العثور على مأوى العبيد الهاربين في ولاية فيلادلفيا

أعاد إلى الأذهان قصة شبكة من المواقع السرية وفرت الحماية لهم خلال رحلتهم إلى الشمال الأميركي قبل أكثر من 150 سنة

منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
TT

العثور على مأوى العبيد الهاربين في ولاية فيلادلفيا

منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)

«هناك 3 عبيد هاربون هنا ويريدون الحرية» كانت الرسالة التي وصلت إلى ويليام ستيل، تدعوه إلى زيارة أحد فنادق فيلادلفيا في أقرب فرصة ممكنة. ولم تكن الرسالة مؤرخة، والتوقيع غير مقروء، غير أن ستيل أدرك الأمر.
كان العام هو 1855، وفيه صار ستيل، نجل العبيد المحررين، أحد أبرز مؤيدي إلغاء الرق والعبودية وزعيم «ذي أندرغراوند ريلرود»، وهي شبكة من المواقع السرية كانت توفر الملجأ الآمن للعبيد على طريق رحلتهم نحو الشمال الأميركي. وكان العبيد الموجودون في فندق «بلودغود» هم جين جونسون وولداها. وكانوا هناك مع سيدهم، الذي اصطحبهم في رحلة إلى نيويورك مروراً بفيلادلفيا. وفي لحظة غفل فيها سيدهم همست جين في أذن النادل الأسمر بأنها من العبيد، وأنها تسعى لنيل حريتها.
وكان ستيل في طريقه لمنحها حريتها المنشودة.
وصل ستيل برفقة صديق له من أنصار إلغاء الرق، وكان رجلاً أبيض يُدعى باسمور ويليامسون، في الوقت المناسب، لرؤية جين وطفليها وهم يغادرون الفندق ثم يصعدون على متن إحدى السفن البخارية المتجهة إلى مدينة نيويورك من على أحد الأرصفة القريبة. وركض ستيل ورفيقه ويليامسون عبر رصيف الميناء، وقالا لجين في حضرة سيدها إنها في هذه الحالة تعد امرأة حرة، وإنها حتى تتمكن من كسر قيود العبودية كل ما عليها فعله أن تأتي معهما.
«تذكري جيداً»، كما قال لها مناصرا إلغاء الرق، على نحو ما سرده ستيل في كتابه الذي نشره بنفسه، «إن ضاعت منكِ هذه الفرصة فربما قد لا تواتيكِ فرصة أخرى مثلها أبداً».
وانتهزت جين الفرصة. وفي الوقت الذي كان ويليامسون يجادل مع مالك العبيد، سارع ستيل بإخراج جين وطفليها من السفينة إلى إحدى العربات التي كانت في انتظارهم، وهي التصرفات التي سوف تسفر لاحقاً عن إلقاء القبض على ستيل وتصنع منه بطلاً معروفاً على الصعيد الوطني ويظهر اسمه في الصحف في أرجاء البلاد كافة.
وكما صنع من قبل مع المئات من العبيد الساعين لنيل حريتهم فقد وفّر لجين وطفليها ملاذاً آمناً في منزله، وهو المكان الذي، كما وصفه مؤلف سيرته الذاتية في ما بعد، «أصبح معروفاً كمحطة آمنة ومريحة على طريق فرار العبيد نحو الشمال»، «ذي أندرغراوند ريلرود».
والآن، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف القرن على تلك الأحداث، يعتقد خبراء الحفاظ على التراث في فيلادلفيا أنهم قد عثروا أخيراً على المكان الحقيقي لذلك المنزل القديم.
وخلال الشهر الحالي، صوّتت لجنة ولاية فيلادلفيا التاريخية بالإجماع على تسجيل ذلك المنزل، الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، الذي عاش فيه ستيل، واستضاف فيه المئات من العبيد بين عامي 1850 و1855، كموقع يُدرج على سجل فيلادلفيا للأماكن التاريخية، وحمايته من الهدم أو التغيير الكبير في معالمه. ويعد هو العلامة الثانية في فيلادلفيا لأعمال ستيل مع شبكة «ذي أندرغراوند ريلرود». ويقول المحافظون على التراث إن قرار الحماية من الأهمية بمكان في المدينة التي تعد العلامات التاريخية الأفريقية - الأميركية فيها لا تتجاوز شواهد القبور التي تُركت في المواقع التي لم تعد المباني الأصلية فيها موجودة حتى الآن.
يقول جيم دوفين، أحد المحافظين على التراث، لصحيفة «واشنطن بوست»: «إنه اكتشاف هائل من وجهة نظري. ومن أصعب المشكلات في محاولة استعادة قصة «ذي أندرغراوند ريلرود» هو العثور على الوثائق التي تفيد بوجود مواقع إخفاء العبيد. وهذه من الفرص النادرة بشكل لا يصدَّق، حيث نعرف تماماً أن الموقع له صلة تربطه بشبكة (ذي أندرغراوند ريلرود) نظراً إلى ارتباطه بستيل».
