قراءة في هجمات حركة «الشباب» الصومالية

عملية عسكرية واسعة لمواجهة التحركات المتنامية لجماعات التطرف

لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)
لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)
TT

قراءة في هجمات حركة «الشباب» الصومالية

لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)
لقطة من شريط نشرته مواقع متطرفة للهجوم على قوات أميركية في النيجر (أ.ف.ب)

نجحت حركة الشباب الصومالية، مع بداية 2018 في الظهور بمظهر القوة الإرهابية التي يصعب كسرها. فقد عادت هجمات هذا التنظيم لتمس مساحة واسعة من البلاد، وتخلف عشرات الضحايا من المدنيين والأمنيين والعسكريين. كما نجحت معركتها المستمرة في مقديشو، في إظهار ضعف الحكومة الجديدة في السيطرة الفعلية على أجزاء مهمة من العاصمة.
وكرد فعل على هذه العودة العنيفة، التي استهدفت كذلك قوات الاتحاد الأفريقي، تقود الحكومة المركزية وشريف حسن شيخ آدم رئيس ولاية جنوب غربي الصومال، وقيادات عسكرية من الجيش الصومالي، وبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال مباحثات لإطلاق عملية عسكرية واسعة لمواجهة التحركات المتنامية لحركة الشباب؛ وتهم هذه العملية على الخصوص تأمين الطريق الذي تستعمله القوات الأفريقية، ويربط بين العاصمة مقديشو ومدينة بيدو الاستراتيجية بمحافظة باي، وصولا لمقر ولاية جنوب غربي الصومال. وتأتي هذه المباحثات للقيام بعملية موسعة ضد حركة الشباب، في الوقت الذي يفترض فيه تطبيق قرار الأمم المتحدة الخاص بانسحاب القوات الأفريقية (أميصوم) المتمركزة بالصومال، والتي تضم 22 ألف عسكري. وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر في فبراير (شباط) 2007 قرارا رقم 1744 / 2007 أكد فيه دعمه لبيان الاتحاد الأفريقي الصادر بتاريخ 19 يناير (كانون الثاني) 2007، والذي تقرر بموجبه إرسال قوات عسكرية أفريقية إلى الصومال تعوض القوات الإثيوبية؛ وأنيط بالقوة الأفريقية مهمة رئيسية، هي مواجهة حركة الشباب ودعم مؤسسات الدولة.
- الهجمات الجديدة
شنت حركة الشباب بزعامة أحمد ديري أبو عبيدة، في فبراير ومارس من سنة 2018 عدة هجمات عنيفة على المدنيين، ومؤسسات الدولة وشخصياتها السياسية والأمنية والعسكرية، كما أوقعت عدة خسائر في الأرواح والعتاد في صفوف القوات الأفريقية. وتشير واحدة من أحدث الدراسات البحثية الأميركية، التي نشرها الباحثان بالمؤسسة، جيسن وارنر وإيلين شابن عن مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت، أن تنظيم «الشباب»، شن منذ 18 سبتمبر (أيلول) 2006، إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2017، على الأقل 155 عملية انتحارية نفذها 216 من أعضاء التنظيم. بمعدل 4 عمليات في الشهر. وسيرا على هذا النهج نفذ التنظيم الإرهابي هجوما وحشيا بعمليتين انتحاريتين يوم 24 فبراير 2018 وأسفر عن سقوط 38 قتيلا.
وقد استهدف التفجير الأول نقطة مراقبة قرب مقر الحكومة، بينما استهدف تفجير ثان فندق «دوربين». وتجدر الإشارة أن تنظيم «أحمد ديري أبو عبيدة» استعمل في هذا الهجوم الأسلوب نفسه الذي نفذ به أكبر هجوم في تاريخ الصومال والذي شنته حركة الشباب في 14 أكتوبر 2017م بشاحنة مفخخة، وأسفر عن مقتل نحو 512 شخصا.
وفي أحدث العمليات الإرهابية، أدى انفجار لغم في سيارة للوزير عبد القادر عبد الرحمن، يوم 7 مارس (آذار) 2018، قرب قاعدة «بلي دوغلي» الجوية في محافظة شبيلي السفلى بولاية جنوب غربي الصومال؛ إلى مقتل وزير الدولة في وزارة الأمن بولاية جنوب غربي الصومال، عبد القادر عبد الرحمن والنائب في البرلمان المحلي لولاية هيرشبيلي أحمد عبدي فارح. ولم تستبعد الجهات الرسمية وقوف حركة الشباب خلف العملية.
