الاندماج الاجتماعي... استراتيجية واشنطن لمكافحة «التطرف الديني العنيف»

يشمل برامج تعليمية ومبادرات أهلية

منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
TT

الاندماج الاجتماعي... استراتيجية واشنطن لمكافحة «التطرف الديني العنيف»

منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)

لا يبدو تجول طفل بثياب صومالية تقليدية في «مول أوف أميركا» بمدينة مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا الأميركية، نافراً بالنسبة لهذه الولاية، حيث يعيش عشرات الآلاف من المهاجرين من الصومال. فقد تجاوز أميركيون كُثُر هنا عقدة الخوف من الآخر، والمسلم تحديداً. كذلك يحاول المهاجرون تخطي الشعور بالاختلاف عن الأميركيين، ذلك أن البرامج التي وضعتها الهيئات الحكومية، مستهدفة إصلاح البيئة الاجتماعية بمفهومي التربية وتعزيز الاندماج، بدأت تؤهل الطرفين لتخطي الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول دون الانخراط الاجتماعي، وهو ما انعكس على تثبيت الأمن، وسهل عمل الحكومة الأميركية لمكافحة «التشدد العنيف».
بخلاف كثير من الولايات الأميركية التي تحدث الإعلام عن أنها شهدت تأزماً في العلاقة بين المهاجرين والسكان المحليين، لا يظهر هذا التأزم في مينيابوليس، عاصمة ولاية مينيسوتا، حيث يمكن أن يطالعك مسؤول محلي بـ«الاعتذار» عن إساءات تعرض لها مهاجرون، بينما في مدينة دنفر، عاصمة ولاية كولورادو، ثبت أميركي على مدخل منزله لافتة يتوجه فيها لجيرانه المهاجرين من العراق والمكسيك: «لا يهم من أين أتيتم... نحن سعداء كونكم جيراننا».
وفي الواقع، لم تعتمد الولايات المتحدة المقاربة الأمنية بشكل أساسي لمواجهة التطرف على أراضيها، خلافاً لاستراتيجية التدخل في الخارج عبر جهود «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب»، العامل في العراق وسوريا، إذ تتبع الحكومة برنامج «مكافحة التطرف العنيف»، المقصود به «الجهود المحلية في الولايات المتحدة لمنع تجنيد التنظيمات الراديكالية للأفراد للقيام بالعنف».
وتعتمد البرامج على استراتيجية «الاندماج الاجتماعي»، إذ تعمل على الإحاطة بملفات المشتبه بتشددهم، عبر مقاربات اجتماعية، أهمها التربية واستخدام الضغوط العائلية والصداقات في البيئة التي يتحدرون منها، وكذلك المقاربة الاقتصادية لناحية توفير ظروف العمل، فضلاً عن المقاربة الإعلامية لمكافحة الدعاية والمعلومات الخاطئة التي تبثها التنظيمات الإرهابية في العالم والدول الأجنبية.
ولعل اجتماع المقاربات الثلاث، وتكافلها في جهود متحدة، نجح إلى حد بعيد في إبعاد الجانحين إلى التطرف عن جبهات القتال، وعن الانزلاق إلى أعمال إرهابية في الداخل. وتثبت الأرقام نجاح هذه الاستراتيجية، إذ لا يتجاوز عدد الأميركيين الذين ارتادوا جبهات القتال في سوريا والعراق والصومال إلى جانب تنظيمات متشددة، العشرات.
- تدريب ضد التطرف
لا يخفي الأميركيون أن عدداً من الأفراد، من المواطنين والمقيمين، انخرط في نشاطات التطرف العنيف، واستلهموها من تنظيم القاعدة وآيديولوجيته. وقد وجدوا من المهم جداً أن تتدرب هيئات إنفاذ القانون على فهم وملاحقة السلوك الإجرامي الذي تحفزه الآيديولوجيا، والعمل مع المجتمعات المحلية والهيئات الرسمية لمكافحة التطرف العنيف في الداخل. وعليه، أنشأت وزارة الداخلية، بالشراكة مع مركز مكافحة التطرف الوطني، «مجموعة عمل أمني» لحشد أفضل التجارب للتدريب على مكافحة التطرف العنيف. وجهزت المجموعة دليلاً يستفيد منه مسؤولو هيئات إنفاذ القانون، وعلى مستوى فيدرالي ومستوى الولايات، أولئك العاملون على مكافحة التطرف العنيف، لتعزيز ثقافة التوعية والتدريب على مكافحة التطرف.