كان إعلاناً عن الحياكة في خمسينات القرن التاسع عشر هو الذي قاد جيم دوفين إلى موقع منزل ستيل.
وكانت المشكلة في سجلات الممتلكات في منتصف القرن التاسع عشر هي أنهم حددوا فيها الشارع الذي كان يعيش فيه ستيل، لكنهم لم يحددوا رقماً معيناً للمنزل الذي عاش فيه.
وقال دوفين، بعد مراجعته المضنية لسجلات وخرائط المدينة خلال القرن التاسع عشر: «كنت قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن الأمر برمّته. ثم لاحظت إعلاناً بإحدى الجرائد من طرف زوجة ستيل».
وكانت ليتيا، زوجة ويليام ستيل، تعمل في حياكة الملابس. وفي إعلان نُشر عام 1851 عن الملابس التي تُصنع على أفضل طريقة من قبل ليتيا ستيل، وصفت بالتحديد أين يمكن للعملاء الوصول إليها في شارع «رونالدسون»، وبالتالي تمكّن جيم دوفين في نهاية المطاف من العثور على المنزل المنشود.
وعلى الرغم من إعادة تصميم المنزل على مر السنين، يقول لوني جي. بانش، مدير متحف «سميثسونيان» الوطني للتاريخ والثقافة الأفريقية - الأميركية: «إن الحس القوي بالارتباط بالماضي الذي ينشأ من موقع تاريخي محدد مثل هذا الموقع يحمل قدراً كبيراً من الأهمية والتقدير».
واليوم، يرتفع المنزل إلى 3 طوابق بواجهة من الطوب ذي اللون البني الفاتح مع الطوب الباهت القديم على الجدران الجانبية من دون نوافذ، وهو المنزل الأول في صف يضم 3 منازل أخرى على طول شارع ضيق. وهناك متجر للأغذية، ومقهى شهير، ومعرضان للأعمال الفنية تنتشر في المنطقة المحيطة التي عاش فيها ستيل ذات يوم، وهو الحي الذي وصفه في 1850 بأنه من الأحياء التي تضم الأميركيين الأفارقة بالدرجة الأولى، باستثناء متاجر الأثاث ومحلات الأجهزة المنزلية ومتاجر الحلوى التي ظهرت في الأعوام الأخيرة. والمرة الأخيرة التي تم فيها ترميم منزل ستيل -الذي يقع في شارع «رونالدسون» الذي يحمل الآن اسم شارع «ساوث دلهي»– كانت في عام 1920، وفقاً للسجلات المدنية، عندما حل الطوب ذي اللون البني محل الطوب القديم ذي اللون الأحمر.
لكن الدرجات الرخامية الأمامية في المنزل، كما يقول أوسكار بيسيرت، أحد المحافظين على التراث الذي كان أول من نظّم فريق العمل لتعقب موقع منزل ستيل، يبدو أنها الدرجات الأصلية للمنزل القديم.
وقال بيسيرت لصحيفة «واشنطن بوست»: «عندما ينظر الناس إلى هذه الدرجات الرخامية، فإنهم يرون الدرجات التي كان يقف عليها العبيد الهاربون عندما كانوا ينقرون على الباب محاولين الدخول».
وفي عام 1872، نشر ستيل المئات من قصص أولئك الهاربين في كتاب من تأليفه حمل عنوان «ذي أندرغراوند ريلرود»، وهو من بين أكثر الروايات الشخصية الأصلية الشاملة لشبكة «ذي أندرغراوند ريلرود» وأعمالها الحقيقية في مساعدة العبيد.
ويحتوي الكتاب، الذي يقع في أكثر من 840 صفحة، على قصة جين جونسون وكيف، حال محاولة ستيل وويليامسون تهريبها من على متن السفينة البخارية، جاءت جين للشهادة أمام المحكمة -التصرف الذي كان من النوادر في ذلك الوقت- بأنها كانت راغبة تماماً في الفرار بطفليها والسعي لنيل حريتها، الأمر الذي سمح في خاتمة المطاف ببراءة ستيل. ويضم الكتاب قصص العبيد الذين فروا من أسيادهم عن طريق تعبئة أنفسهم في صناديق خشبية صغيرة، ثم شحنهم على متن السفن البخارية على طول ساحل فيلادلفيا. وكتب ستيل أيضاً قصص العبيد الذين اختبأوا في أحد الكهوف لعدة أشهر بعد فرارهم من السجن وتعرضهم لإطلاق النار عليهم من جانب صائدي العبيد الفارّين في أثناء ركضهم عبر مجاهل الغابات، وكذلك قصة ذلك العبد الذي وصل إلى ستيل بناءً على التماس خاصّ من هارييت توبمان بعد دخوله السجن 10 سنوات كاملة بتهمة حيازة نسخة من رواية «كوخ العم توم» المناهضة للعبودية والرق في الولايات المتحدة. كما أنه كتب قصة ذلك العبد الذي، كما اكتشف ستيل لاحقاً، أنه هو شقيقه المفقود منذ زمن طويل!
