها دون شك أصداء إيجابية لدى الناخبين. غير أن مساعي الاشتراكيين للتمتع باستقلالية الحركة، سيزيد من دون شك من متاعب ميركل التي باتت بوصف كثيرين «ضعيفة، وربما عاجزة عن قيادة الحكومة لفترتها الكاملة». الاشتراكي محمد ثور، من أصحاب هذا الرأي؛ إذ يقول معلقاً «وقت ميركل بدأ ينتهي، وهي لم تعد المرأة القوية لا داخل ألمانيا ولا داخل حزبها». لكن مصطفى عمار، العضو في حزب المستشارة المحافظة لا يوافقه، بل يعتبر أن «ميركل قوية»، وأن «التنازلات التي قدمتها في الحكومة دليل قوة وثقة وليست أبداً دليل ضعف». ثم يضيف «لقد بقيت تصارع للحظة الأخيرة من أجل وحدة أوروبا وليس فقط ألمانيا. وضعت الكثير من المشروعات على الطاولة وتريد تعاون الجميع لتحقيقها».
أمر آخر يشكل تحدياً لميركل إضافة إلى العمل على إبقاء الاشتراكيين في صفها، سيكون على المستشارة إبقاء حليفها البافاري تحت السيطرة، وتحديداً، منعه من جذب الحكومة إلى مكان أقرب لليمين التطرف، لكن في الوقت نفسه منحه حرية كافية لاستعادة الأصوات التي خسرتها الأحزاب الثلاثة لصالح «البديل لألمانيا».

المشاكل غير مستبعدة
هذا كله سيعني بالطبع أن هناك خلافات أخرى قد تطفو على السطح خلال الأشهر المقبلة في حكومة «توافق أكثر منها تجانس» كما يصفها علاوي. ويردف علاوي فيقول: إن قوة الحكومة الائتلافية الحالية تستمدها من أمرين: الأول أن الأغلبية النيابية معها. والآخر، والأهم، أن جميع الأحزاب داخل البرلمان، بما فيها الأحزاب المعارضة ستشكل حلفاً عريضاً في وجه حزب «البديل لألمانيا» الذي بات يتمتع بأكبر كتلة معارضة حالياً في البرلمان. وسيسعى هذا الحزب لإدخال قوانين كثيرة ستدفع الأحزاب الأخرى، الحاكمة والمعارضة، للتكتل ضده لإسقاطها.
وربما من هنا يمكن تفسير خطاب ميركل الأول الذي وجهته إلى «البوندستاغ» (البرلمان الاتحادي) بعد إعادة انتخابها. إذ كانت الكلمة الأكثر استخداماً فيه هي كلمة «التضامن» التي ظهرت مراراً وتكراراً في الخطاب. «تضامن» في قضايا كثيرة عددتها، بين الألمان والأقليات، بين الأغنياء والفقراء… وربما أهم تضامن خفي لم تأتِ على ذكره مباشرة هو التضامن للقضاء على اليمين المتطرف الذي شكّل دخوله البرلمان صدمة سياسية للأحزاب الألمانية.
وبانتقاء هذه الكلمة لوصف برنامج حكومتها، تحاول المستشارة الوصول إلى ضمائر الناخبين من المحافظين والاشتراكيين وإعادة تثبيت صورتها «سياسية الإجماع» القادرة على تخطي الأطر الحزبية الضيقة، كما وصفتها إحدى الصحف الألمانية.
هذا، ورغم مغازلة ميركل ناخبي اليمني المتطرف، فإنها ما زالت متمسكة بصحة قرارها السماح لمليون لاجئ عام 2015، ورفض اعتباره خاطئاً. ثم إنها رغم إقرارها بحدوث «أخطاء» في التعامل مع الأزمات في الشرق الأوسط، فإنها عزت هذه الأخطاء إلى «غض النظر» عن تقديم الدعم للسوريين عندما اندلعت الحرب هناك. وقالت ميركل في كلمتها أمام البرلمان: «رد فعلنا كان نصف رد فعل، وكنا نأمل أن تختفي المشكلات هناك وألا نتأثر بها. هذا لم يكن فقط خطأ، بل كان أيضاً تصرفاً ساذجاً. القادة الأوروبيون اختاروا أن يغضوا الطرف عن أزمة اللاجئين، بينما كان المهربون يستغلون آمالهم...».
ختاماً، تمسُّك ميركل، ابنة القسيس البروتستانتي، بصحة قرار إدخال اللاجئين كلفها الكثير في الانتخابات، وقد يكلفها أكثر بعد، إلا أنه - على الأقل - أظهرها بمظهر القائد الرافض للانجرار خلف الشعبوية الرخيصة، كما يحصل في الكثير من الدول الأوروبية من حولها.