والواقع أنه قبل عام 2016، لم يكن هناك تركيز مركزي على جهود مكافحة التشدد العنيف بأسلوب الإحاطة الاجتماعية. فالاستراتيجية كانت تعتمد على جهود غير مركزية. وبعدما باتت استراتيجية عامة، ضمن سياسات عامة في البلاد، جرى تنظيمها بهدف تعزيز التوعية، بالنظر إلى أهميتها على المستوى الاجتماعي. وتقوم الاستراتيجية على 3 ركائز لمقاربة هذا الملف في داخل الولايات المتحدة: أولها تمكين المجتمع، وتعريفهم بطريقة توجيهه بغرض «مكافحة التطرف العنيف»؛ وثانيها توجيه الرسائل التي تحيط بالأسباب والموجهين لهذا السلوك العنيف، والتركيز على النظام في الولايات المتحدة ومقاربة الحكومة لمكافحة التطرف، فضلاً عن الإحاطة بالمفهوم العام لهذه الاستراتيجية.
- شركاء محليون
ولا تتسم الاستراتيجية بمفهوم ثابت، كونها تعتمد على متغيرات مرتبطة بالمجتمع وطبيعته، والبلد الذي تنطلق منه. ويؤكد المنخرطون في هذه الاستراتيجية أنها منفصلة عن الجهود المرتبطة بـ«إنفاذ القانون». ففي الولايات المتحدة، ثمة أشخاص يظهرون اهتماماً بإعادة تأهيل الجانحين للتطرف، ومنع هؤلاء من الانخراط في أعمال مشبوهة، بما يتخطى اللجوء إلى الشرطة فوراً. ويؤسس النموذج القائم لشراكة اجتماعية تساهم إلى حد كبير في قيام حواجز ضمن البيئة الاجتماعية لمنع الانجراف إلى التطرف. ووضعت عدة خطوات ونشاطات تستطيع أن تساعد في تنفيذ تلك البرامج، مثل انخراط الفئات الاجتماعية بها، كل في مدينته وبيئته. وتتم العملية وفق آليات التوعية الاجتماعية، والتمارين لتحييد الجانحين عن الانخراط في النشاطات المشبوهة، إضافة إلى ندوات، يكون القائمون عليها من قادة الرأي، كرجال الدين والمدرسين والأكاديميين والعاملين في الحقل الاجتماعي. وتتم آليات التدريب على الاستجواب لمعرفة علامات التشدد، وماذا يشاهدون، والعملية التي يمكن اتباعها، بالنظر إلى أن المشتبه بهم هم حالات حقيقية موجودة في المجتمع.
- جهود إعادة الدمج
ويمثل التدخل الاجتماعي على خط التوعية، وإعادة التوجيه والتأهيل، الحلقة الأولى والأهم في برنامج مكافحة التطرف العنيف. وقد نجحت إلى حد كبير لجهة إعادة دمج الأفراد الجانحين للتشدد في المجتمع. ولم يسجل خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 100 فرد، استدعت حالاتهم تدخل الشرطة، وهم اليوم في السجون الفيدرالية، ليس بتهم الانزلاق لأعمال إرهابية، بل بتهم متعلقة بتوفير دعم مادي للإرهابيين، وتمويل أعمال مفترضة.
ويقول العاملون في هذا القطاع إن الهدف حماية المسلمين الأميركيين من التأثيرات الخارجية المشجعة للتطرف، بموازاة حماية الحقوق المدنية وحرية الرأي والاعتقاد المكفولة في القانون الأميركي، مؤكدين أن «هناك رغبة عامة اجتماعية بالالتحاق بتلك البرامج، وهي أولوية بالنسبة لنا»، ويشددون على أن «تحقيق الأمن الداخلي يبدأ من الداخل، من المجتمع». وعليه، بدأت عملية بناء الحلول الاجتماعية.
ويؤكد المطلعون على هذه الاستراتيجيات أن العائلات تضطلع بأدوار مهمة جداً في إحباط محاولات الأفراد للانخراط في التنظيمات الإرهابية، فضلاً عن أن مهمة مكافحة الإرهاب تعتمد على الانخراط والتواصل الذي أوصل الرسائل التي تؤكد أن الرقابة تركز على تصرفات الأفراد، ولا تستهدف الإسلام أو المسلمين الذي يشعرون بحرية تامة في ممارسة شعائرهم الدينية، بالنظر إلى أن حرية المعتقد يكفلها الدستور، فضلاً عن أن فرص تواصلهم مع المؤسسات الحكومية متاحة. فهيئات إنفاذ القانون تربطها علاقة مع المجتمع، كذلك المنظمات الحكومية التي تعمل على المجتمعات مع مراعاة خصوصياتها، ويجري التواصل في إطار «انخراط اجتماعي». والمقصود في العملية الأخيرة هو الجهود لانخراط المهاجرين واللاجئين في المجتمع. ويقول المعنيون إن الحكومات الأميركية المتعاقبة «أثبتت فعالية في توفير انخراط فعال للأفراد في المجتمع، وتأمين كل ما يحتاجونه بهدف إنجاح المهمة»، مشددين على أنها «عملية مستمرة». وينفي هؤلاء في الوقت نفسه أن تكون قد طرأت أي تغييرات على تلك الجهود بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى الرئاسة.
- مبادرات اجتماعية
