استغراب وشكوك حول مستقبل «داعش»

وسط تفاوت التقديرات حول الأعداد الحقيقية لمسلحيه

الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)
الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)
TT

استغراب وشكوك حول مستقبل «داعش»

الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)
الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)

في الخامس من شهر فبراير (شباط) الماضي، بدأت الولايات المتحدة انسحابًا جزئياً من العراق إثر إعلان بغداد في 9 ديسمبر (كانون الأول) النصر على تنظيم «داعش» الإرهابي المتطرف. ولكن على الرغم من مقتل الآلاف من عناصر التنظيم خلال المعارك في العراق وسوريا، أبدت مصادر مطلعة استغرابها إزاء التناقض بين التقديرات التي جرى تداولها بشأن عدد مقاتلي «داعش»، وبين انتشارهم الفعلي خلال المعارك، مع شكوك حول اختفاء عدد كبير منهم.
منذ ظهور تنظيم «داعش» في يوليو (تموز) 2014، تفاوتت التقديرات بشكل كبير حول عدد المقاتلين في صفوف التنظيم الإرهابي. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، قدّرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركي (سي آي إيه)، أن لدى المجموعة ما بين 20 و31 ألف مقاتل في العراق وسوريا. وفي الشهر نفسه، أعلن مدير مكتب الزعيم الكردي مسعود بارزاني، في مقابلة مع صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أن تقديرات «سي آي إيه» كانت منخفضة جداً، وأن تنظيم «داعش» يضم نحو 200 ألف مقاتل على الأقل. ولكن في ديسمبر (كانون الأول) 2014، صرّح رئيس هيئة الأركان العامة الروسية الجنرال فاليري جيراسيموف بأن روسيا تقدّر عدد «داعش» بـ70 ألف مقاتل من مختلف الجنسيات. ثم في يوليو من العام الماضي، صرّح اللواء عبد الأمير يار الله بأن أكثر من 25 ألفاً من مقاتلي التنظيم قضوا خلال معركة استمرت 9 أشهر في مدينة الموصل. وفي الشهر نفسه، تباهى الجنرال ريموند توماس، قائد قيادة العمليات الخاصة الأميركية، بأن الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة ضد «داعش» أسفر عن مقتل ما بين 60 و70 ألفاً من المسلحين.
في المقابل نفى مكتب «قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب التابع لمكتب الشؤون العامة» (CJT - PAO) خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط»، نشره أي إحصائيات تتعلق بعدد قتلى «داعش»، مضيفاً: «ما يمكن قوله هو أن الغالبية العظمى من الإرهابيين الذين قاتلوا في وقت ما تحت راية (داعش) باتوا اليوم في عداد المتوفين أو هم في الأسر». وأكد أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة تمكّن من استعادة أكثر من 107 آلاف و300 كيلومتر مربع، أي ما يعادل 98٪ من الأراضي التي كانت تحت قبضة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا مثل الموصل والحويجة والقائم وتلعفر في العراق، والباب في سوريا، من بين العديد من الأراضي الأخرى.
مع ذلك، عند مقارنة التقديرات الأولية الصادرة عن مختلف المرجعيات الدولية والإقليمية بتلك التي أثيرت خلال المعارك، يلاحظ المرء تناقضاً واضحاً في ما بينها. فعلى سبيل المثال، ذكرت شبكة «سي إن إن» التلفزيونية الأميركية، أنه في بداية الهجوم، كان يعتقد أن نحو 3500 إلى 5000 من مقاتلي «داعش» كانوا في الموصل، وفقاً لمسؤولين عسكريين أميركيين. في حين تحدث أنصار «داعش» عن نحو 7000 مقاتل. وأوردت صحيفة «الإندبندت» نقلاً عن إحصاءات أجرتها مراجع أميركية أن مقاتلي «داعش» في الرقة تتراوح أعدادهم بين 3 و4 آلاف مقاتل. أما في الحويجة فلقد أقر مقاتلو «داعش» العام الماضي بوجود بضع مئات من المقاتلين في المدينة. وقال مدير منظمة «العدالة من أجل الحياة» جلال حمد، لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء: إن «أعضاء (داعش) لم يتعدوا 5 آلاف عنصر حين كانوا يسيطرون على محافظة دير الزور». بالإضافة إلى ذلك، أبدى العديد من المصادر التي تمت مقابلتها في المناطق التي كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة «داعش» في العراق وسوريا، شكوكها في صحة الأرقام الرسمية المتداولة، متسائلة عن أماكن وجود هذا العدد الكبير من العناصر، إن صحت هذه التقديرات.
