قراءة في هجمات حركة «الشباب» الصومالية

عملية عسكرية واسعة لمواجهة التحركات المتنامية لجماعات التطرف

لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)
لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)
TT

قراءة في هجمات حركة «الشباب» الصومالية

لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)
لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)

نجحت حركة الشباب الصومالية، مع بداية 2018 في الظهور بمظهر القوة الإرهابية التي يصعب كسرها. فقد عادت هجمات هذا التنظيم لتمس مساحة واسعة من البلاد، وتخلف عشرات الضحايا من المدنيين والأمنيين والعسكريين. كما نجحت معركتها المستمرة في مقديشو، في إظهار ضعف الحكومة الجديدة في السيطرة الفعلية على أجزاء مهمة من العاصمة.
وكرد فعل على هذه العودة العنيفة، التي استهدفت كذلك قوات الاتحاد الأفريقي، تقود الحكومة المركزية وشريف حسن شيخ آدم رئيس ولاية جنوب غربي الصومال، وقيادات عسكرية من الجيش الصومالي، وبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال مباحثات لإطلاق عملية عسكرية واسعة لمواجهة التحركات المتنامية لحركة الشباب؛ وتهم هذه العملية على الخصوص تأمين الطريق الذي تستعمله القوات الأفريقية، ويربط بين العاصمة مقديشو ومدينة بيدو الاستراتيجية بمحافظة باي، وصولا لمقر ولاية جنوب غربي الصومال. وتأتي هذه المباحثات للقيام بعملية موسعة ضد حركة الشباب، في الوقت الذي يفترض فيه تطبيق قرار الأمم المتحدة الخاص بانسحاب القوات الأفريقية (أميصوم) المتمركزة بالصومال، والتي تضم 22 ألف عسكري. وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر في فبراير (شباط) 2007 قرارا رقم 1744 / 2007 أكد فيه دعمه لبيان الاتحاد الأفريقي الصادر بتاريخ 19 يناير (كانون الثاني) 2007، والذي تقرر بموجبه إرسال قوات عسكرية أفريقية إلى الصومال تعوض القوات الإثيوبية؛ وأنيط بالقوة الأفريقية مهمة رئيسية، هي مواجهة حركة الشباب ودعم مؤسسات الدولة.
- الهجمات الجديدة
شنت حركة الشباب بزعامة أحمد ديري أبو عبيدة، في فبراير ومارس من سنة 2018 عدة هجمات عنيفة على المدنيين، ومؤسسات الدولة وشخصياتها السياسية والأمنية والعسكرية، كما أوقعت عدة خسائر في الأرواح والعتاد في صفوف القوات الأفريقية. وتشير واحدة من أحدث الدراسات البحثية الأميركية، التي نشرها الباحثان بالمؤسسة، جيسن وارنر وإيلين شابن عن مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت، أن تنظيم «الشباب»، شن منذ 18 سبتمبر (أيلول) 2006، إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2017، على الأقل 155 عملية انتحارية نفذها 216 من أعضاء التنظيم. بمعدل 4 عمليات في الشهر. وسيرا على هذا النهج نفذ التنظيم الإرهابي هجوما وحشيا بعمليتين انتحاريتين يوم 24 فبراير 2018 وأسفر عن سقوط 38 قتيلا.
وقد استهدف التفجير الأول نقطة مراقبة قرب مقر الحكومة، بينما استهدف تفجير ثان فندق «دوربين». وتجدر الإشارة أن تنظيم «أحمد ديري أبو عبيدة» استعمل في هذا الهجوم الأسلوب نفسه الذي نفذ به أكبر هجوم في تاريخ الصومال والذي شنته حركة الشباب في 14 أكتوبر 2017م بشاحنة مفخخة، وأسفر عن مقتل نحو 512 شخصا.
وفي أحدث العمليات الإرهابية، أدى انفجار لغم في سيارة للوزير عبد القادر عبد الرحمن، يوم 7 مارس (آذار) 2018، قرب قاعدة «بلي دوغلي» الجوية في محافظة شبيلي السفلى بولاية جنوب غربي الصومال؛ إلى مقتل وزير الدولة في وزارة الأمن بولاية جنوب غربي الصومال، عبد القادر عبد الرحمن والنائب في البرلمان المحلي لولاية هيرشبيلي أحمد عبدي فارح. ولم تستبعد الجهات الرسمية وقوف حركة الشباب خلف العملية.
