استغراب وشكوك حول مستقبل «داعش»

وسط تفاوت التقديرات حول الأعداد الحقيقية لمسلحيه

الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)
الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)
TT

استغراب وشكوك حول مستقبل «داعش»

الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)
الخراب والدمار في المدن السورية والعراقية التي حل التنظيم فيها (غيتي)

في الخامس من شهر فبراير (شباط) الماضي، بدأت الولايات المتحدة انسحابًا جزئياً من العراق إثر إعلان بغداد في 9 ديسمبر (كانون الأول) النصر على تنظيم «داعش» الإرهابي المتطرف. ولكن على الرغم من مقتل الآلاف من عناصر التنظيم خلال المعارك في العراق وسوريا، أبدت مصادر مطلعة استغرابها إزاء التناقض بين التقديرات التي جرى تداولها بشأن عدد مقاتلي «داعش»، وبين انتشارهم الفعلي خلال المعارك، مع شكوك حول اختفاء عدد كبير منهم.
منذ ظهور تنظيم «داعش» في يوليو (تموز) 2014، تفاوتت التقديرات بشكل كبير حول عدد المقاتلين في صفوف التنظيم الإرهابي. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، قدّرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركي (سي آي إيه)، أن لدى المجموعة ما بين 20 و31 ألف مقاتل في العراق وسوريا. وفي الشهر نفسه، أعلن مدير مكتب الزعيم الكردي مسعود بارزاني، في مقابلة مع صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أن تقديرات «سي آي إيه» كانت منخفضة جداً، وأن تنظيم «داعش» يضم نحو 200 ألف مقاتل على الأقل. ولكن في ديسمبر (كانون الأول) 2014، صرّح رئيس هيئة الأركان العامة الروسية الجنرال فاليري جيراسيموف بأن روسيا تقدّر عدد «داعش» بـ70 ألف مقاتل من مختلف الجنسيات. ثم في يوليو من العام الماضي، صرّح اللواء عبد الأمير يار الله بأن أكثر من 25 ألفاً من مقاتلي التنظيم قضوا خلال معركة استمرت 9 أشهر في مدينة الموصل. وفي الشهر نفسه، تباهى الجنرال ريموند توماس، قائد قيادة العمليات الخاصة الأميركية، بأن الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة ضد «داعش» أسفر عن مقتل ما بين 60 و70 ألفاً من المسلحين.
في المقابل نفى مكتب «قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب التابع لمكتب الشؤون العامة» (CJT - PAO) خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط»، نشره أي إحصائيات تتعلق بعدد قتلى «داعش»، مضيفاً: «ما يمكن قوله هو أن الغالبية العظمى من الإرهابيين الذين قاتلوا في وقت ما تحت راية (داعش) باتوا اليوم في عداد المتوفين أو هم في الأسر». وأكد أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة تمكّن من استعادة أكثر من 107 آلاف و300 كيلومتر مربع، أي ما يعادل 98٪ من الأراضي التي كانت تحت قبضة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا مثل الموصل والحويجة والقائم وتلعفر في العراق، والباب في سوريا، من بين العديد من الأراضي الأخرى.
مع ذلك، عند مقارنة التقديرات الأولية الصادرة عن مختلف المرجعيات الدولية والإقليمية بتلك التي أثيرت خلال المعارك، يلاحظ المرء تناقضاً واضحاً في ما بينها. فعلى سبيل المثال، ذكرت شبكة «سي إن إن» التلفزيونية الأميركية، أنه في بداية الهجوم، كان يعتقد أن نحو 3500 إلى 5000 من مقاتلي «داعش» كانوا في الموصل، وفقاً لمسؤولين عسكريين أميركيين. في حين تحدث أنصار «داعش» عن نحو 7000 مقاتل. وأوردت صحيفة «الإندبندت» نقلاً عن إحصاءات أجرتها مراجع أميركية أن مقاتلي «داعش» في الرقة تتراوح أعدادهم بين 3 و4 آلاف مقاتل. أما في الحويجة فلقد أقر مقاتلو «داعش» العام الماضي بوجود بضع مئات من المقاتلين في المدينة. وقال مدير منظمة «العدالة من أجل الحياة» جلال حمد، لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء: إن «أعضاء (داعش) لم يتعدوا 5 آلاف عنصر حين كانوا يسيطرون على محافظة دير الزور». بالإضافة إلى ذلك، أبدى العديد من المصادر التي تمت مقابلتها في المناطق التي كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة «داعش» في العراق وسوريا، شكوكها في صحة الأرقام الرسمية المتداولة، متسائلة عن أماكن وجود هذا العدد الكبير من العناصر، إن صحت هذه التقديرات.