وفيما يخص المواجهات اليومية بين مسلحي التنظيم الإرهابي، وقوات الاتحاد الأفريقي؛ شن «الشباب» في الأسبوع الأخير من شهر فبراير 2018، هجوما على وحدة عسكرية من الاتحاد الأفريقي متمركزة قرب مدينة بلعد على بعد 30 كلم شمال العاصمة مقديشو، وقتل 5 جنود برونديين واستولى على بعض أسلحة الوحدة العسكرية.
وفي سعي حركة الشباب لتقويض جهود أحد قادتها السابقين؛ أهدر التنظيم في النصف الثاني من فبراير 2018 دم المتحدث السابق باسمها ونائب زعيمها، مختار روبو أبو منصور، واعتبره مرتدا ومناصرا للكفار، وتوعده بالقتل؛ وكان أبو منصور قد انشق عن الشباب منذ 2013، انضم إلى صفوف الحكومة في أغسطس (آب) 2017.
وأشارت إذاعة محلية بمقديشو إلى أن روبو يزور في الأسبوع الثاني من مارس 2018 العاصمة الكينية نيروبي، للتنسيق والتباحث مع ضباط أميركيين في شأن بدء عمليات عسكرية تهدف إلى طرد حركة الشباب من ولاية جنوب غربي الصومال التي تسيطر عليها. ويحاول روبو أن يلعب دورا محوريا في هذه المواجهة المرتقبة، لعاملين أساسيين: أولهما كونه ابن الولاية ويعرفها جيدا، وثانيا للدور الذي يقوم به شقيقه على رأس جهاز المخابرات في ولاية جنوب غربي الصومال.
وفي إشارة دالة على ضعف القوات العسكرية المواجهة لتنظيم «الشباب»، كشفت مصادر محلية صومالية النقاب يوم 6 فبراير 2018 عن وصول أحمد ديري زعيم تنظيم «الشباب» المتطرف، إلى إقليم جدو بولاية جوبا لاند جنوبي الصومال. وهو ما يؤكد أن التنظيم قادر على التحرك في مناطق شاسعة، من الدولة، دون أن تتمكن لا الحكومة، ولا القوات الأفريقية «أميصوم»، من عرقلة ذلك التحرك.
- الخلافات والفساد
ويبدو أن عودة «حركة الشباب الصومالية»، تساهم فيه عدة عوامل داخلية سياسية. ومن ذلك على وجه الخصوص استمرار الخلافات بين الحكومة المركزية والولايات من جهة؛ وبين بعض الشخصيات السياسية، والأجهزة الأمنية من جهة أخرى. ورغم أن الصومال لا يزال دولة «فاشلة»، بمؤسسات هشة، فإن الخلافات والفساد المستشري في الإدارة تعمقان من الأزمة الأمنية، ويحولان دون تحقيق الاستقرار ومواجهة الإرهاب.
وفي آخر فصول هذه الخلافات بعثت لجنة الإشراف على تعديل وتطبيق الدستور في البرلمان الفيدرالي الصومالي بتاريخ 6 مارس الحالي رسالة سحب الثقة عن وزير الدستور في الحكومة الفيدرالية عبد الرحمن حوش جبريل؛ إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ورئاسة مجلسي الشعب والشيوخ للبرلمان. متهمة حوشي جبريل بعرقلة مسار تعديل الدستور، وعمل اللجنة الممثلة للولايات، وهو ما دفع اللجنة إلى اعتباره شخصا غير مرغوب فيه. وفي سياق آخر، ظهرت خلافات سياسية بين مكتب حسن علي خيري رئيس الوزراء الصومالي، وثابت عبده محمد الذي يشغل محافظ محافظة بنادر عمدة بلدية مقديشو، ولم يتم تجاوزها لحد الآن. وتشير عدة تقارير إلى أن هذه الخلافات تغذيها، الخلافات القبلية، والسياسية، كما تؤججها التدخلات الإقليمية والدولية في الشؤون الداخلية الصومالية. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الجديد حاول تطويق الخلافات بين المركز والولايات؛ ودعم المؤتمر التشاوري لرؤساء الولايات المنعقد في الثامن من أكتوبر بمدينة كسمايو العاصمة المؤقتة لولاية جوبالاند والذي خرج بقرار تشكيل مجلس تعاون الولايات؛ وفيه نُصبَّ عبد الولي محمد علي غاس رئيس ولاية بونتلاند رئيسا للمجلس، وعين محمد عبد وارى رئيس ولاية هير شبيلي نائبا له. وسجل البيان الختامي للمؤتمر أن مهمة المجلس المشكل هي العمل على تطوير مصالح الولايات وإجراء مصالحة مجتمعية بين الصوماليين، تقود البلاد لاستقرار سياسي دائم.