وفيما يخص المواجهات اليومية بين مسلحي التنظيم الإرهابي، وقوات الاتحاد الأفريقي؛ شن «الشباب» في الأسبوع الأخير من شهر فبراير 2018، هجوما على وحدة عسكرية من الاتحاد الأفريقي متمركزة قرب مدينة بلعد على بعد 30 كلم شمال العاصمة مقديشو، وقتل 5 جنود برونديين واستولى على بعض أسلحة الوحدة العسكرية.
وفي سعي حركة الشباب لتقويض جهود أحد قادتها السابقين؛ أهدر التنظيم في النصف الثاني من فبراير 2018 دم المتحدث السابق باسمها ونائب زعيمها، مختار روبو أبو منصور، واعتبره مرتدا ومناصرا للكفار، وتوعده بالقتل؛ وكان أبو منصور قد انشق عن الشباب منذ 2013، انضم إلى صفوف الحكومة في أغسطس (آب) 2017.
وأشارت إذاعة محلية بمقديشو إلى أن روبو يزور في الأسبوع الثاني من مارس 2018 العاصمة الكينية نيروبي، للتنسيق والتباحث مع ضباط أميركيين في شأن بدء عمليات عسكرية تهدف إلى طرد حركة الشباب من ولاية جنوب غربي الصومال التي تسيطر عليها. ويحاول روبو أن يلعب دورا محوريا في هذه المواجهة المرتقبة، لعاملين أساسيين: أولهما كونه ابن الولاية ويعرفها جيدا، وثانيا للدور الذي يقوم به شقيقه على رأس جهاز المخابرات في ولاية جنوب غربي الصومال.
وفي إشارة دالة على ضعف القوات العسكرية المواجهة لتنظيم «الشباب»، كشفت مصادر محلية صومالية النقاب يوم 6 فبراير 2018 عن وصول أحمد ديري زعيم تنظيم «الشباب» المتطرف، إلى إقليم جدو بولاية جوبا لاند جنوبي الصومال. وهو ما يؤكد أن التنظيم قادر على التحرك في مناطق شاسعة، من الدولة، دون أن تتمكن لا الحكومة، ولا القوات الأفريقية «أميصوم»، من عرقلة ذلك التحرك.
- الخلافات والفساد
ويبدو أن عودة «حركة الشباب الصومالية»، تساهم فيه عدة عوامل داخلية سياسية. ومن ذلك على وجه الخصوص استمرار الخلافات بين الحكومة المركزية والولايات من جهة؛ وبين بعض الشخصيات السياسية، والأجهزة الأمنية من جهة أخرى. ورغم أن الصومال لا يزال دولة «فاشلة»، بمؤسسات هشة، فإن الخلافات والفساد المستشري في الإدارة تعمقان من الأزمة الأمنية، ويحولان دون تحقيق الاستقرار ومواجهة الإرهاب.
وفي آخر فصول هذه الخلافات بعثت لجنة الإشراف على تعديل وتطبيق الدستور في البرلمان الفيدرالي الصومالي بتاريخ 6 مارس الحالي رسالة سحب الثقة عن وزير الدستور في الحكومة الفيدرالية عبد الرحمن حوش جبريل؛ إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ورئاسة مجلسي الشعب والشيوخ للبرلمان. متهمة حوشي جبريل بعرقلة مسار تعديل الدستور، وعمل اللجنة الممثلة للولايات، وهو ما دفع اللجنة إلى اعتباره شخصا غير مرغوب فيه. وفي سياق آخر، ظهرت خلافات سياسية بين مكتب حسن علي خيري رئيس الوزراء الصومالي، وثابت عبده محمد الذي يشغل محافظ محافظة بنادر عمدة بلدية مقديشو، ولم يتم تجاوزها لحد الآن. وتشير عدة تقارير إلى أن هذه الخلافات تغذيها، الخلافات القبلية، والسياسية، كما تؤججها التدخلات الإقليمية والدولية في الشؤون الداخلية الصومالية. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد حاول تطويق الخلافات بين المركز والولايات؛ ودعم المؤتمر التشاوري لرؤساء الولايات المنعقد في الثامن من أكتوبر بمدينة كسمايو العاصمة المؤقتة لولاية جوبالاند والذي خرج بقرار تشكيل مجلس تعاون الولايات؛ وفيه نُصبَّ عبد الولي محمد علي غاس رئيس ولاية بونتلاند رئيسا للمجلس، وعين محمد عبد وارى رئيس ولاية هير شبيلي نائبا له. وسجل البيان الختامي للمؤتمر أن مهمة المجلس المشكل هي العمل على تطوير مصالح الولايات وإجراء مصالحة مجتمعية بين الصوماليين، تقود البلاد لاستقرار سياسي دائم.
