العثور على مأوى العبيد الهاربين في ولاية فيلادلفيا

أعاد إلى الأذهان قصة شبكة من المواقع السرية وفرت الحماية لهم خلال رحلتهم إلى الشمال الأميركي قبل أكثر من 150 سنة

منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
TT

العثور على مأوى العبيد الهاربين في ولاية فيلادلفيا

منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)

«هناك 3 عبيد هاربون هنا ويريدون الحرية» كانت الرسالة التي وصلت إلى ويليام ستيل، تدعوه إلى زيارة أحد فنادق فيلادلفيا في أقرب فرصة ممكنة. ولم تكن الرسالة مؤرخة، والتوقيع غير مقروء، غير أن ستيل أدرك الأمر.
كان العام هو 1855، وفيه صار ستيل، نجل العبيد المحررين، أحد أبرز مؤيدي إلغاء الرق والعبودية وزعيم «ذي أندرغراوند ريلرود»، وهي شبكة من المواقع السرية كانت توفر الملجأ الآمن للعبيد على طريق رحلتهم نحو الشمال الأميركي. وكان العبيد الموجودون في فندق «بلودغود» هم جين جونسون وولداها. وكانوا هناك مع سيدهم، الذي اصطحبهم في رحلة إلى نيويورك مروراً بفيلادلفيا. وفي لحظة غفل فيها سيدهم همست جين في أذن النادل الأسمر بأنها من العبيد، وأنها تسعى لنيل حريتها.
وكان ستيل في طريقه لمنحها حريتها المنشودة.
وصل ستيل برفقة صديق له من أنصار إلغاء الرق، وكان رجلاً أبيض يُدعى باسمور ويليامسون، في الوقت المناسب، لرؤية جين وطفليها وهم يغادرون الفندق ثم يصعدون على متن إحدى السفن البخارية المتجهة إلى مدينة نيويورك من على أحد الأرصفة القريبة. وركض ستيل ورفيقه ويليامسون عبر رصيف الميناء، وقالا لجين في حضرة سيدها إنها في هذه الحالة تعد امرأة حرة، وإنها حتى تتمكن من كسر قيود العبودية كل ما عليها فعله أن تأتي معهما.
«تذكري جيداً»، كما قال لها مناصرا إلغاء الرق، على نحو ما سرده ستيل في كتابه الذي نشره بنفسه، «إن ضاعت منكِ هذه الفرصة فربما قد لا تواتيكِ فرصة أخرى مثلها أبداً».
وانتهزت جين الفرصة. وفي الوقت الذي كان ويليامسون يجادل مع مالك العبيد، سارع ستيل بإخراج جين وطفليها من السفينة إلى إحدى العربات التي كانت في انتظارهم، وهي التصرفات التي سوف تسفر لاحقاً عن إلقاء القبض على ستيل وتصنع منه بطلاً معروفاً على الصعيد الوطني ويظهر اسمه في الصحف في أرجاء البلاد كافة.
وكما صنع من قبل مع المئات من العبيد الساعين لنيل حريتهم فقد وفّر لجين وطفليها ملاذاً آمناً في منزله، وهو المكان الذي، كما وصفه مؤلف سيرته الذاتية في ما بعد، «أصبح معروفاً كمحطة آمنة ومريحة على طريق فرار العبيد نحو الشمال»، «ذي أندرغراوند ريلرود».
والآن، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف القرن على تلك الأحداث، يعتقد خبراء الحفاظ على التراث في فيلادلفيا أنهم قد عثروا أخيراً على المكان الحقيقي لذلك المنزل القديم.
وخلال الشهر الحالي، صوّتت لجنة ولاية فيلادلفيا التاريخية بالإجماع على تسجيل ذلك المنزل، الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، الذي عاش فيه ستيل، واستضاف فيه المئات من العبيد بين عامي 1850 و1855، كموقع يُدرج على سجل فيلادلفيا للأماكن التاريخية، وحمايته من الهدم أو التغيير الكبير في معالمه. ويعد هو العلامة الثانية في فيلادلفيا لأعمال ستيل مع شبكة «ذي أندرغراوند ريلرود». ويقول المحافظون على التراث إن قرار الحماية من الأهمية بمكان في المدينة التي تعد العلامات التاريخية الأفريقية - الأميركية فيها لا تتجاوز شواهد القبور التي تُركت في المواقع التي لم تعد المباني الأصلية فيها موجودة حتى الآن.
يقول جيم دوفين، أحد المحافظين على التراث، لصحيفة «واشنطن بوست»: «إنه اكتشاف هائل من وجهة نظري. ومن أصعب المشكلات في محاولة استعادة قصة «ذي أندرغراوند ريلرود» هو العثور على الوثائق التي تفيد بوجود مواقع إخفاء العبيد. وهذه من الفرص النادرة بشكل لا يصدَّق، حيث نعرف تماماً أن الموقع له صلة تربطه بشبكة (ذي أندرغراوند ريلرود) نظراً إلى ارتباطه بستيل».