ويبدو أن هذا المؤتمر حسن من العلاقات الرابطة بين الولايات والسلطة المركزية؛ وشارك رؤساء الولايات في المؤتمر التشاوري الثاني، في مقديشو نهاية أكتوبر من عام 2017، بدعوة من الرئيس فرماجو. وفيه تم الاتفاق على ضرورة التوحد لمواجهة إرهاب «حركة الشباب»، واستمرار الجهود التشاركية لتعديل الدستور، ودمج القوات العسكرية في جيش وطني.
ورغم كل هذا فإن الولايات المتحدة التي تمول أيضا القوة الأفريقية المؤلفة من 22 ألف عسكري، شعرت بخيبة أمل من عجز الحكومات المتعاقبة عن بناء جيش وطني قادر على البقاء. ووفقا لمراسلات خاصة بين الحكومتين الأميركية والصومالية اطلعت عليها «رويترز» ونشرت مضمونها بتاريخ ديسمبر (كانون الأول) 2017؛ فقد جاء قرار التعليق الأميركي للمساعدات، بعد امتناع الجيش الصومالي أكثر من مرة عن تقديم بيانات بالأغذية والوقود.
وتجدر الإشارة إلى أن أميركا أنفقت على الصومال، نحو 66 مليون دولار ما بين 2010 - 2017، واضطرت لتعليق الإنفاق عدة مرات لثبوت عمليات فساد. ومن ذلك ما تشير إليه إحدى الوثائق الصومالية الخاصة بالجيش. حيث تشير الوثيقة أن أعضاء فرقة موسيقية عسكرية من 259 فردا يحصلون على رواتب مخصصة لجنود يقاتلون الإرهابيين. كما كشف النقاب عن تزوير السجلات الرسمية للجيش الذي يتألف رسميا من 26 ألف شخص، غير أن سجل منح الرواتب ممتلئ بالأسماء الوهمية لجنود، غير مجودين فعليا، ومتعاقدين وهميين، وموتى قد تكون أسرهم تحصل على رواتب. وكان فريق يضم مسؤولين أميركيين وصوماليين قد زار تسع قواعد عسكرية في شهري مايو ويونيو (حزيران)، قصد تتبع الإعانات الغذائية للجيش الصومالي؛ واكتشف الفريق التلاعب بتلك المساعدات، وكتب تقريرا يظهر الجيش الصومالي باعتباره جيشا منغمسا في الفساد وعاجزا عن توفير الغذاء والأجور والسلاح لوحداته المقاتلة في الميدان.
- خلاصة
لا شك أن الانسحاب التدريجي المقرر للقوات الأفريقية، سيزيد من متاعب الصومال في وقت تعود فيه حركة الشباب وهجماتها الإرهابية للواجهة. فمن المقرر أن تنهي بعثة الاتحاد الأفريقي المكونة من عسكريين من جيبوتي وبوروندي وكينيا وإثيوبيا وأوغندا عملياتها في البلاد بحلول 2020. ومن المرتقب كذلك أن تغادر أول دفعة من نحو ألف جندي أفريقي الصومال قبل نهاية 2018م.
وفي السياق نفسه جاءت مبادرة برلين بسحب المدربين العسكريين المتمركزين في الصومال بحلول أواخر مارس 2018؛ وقد تزيد هذه الخطوات من متاعب الصومال في مواجهة حركة إرهابية، عرفت كيف تتكيف مع ظروف الحرب داخل المدن، وفي المناطق الريفية الشاسعة التي تسيطر عليها، وتستخدمها قاعدة لهجماتها المتنوعة. ورغم أن الولايات المتحدة الأميركية رفعت مع بداية 2018، بشكل كبير من عدد أفراد وحداتها الخاصة المنتشرة في الصومال، لتصل 500 جندي؛ فإن استراتيجية اعتماد عدد صغير من عناصر القوات الخاصة أظهرت عجزها على مواجهة تنظيم حركة الشباب الإرهابية وتصطدم هذه الاستراتيجية، بواقع تستفيد فيه التنظيمات المتطرفة من تشابك الوضع القبلي والسياسي، وغياب جيش وطني منسجم، ومجهز وقادر على توفير الضروريات لأفراده.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية
جامعة محمد الخامس الرباط


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».