ويبدو أن هذا المؤتمر حسن من العلاقات الرابطة بين الولايات والسلطة المركزية؛ وشارك رؤساء الولايات في المؤتمر التشاوري الثاني، في مقديشو نهاية أكتوبر من عام 2017، بدعوة من الرئيس فرماجو. وفيه تم الاتفاق على ضرورة التوحد لمواجهة إرهاب «حركة الشباب»، واستمرار الجهود التشاركية لتعديل الدستور، ودمج القوات العسكرية في جيش وطني.
ورغم كل هذا فإن الولايات المتحدة التي تمول أيضا القوة الأفريقية المؤلفة من 22 ألف عسكري، شعرت بخيبة أمل من عجز الحكومات المتعاقبة عن بناء جيش وطني قادر على البقاء. ووفقا لمراسلات خاصة بين الحكومتين الأميركية والصومالية اطلعت عليها «رويترز» ونشرت مضمونها بتاريخ ديسمبر (كانون الأول) 2017؛ فقد جاء قرار التعليق الأميركي للمساعدات، بعد امتناع الجيش الصومالي أكثر من مرة عن تقديم بيانات بالأغذية والوقود.
وتجدر الإشارة إلى أن أميركا أنفقت على الصومال، نحو 66 مليون دولار ما بين 2010 - 2017، واضطرت لتعليق الإنفاق عدة مرات لثبوت عمليات فساد. ومن ذلك ما تشير إليه إحدى الوثائق الصومالية الخاصة بالجيش. حيث تشير الوثيقة أن أعضاء فرقة موسيقية عسكرية من 259 فردا يحصلون على رواتب مخصصة لجنود يقاتلون الإرهابيين. كما كشف النقاب عن تزوير السجلات الرسمية للجيش الذي يتألف رسميا من 26 ألف شخص، غير أن سجل منح الرواتب ممتلئ بالأسماء الوهمية لجنود، غير مجودين فعليا، ومتعاقدين وهميين، وموتى قد تكون أسرهم تحصل على رواتب. وكان فريق يضم مسؤولين أميركيين وصوماليين قد زار تسع قواعد عسكرية في شهري مايو ويونيو (حزيران)، قصد تتبع الإعانات الغذائية للجيش الصومالي؛ واكتشف الفريق التلاعب بتلك المساعدات، وكتب تقريرا يظهر الجيش الصومالي باعتباره جيشا منغمسا في الفساد وعاجزا عن توفير الغذاء والأجور والسلاح لوحداته المقاتلة في الميدان.
- خلاصة
لا شك أن الانسحاب التدريجي المقرر للقوات الأفريقية، سيزيد من متاعب الصومال في وقت تعود فيه حركة الشباب وهجماتها الإرهابية للواجهة. فمن المقرر أن تنهي بعثة الاتحاد الأفريقي المكونة من عسكريين من جيبوتي وبوروندي وكينيا وإثيوبيا وأوغندا عملياتها في البلاد بحلول 2020. ومن المرتقب كذلك أن تغادر أول دفعة من نحو ألف جندي أفريقي الصومال قبل نهاية 2018م.
وفي السياق نفسه جاءت مبادرة برلين بسحب المدربين العسكريين المتمركزين في الصومال بحلول أواخر مارس 2018؛ وقد تزيد هذه الخطوات من متاعب الصومال في مواجهة حركة إرهابية، عرفت كيف تتكيف مع ظروف الحرب داخل المدن، وفي المناطق الريفية الشاسعة التي تسيطر عليها، وتستخدمها قاعدة لهجماتها المتنوعة. ورغم أن الولايات المتحدة الأميركية رفعت مع بداية 2018، بشكل كبير من عدد أفراد وحداتها الخاصة المنتشرة في الصومال، لتصل 500 جندي؛ فإن استراتيجية اعتماد عدد صغير من عناصر القوات الخاصة أظهرت عجزها على مواجهة تنظيم حركة الشباب الإرهابية وتصطدم هذه الاستراتيجية، بواقع تستفيد فيه التنظيمات المتطرفة من تشابك الوضع القبلي والسياسي، وغياب جيش وطني منسجم، ومجهز وقادر على توفير الضروريات لأفراده.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية
جامعة محمد الخامس الرباط


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.