كان إعلاناً عن الحياكة في خمسينات القرن التاسع عشر هو الذي قاد جيم دوفين إلى موقع منزل ستيل.
وكانت المشكلة في سجلات الممتلكات في منتصف القرن التاسع عشر هي أنهم حددوا فيها الشارع الذي كان يعيش فيه ستيل، لكنهم لم يحددوا رقماً معيناً للمنزل الذي عاش فيه.
وقال دوفين، بعد مراجعته المضنية لسجلات وخرائط المدينة خلال القرن التاسع عشر: «كنت قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن الأمر برمّته. ثم لاحظت إعلاناً بإحدى الجرائد من طرف زوجة ستيل».
وكانت ليتيا، زوجة ويليام ستيل، تعمل في حياكة الملابس. وفي إعلان نُشر عام 1851 عن الملابس التي تُصنع على أفضل طريقة من قبل ليتيا ستيل، وصفت بالتحديد أين يمكن للعملاء الوصول إليها في شارع «رونالدسون»، وبالتالي تمكّن جيم دوفين في نهاية المطاف من العثور على المنزل المنشود.
وعلى الرغم من إعادة تصميم المنزل على مر السنين، يقول لوني جي. بانش، مدير متحف «سميثسونيان» الوطني للتاريخ والثقافة الأفريقية - الأميركية: «إن الحس القوي بالارتباط بالماضي الذي ينشأ من موقع تاريخي محدد مثل هذا الموقع يحمل قدراً كبيراً من الأهمية والتقدير».
واليوم، يرتفع المنزل إلى 3 طوابق بواجهة من الطوب ذي اللون البني الفاتح مع الطوب الباهت القديم على الجدران الجانبية من دون نوافذ، وهو المنزل الأول في صف يضم 3 منازل أخرى على طول شارع ضيق. وهناك متجر للأغذية، ومقهى شهير، ومعرضان للأعمال الفنية تنتشر في المنطقة المحيطة التي عاش فيها ستيل ذات يوم، وهو الحي الذي وصفه في 1850 بأنه من الأحياء التي تضم الأميركيين الأفارقة بالدرجة الأولى، باستثناء متاجر الأثاث ومحلات الأجهزة المنزلية ومتاجر الحلوى التي ظهرت في الأعوام الأخيرة. والمرة الأخيرة التي تم فيها ترميم منزل ستيل -الذي يقع في شارع «رونالدسون» الذي يحمل الآن اسم شارع «ساوث دلهي»– كانت في عام 1920، وفقاً للسجلات المدنية، عندما حل الطوب ذي اللون البني محل الطوب القديم ذي اللون الأحمر.
لكن الدرجات الرخامية الأمامية في المنزل، كما يقول أوسكار بيسيرت، أحد المحافظين على التراث الذي كان أول من نظّم فريق العمل لتعقب موقع منزل ستيل، يبدو أنها الدرجات الأصلية للمنزل القديم.
وقال بيسيرت لصحيفة «واشنطن بوست»: «عندما ينظر الناس إلى هذه الدرجات الرخامية، فإنهم يرون الدرجات التي كان يقف عليها العبيد الهاربون عندما كانوا ينقرون على الباب محاولين الدخول».
وفي عام 1872، نشر ستيل المئات من قصص أولئك الهاربين في كتاب من تأليفه حمل عنوان «ذي أندرغراوند ريلرود»، وهو من بين أكثر الروايات الشخصية الأصلية الشاملة لشبكة «ذي أندرغراوند ريلرود» وأعمالها الحقيقية في مساعدة العبيد.
ويحتوي الكتاب، الذي يقع في أكثر من 840 صفحة، على قصة جين جونسون وكيف، حال محاولة ستيل وويليامسون تهريبها من على متن السفينة البخارية، جاءت جين للشهادة أمام المحكمة -التصرف الذي كان من النوادر في ذلك الوقت- بأنها كانت راغبة تماماً في الفرار بطفليها والسعي لنيل حريتها، الأمر الذي سمح في خاتمة المطاف ببراءة ستيل. ويضم الكتاب قصص العبيد الذين فروا من أسيادهم عن طريق تعبئة أنفسهم في صناديق خشبية صغيرة، ثم شحنهم على متن السفن البخارية على طول ساحل فيلادلفيا. وكتب ستيل أيضاً قصص العبيد الذين اختبأوا في أحد الكهوف لعدة أشهر بعد فرارهم من السجن وتعرضهم لإطلاق النار عليهم من جانب صائدي العبيد الفارّين في أثناء ركضهم عبر مجاهل الغابات، وكذلك قصة ذلك العبد الذي وصل إلى ستيل بناءً على التماس خاصّ من هارييت توبمان بعد دخوله السجن 10 سنوات كاملة بتهمة حيازة نسخة من رواية «كوخ العم توم» المناهضة للعبودية والرق في الولايات المتحدة. كما أنه كتب قصة ذلك العبد الذي، كما اكتشف ستيل لاحقاً، أنه هو شقيقه المفقود منذ زمن طويل!