من الواضح إذن، أن تقديرات أعداد الإرهابيين جرى تضخيمها بمقدار كبير جداً، وفي هذا الصدد يقول حمد إنه «من الطبيعي أن تأتي أعداد أعضاء (داعش) المتداولة مبالغاً فيها نتيجة المعلومات غير الدقيقة والحملات الدعائية التي قامت بها المنظمة واستراتيجيتها التي اعتمدت على نقل مقاتليها من منطقة إلى أخرى، ما جعلها تبدو أكبر مما هي عليه فعلياً». وأيضاً يشير الخبير العراقي هشام الهاشمي إلى أن العدد الفعلي لمقاتلي تنظيم «داعش» بلغ 36 ألفاً توزّعوا بين سوريا والعراق، معتبراً أنه «لو أخذنا في الاعتبار المناصرين الذين اكتفوا بالتأييد والأعضاء المنخرطين فعلياً في التنظيم، فإن هذا العدد يمكن أن يرتفع إلى 120 ألفاً».
على الرغم من هذه التناقضات، يعتقد الهاشمي أن بنية التنظيم الإرهابي تضعضعت بشكل كبير مع قائد التنظيم أبو بكر البغدادي، القائد الوحيد الذي يبدو أنه نجا من أصل 43 قائداً سبقوه. فوفقاً للهاشمي يبدو وضع التنظيم اليوم أشبه بـ«حكومة ظل» مع بضعة آلاف من المقاتلين المنتشرين بين العراق وسوريا. وقدرت صحيفة «المصدر» مؤخراً أن في سوريا وحدها ما بين 8 و10 آلاف مقاتل من «داعش»، ولو أن القسم الأكبر من نشاط التنظيم يبقى متمركزاً في مناطق النزاع في العراق.
المقاتلون هؤلاء، كما يبدو، عادوا إلى أساليبهم القديمة في التمرد. إذ عمدت قناة «تليغرام» التابعة لـ«داعش» إلى توزيع معلومات جديدة عن الهجمات التي وقعت أخيراً في كل من العراق وسوريا، بعد فترة من الصمت. وأورد العدد الأخير من نشرة «النبأ»، الصادرة باللغة العربية والتابعة للتنظيم، عدة هجمات في سوريا والعراق. وذكرت المنظمة الإرهابية أنها شنت هجوماً في دمشق على القوات الموالية لنظام الرئيس بشار الأسد، وهذا الخبر أكده الموقع الإلكتروني المؤيد للنظام «المصدر». وتحدثت نشرة «النبأ» أيضاً عن هجمات لـ«داعش» شرق البلاد في منطقة البوكمال جنوب شرق سوريا.
أيضاً، وفقاً لنشرة «النبأ» قام «داعش» بتفجير 18 عبوة ناسفة في كركوك، ونفّذ 8 عمليات اغتيال ضد القوات العراقية، وشن أكثر من 18 هجومًا على المنطقة وهجومًا انتحاريًا واحدًا. وأدى كمين لـ«داعش» في الحويجة إلى مقتل 27 من عناصر وحدات «الحشد الشعبي» العراقي. كما قام التنظيم بضرب القوات العراقية في الموصل وديالى ونجح في اغتيال أحد أعضاء «الحشد الشعبي» في قلب بغداد.
أما الموضوع الآخر الذي يشغل بال الخبراء الدوليين هو مصير المقاتلين الأجانب الذي قدّر عددهم بـ30 ألف مقاتل. وهنا يقول الهاشمي إن الأجانب في التنظيم لم يكونوا بالضرورة مقاتلين، باستثناء الليبيين والعناصر من القوقاز، بل إن غالبيتهم كانوا يتولون الشق الإداري مثل بعض السعوديين الذين اهتموا بقسم الشريعة وبعض الأوروبيين الذين توجهوا أكثر إلى تقديم الدعم الفني وتولوا قسم الأبحاث الكيميائية. وبالتالي، فإن الفرع المسؤول عن التخطيط للهجمات في الخارج لم يتأثر كثيراً بالخسائر التي مني بها التنظيم، وفق الخبير العراقي «بالنسبة إلى فرنسا مثلاً، تشير التقديرات إلى أن نحو 2000 شخص انضموا إلى (داعش) طوال مدة 5 سنوات، من ضمنهم نساء وأطفال. وحتى الآن، عاد منهم فقط ما يزيد بقليل على 200 شخص (أي نحو 10٪) ويبدو أن مائة آخرين على وشك القيام بذلك، طوعًا أو قسراً».
وفي هذا الصدد، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» يوضح الخبير الفرنسي في شؤون الإرهاب وضابط الاستخبارات السابق آلان شوي، أن «العديد من هؤلاء اعتُبروا في عداد المتوفين أو الفارين، وهذا ينطبق على مواطنين أوروبيين آخرين مثل البلجيكيين والألمان والبريطانيين». وأردف شارحاً: إن «عدد مؤيدي (داعش) في أوروبا قد يكون أعلى من ذلك بكثير، كما أنه من الصعوبة بمكان إحصاؤه وتقديره في حال أردنا احتساب الأشخاص الذين (تعاونوا) بشكل غير مباشر مع التنظيم من دون مغادرة بلدهم من خلال بث الدعاية أو تجنيد العناصر».
وعليه، لا تزال الصورة ضبابية حول قدرات «داعش» وعدده، إلا أنه وعلى الرغم من الخسائر العديدة التي مني بها، فإن الاضطراب المستمر في العراق وسوريا قد يصب في النهاية لصالح التنظيم ويؤدي إلى إعادة ضخ الدم في عروقه.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.