من الواضح إذن، أن تقديرات أعداد الإرهابيين جرى تضخيمها بمقدار كبير جداً، وفي هذا الصدد يقول حمد إنه «من الطبيعي أن تأتي أعداد أعضاء (داعش) المتداولة مبالغاً فيها نتيجة المعلومات غير الدقيقة والحملات الدعائية التي قامت بها المنظمة واستراتيجيتها التي اعتمدت على نقل مقاتليها من منطقة إلى أخرى، ما جعلها تبدو أكبر مما هي عليه فعلياً». وأيضاً يشير الخبير العراقي هشام الهاشمي إلى أن العدد الفعلي لمقاتلي تنظيم «داعش» بلغ 36 ألفاً توزّعوا بين سوريا والعراق، معتبراً أنه «لو أخذنا في الاعتبار المناصرين الذين اكتفوا بالتأييد والأعضاء المنخرطين فعلياً في التنظيم، فإن هذا العدد يمكن أن يرتفع إلى 120 ألفاً».
على الرغم من هذه التناقضات، يعتقد الهاشمي أن بنية التنظيم الإرهابي تضعضعت بشكل كبير مع قائد التنظيم أبو بكر البغدادي، القائد الوحيد الذي يبدو أنه نجا من أصل 43 قائداً سبقوه. فوفقاً للهاشمي يبدو وضع التنظيم اليوم أشبه بـ«حكومة ظل» مع بضعة آلاف من المقاتلين المنتشرين بين العراق وسوريا. وقدرت صحيفة «المصدر» مؤخراً أن في سوريا وحدها ما بين 8 و10 آلاف مقاتل من «داعش»، ولو أن القسم الأكبر من نشاط التنظيم يبقى متمركزاً في مناطق النزاع في العراق.
المقاتلون هؤلاء، كما يبدو، عادوا إلى أساليبهم القديمة في التمرد. إذ عمدت قناة «تليغرام» التابعة لـ«داعش» إلى توزيع معلومات جديدة عن الهجمات التي وقعت أخيراً في كل من العراق وسوريا، بعد فترة من الصمت. وأورد العدد الأخير من نشرة «النبأ»، الصادرة باللغة العربية والتابعة للتنظيم، عدة هجمات في سوريا والعراق. وذكرت المنظمة الإرهابية أنها شنت هجوماً في دمشق على القوات الموالية لنظام الرئيس بشار الأسد، وهذا الخبر أكده الموقع الإلكتروني المؤيد للنظام «المصدر». وتحدثت نشرة «النبأ» أيضاً عن هجمات لـ«داعش» شرق البلاد في منطقة البوكمال جنوب شرق سوريا.
أيضاً، وفقاً لنشرة «النبأ» قام «داعش» بتفجير 18 عبوة ناسفة في كركوك، ونفّذ 8 عمليات اغتيال ضد القوات العراقية، وشن أكثر من 18 هجومًا على المنطقة وهجومًا انتحاريًا واحدًا. وأدى كمين لـ«داعش» في الحويجة إلى مقتل 27 من عناصر وحدات «الحشد الشعبي» العراقي. كما قام التنظيم بضرب القوات العراقية في الموصل وديالى ونجح في اغتيال أحد أعضاء «الحشد الشعبي» في قلب بغداد.
أما الموضوع الآخر الذي يشغل بال الخبراء الدوليين هو مصير المقاتلين الأجانب الذي قدّر عددهم بـ30 ألف مقاتل. وهنا يقول الهاشمي إن الأجانب في التنظيم لم يكونوا بالضرورة مقاتلين، باستثناء الليبيين والعناصر من القوقاز، بل إن غالبيتهم كانوا يتولون الشق الإداري مثل بعض السعوديين الذين اهتموا بقسم الشريعة وبعض الأوروبيين الذين توجهوا أكثر إلى تقديم الدعم الفني وتولوا قسم الأبحاث الكيميائية. وبالتالي، فإن الفرع المسؤول عن التخطيط للهجمات في الخارج لم يتأثر كثيراً بالخسائر التي مني بها التنظيم، وفق الخبير العراقي «بالنسبة إلى فرنسا مثلاً، تشير التقديرات إلى أن نحو 2000 شخص انضموا إلى (داعش) طوال مدة 5 سنوات، من ضمنهم نساء وأطفال. وحتى الآن، عاد منهم فقط ما يزيد بقليل على 200 شخص (أي نحو 10٪) ويبدو أن مائة آخرين على وشك القيام بذلك، طوعًا أو قسراً».
وفي هذا الصدد، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» يوضح الخبير الفرنسي في شؤون الإرهاب وضابط الاستخبارات السابق آلان شوي، أن «العديد من هؤلاء اعتُبروا في عداد المتوفين أو الفارين، وهذا ينطبق على مواطنين أوروبيين آخرين مثل البلجيكيين والألمان والبريطانيين». وأردف شارحاً: إن «عدد مؤيدي (داعش) في أوروبا قد يكون أعلى من ذلك بكثير، كما أنه من الصعوبة بمكان إحصاؤه وتقديره في حال أردنا احتساب الأشخاص الذين (تعاونوا) بشكل غير مباشر مع التنظيم من دون مغادرة بلدهم من خلال بث الدعاية أو تجنيد العناصر».
وعليه، لا تزال الصورة ضبابية حول قدرات «داعش» وعدده، إلا أنه وعلى الرغم من الخسائر العديدة التي مني بها، فإن الاضطراب المستمر في العراق وسوريا قد يصب في النهاية لصالح التنظيم ويؤدي إلى إعادة ضخ الدم في عروقه.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