وثمة كثير من المبادرات التي يقودها متطوعون من الأكاديميين والعاملين في الحقل الاجتماعي لإعادة تأهيل ذوي الميول المتشددة. وفي واشنطن، هناك مبادرة تعمل في سياق التكافل الاجتماعي لتعزيز الاندماج، بينها مبادرة لإعادة تأهيل الحياة بعد السجن. ويقول العاملون في هذا الميدان إن 8 من أصل 10 حالات أعيد تأهيلها بنجاح. وفي ما يخص الذين ارتكبوا جرائم على خلفيات آيديولوجية، يؤكد المتطوعون أن الحكومة تكفل حرية التعبير، ولا تصنف هؤلاء على أنهم ارتكبوا جرائم بسبب قناعات آيديولوجية. ويجري التأهيل بالاعتماد على القوة الاجتماعية، وتمكين المجتمعات المحلية لمكافحة هذا النمط من التفكير الآيديولوجي.
وفي إطار الرغبة في بناء نموذج تعليمي يحمي من التشدد، نظم فريق من الطلاب حملات إلكترونية في موقع «فيسبوك» لأسابيع، يظهر المقاربة الأميركية لجهود مكافحة التطرف، ويؤكد أن الشباب يمكن أن يكون جزءاً من الحل.
وعلى المنوال نفسه، نجحت مبادرات أخرى في مينيابوليس في تحقيق الاندماج، على الرغم من أن تعقيدات تحيط بالمهمة في المدينة التي تضم آلاف المهاجرين، بينهم 250 ألف صومالي تقريباً، ويعاني معظمهم من البطالة والفقر، لكن الارتباط العائلي والاجتماعي للصوماليين سهل كثيراً فرص مكافحة التطرف وفق آليات الضغط الاجتماعي لإبعاد الشباب عن التطرف. ويُعمل أيضاً على تثقيف الأمهات اللواتي يمثلن الحاضنة الأساسية وحاجز الدفاع الأول ضد التشدد عبر التربية في المنزل.
- جهود لتعزيز الحوار
وإلى جانب التعاون الذي ظهر بين هيئات إنفاذ القانون والمجتمع، ظهرت مبادرات تعليمية وتثقيفية، بينها «آفيريدج محمد» Average Mohamed، التي تنطلق في منصات إلكترونية لتعزيز الحوار، وتكريس العلاقات الإنسانية، بمعزل عن العرق والدين. والمبادرة التي أسسها محمد أمين أحمد، المهاجر من الصومال منذ أكثر من 20 سنة، تهدف إلى حث الآباء والأمهات والأطفال ورجال الدين على تعزيز الوسطية والاعتدال، لمكافحة الدعاية والخطاب المتطرف الذي يحاول المتطرفون بثه، كما يكافح خطاب العنصرية والتعصب. ويقول مؤسس الموقع إن رسالته «عالمية»، وينشر الفيديوهات التعليمية التي يشاهدها كثيرون في أوروبا وأفريقيا، ويشير إلى أن العلاج بالفيديوهات «وسيلة ناجعة، وقد أثبتت أن الكثيرين متأثرون بقيم الاعتدال، ويؤيدون نبذ الكراهية، ويدينون التشدد»، مؤكداً أن كثيراً من الجيل الجديد «يتصرفون الآن على أنهم أميركيون، وتحللوا من عصبية الانتماء للصومال».
- مبادرات دعم اقتصادي
تمثل مبادرة Community Service Officer (ضابط خدمة المجتمع) واحدة من جهود أساسية تبذلها مينيابوليس لتحقيق أفضل عملية دمج للمهاجرين، بالنظر إلى أن الولاية تضم عشرات آلاف المهاجرين الصوماليين الذين وصلوا خلال 3 موجات من الهجرة منذ مطلع التسعينات. وهي مبادرة مدعومة رسمياً لتوظيف المدنيين في المؤسسات الرسمية، بينها مؤسسات إنفاذ القانون، وتهدف إلى تعزيز الكفاءة الأهلية للقيادة. وتوفر المبادرة مساعدة ليدخل المنتسبون إلى الشرطة أيضاً، وتقدم تسهيلات ودعم وتأهيل لتحقيق خطوات الدمج، وقد نجحت في مراحلها الأولى في إدخال عدد كبير من الأميركيين من أصول أفريقية وآسيوية إلى الشرطة، بينهم ضباط، والتحق نحو 25 ألفاً بالقوى العسكرية والمدنية التابعة للحكومة.
والبرنامج جزء من عدة برامج لتحقيق الاندماج، اقتصادية واجتماعية، إذ وفرت الحكومة الفيدرالية تمويلاً لبرامج متصلة بالشباب في المجتمع الصومالي، الذي لا يزال يحتاج إلى كثير لجهة الدعم بالتعليم واللغة، وينطلق من قناعة بأن «قوة الولايات المتحدة بالمؤسسات الدستورية والتعليمية».
وفيما يبدو اللاجئون متشابهين هنا لناحية ظروفهم المادية ومعاناتهم من الفقر والبطالة والصعوبات التي يواجهونها على صعيد اللغة، تساعد المجتمعات الأهلية الحكومة على الدعم لتحقيق الاندماج. ويؤكد المعنيون في تلك البرامج أن اتصال المهاجرين بالوظائف، كما ارتباطهم بالعائلة، يقلل من فرص محاولات تجنيدهم، وهو ما نجحت المدينة به وتجاوزت تداعيات العزلة والتجنيد في صفوف الجماعات الإرهابية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.