وعلى الرغم من أن ستيل قد نشأ نشأة حرة في إحدى مزارع نيوجيرسي باعتباره الأصغر بين 18 طفلاً، كان لديه شقيقان لم يعرف عنهما أي شيء إلا من خلال القصص. ورغم أن والده قد سعى لسنوات طويلة لدفع ثمن حريته، اضطرت والدة ستيل إلى الفرار، مرتين. وفي المرة الثانية، واجهت أقسى الخيارات في حياتها قاطبة: كان لديها 4 أطفال (ابنتان صغيرتان وابنان كبيران هما بيتر وليفين) ولم تكن تستطيع اصطحابهم كلهم معها في رحلة الهروب.
وكتب جيمس بي. بويد، مؤلف السيرة الذاتية لستيل واصفاً قصة هروب والدته عام 1872: «وجاءت الليلة العصيبة، التي عصفت بالأعصاب الراسخة في تلك اللحظة المهيبة، إذ سارعت إلى سرير القش الذي كان ينام عليه أطفالها الأربعة، وطبعت قبلة الوداع على جبين ولديها من دون أن توقظهما من نومهما. واحتضنت طفلتيها بذراعيها القويتين الصارمتين، وودّعت أمها الوداع الأخير، وألقت بكل حمولها على ربها، وبدأت من جديد رحلة المسير العسير الشاق صوب الحرية».
وقبل أن يبلغ ستيل عامه الثامن عشر، كان قد شرع في مساعدة أحد العبيد الهاربين الذي عُثر عليه في الغابة، واصطحبه عبر الطريق غير الممهدة طيلة 20 ميلاً كاملة ليصل به في نهاية الرحلة إلى الأمان، بعيداً عن عيون وأيادي أسياده.
وبعد مرور 10 سنوات كاملة، وبعد الانتقال إلى فيلادلفيا، كان ستيل قد نال وظيفة موظف في جمعية مكافحة الرق في فيلادلفيا، بغية الإشراف على أعمال وجهود شبكة «ذي أندرغراوند ريلرود». وبعد مرور ما يقرب من عام في وظيفته، يتمكن أخيراً من التقاء شقيقه بيتر للمرة الأولى في حياتهما.
ففي أحد الأيام حالما كان ستيل منشغلاً للغاية في إعداد العدد الأسبوعي من صحيفته المناهضة للعبودية التي كانت بعنوان «فيلادلفيا فريمان»، دخل إليه أحد معارفه وقدم إليه أحد الأشخاص الغرباء الذي قال إنه تمكّن لتوّه من الفرار من العبودية، ويحاول الآن العثور على والديه. وأدلى أمام ستيل باسميهما، وقصّ عليه نفس القصة التي كان ستيل يرويها بنفسه على مسامع الآخرين على مدى الأعوام الأربعين الماضية.
وكتب ستيل عن ذلك في كتابه قائلاً: «أصابني ما يشبه الرعد الشديد في تلك اللحظة، إن جاز التعبير. وكان يلزمني استدعاء كل قواي العصبية والجسدية لاستيعاب الأمر والسيطرة على نفسي في حضرة ذلك الرجل الغريب، وكنت على قناعة تامة لا يشوبها أي شك هذه المرة بأن محدّثي هو أحد أشقائي المفقودين منذ زمن بعيد».
وصف ستيل الأمر في كتابه بقوله «المصادفة العجيبة»، وهو ما أقنعه في خاتمة المطاف بضرورة الاحتفاظ بسجلات بالغة الدقة عن كل عبد هارب ممن وصلوا إلى باب منزله في فيلادلفيا، على أمل أنه ربما في يوم من الأيام قد تساعد تلك السجلات أفراد عائلة أخرى ضلّ بعضهم طريق بعض منذ سنوات بعيدة. وتلاشت مخاطر الاحتفاظ بمثل هذه السجلات في عصر سن قانون الرقيق الهارب، كما اعتقد ستيل، عند المقارنة بأهمية المحافظة على تلك السجلات لأجل التاريخ.
وقال ستيل في كتابه: «في حين أن جيش مناهضي الرق، الصغير في عدده الكبير في جهده، كان يشن المعركة تلو الأخرى على العبودية في سبيل الحرية، وقبل اندلاع التمرد الكبير، لم تكن هناك من جهود توقد نيران الحماس في قلوبهم أكثر من بطولات العبيد الهاربين. ويمكن استشعار نبض قلوب 4 ملايين من العبيد ورغبتهم المتّقدة في نيل حريتهم عبر قراءة سجل (ذي أندرغراوند ريلرود) بأكثر من متابعة أي مصدر آخر لأخبارهم».
فهذه الحقائق لا بد أن تبقى حية في الأذهان وماثلة للعيان على الدوام.
- خدمة: واشنطن بوست
خاص بـ «الشرق الأوسط»



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».