وعلى الرغم من أن ستيل قد نشأ نشأة حرة في إحدى مزارع نيوجيرسي باعتباره الأصغر بين 18 طفلاً، كان لديه شقيقان لم يعرف عنهما أي شيء إلا من خلال القصص. ورغم أن والده قد سعى لسنوات طويلة لدفع ثمن حريته، اضطرت والدة ستيل إلى الفرار، مرتين. وفي المرة الثانية، واجهت أقسى الخيارات في حياتها قاطبة: كان لديها 4 أطفال (ابنتان صغيرتان وابنان كبيران هما بيتر وليفين) ولم تكن تستطيع اصطحابهم كلهم معها في رحلة الهروب.
وكتب جيمس بي. بويد، مؤلف السيرة الذاتية لستيل واصفاً قصة هروب والدته عام 1872: «وجاءت الليلة العصيبة، التي عصفت بالأعصاب الراسخة في تلك اللحظة المهيبة، إذ سارعت إلى سرير القش الذي كان ينام عليه أطفالها الأربعة، وطبعت قبلة الوداع على جبين ولديها من دون أن توقظهما من نومهما. واحتضنت طفلتيها بذراعيها القويتين الصارمتين، وودّعت أمها الوداع الأخير، وألقت بكل حمولها على ربها، وبدأت من جديد رحلة المسير العسير الشاق صوب الحرية».
وقبل أن يبلغ ستيل عامه الثامن عشر، كان قد شرع في مساعدة أحد العبيد الهاربين الذي عُثر عليه في الغابة، واصطحبه عبر الطريق غير الممهدة طيلة 20 ميلاً كاملة ليصل به في نهاية الرحلة إلى الأمان، بعيداً عن عيون وأيادي أسياده.
وبعد مرور 10 سنوات كاملة، وبعد الانتقال إلى فيلادلفيا، كان ستيل قد نال وظيفة موظف في جمعية مكافحة الرق في فيلادلفيا، بغية الإشراف على أعمال وجهود شبكة «ذي أندرغراوند ريلرود». وبعد مرور ما يقرب من عام في وظيفته، يتمكن أخيراً من التقاء شقيقه بيتر للمرة الأولى في حياتهما.
ففي أحد الأيام حالما كان ستيل منشغلاً للغاية في إعداد العدد الأسبوعي من صحيفته المناهضة للعبودية التي كانت بعنوان «فيلادلفيا فريمان»، دخل إليه أحد معارفه وقدم إليه أحد الأشخاص الغرباء الذي قال إنه تمكّن لتوّه من الفرار من العبودية، ويحاول الآن العثور على والديه. وأدلى أمام ستيل باسميهما، وقصّ عليه نفس القصة التي كان ستيل يرويها بنفسه على مسامع الآخرين على مدى الأعوام الأربعين الماضية.
وكتب ستيل عن ذلك في كتابه قائلاً: «أصابني ما يشبه الرعد الشديد في تلك اللحظة، إن جاز التعبير. وكان يلزمني استدعاء كل قواي العصبية والجسدية لاستيعاب الأمر والسيطرة على نفسي في حضرة ذلك الرجل الغريب، وكنت على قناعة تامة لا يشوبها أي شك هذه المرة بأن محدّثي هو أحد أشقائي المفقودين منذ زمن بعيد».
وصف ستيل الأمر في كتابه بقوله «المصادفة العجيبة»، وهو ما أقنعه في خاتمة المطاف بضرورة الاحتفاظ بسجلات بالغة الدقة عن كل عبد هارب ممن وصلوا إلى باب منزله في فيلادلفيا، على أمل أنه ربما في يوم من الأيام قد تساعد تلك السجلات أفراد عائلة أخرى ضلّ بعضهم طريق بعض منذ سنوات بعيدة. وتلاشت مخاطر الاحتفاظ بمثل هذه السجلات في عصر سن قانون الرقيق الهارب، كما اعتقد ستيل، عند المقارنة بأهمية المحافظة على تلك السجلات لأجل التاريخ.
وقال ستيل في كتابه: «في حين أن جيش مناهضي الرق، الصغير في عدده الكبير في جهده، كان يشن المعركة تلو الأخرى على العبودية في سبيل الحرية، وقبل اندلاع التمرد الكبير، لم تكن هناك من جهود توقد نيران الحماس في قلوبهم أكثر من بطولات العبيد الهاربين. ويمكن استشعار نبض قلوب 4 ملايين من العبيد ورغبتهم المتّقدة في نيل حريتهم عبر قراءة سجل (ذي أندرغراوند ريلرود) بأكثر من متابعة أي مصدر آخر لأخبارهم».
فهذه الحقائق لا بد أن تبقى حية في الأذهان وماثلة للعيان على الدوام.
- خدمة: واشنطن بوست
خاص بـ «الشرق الأوسط»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)