بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

المركز التجاري الأول في ليبيا ومقر الشركات النفطية الكبرى تعيش شللا شبه كامل

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب
TT

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

«هذه ليست بنغازي التي نعرفها.. تحولت رغم أنفها إلى مدينة كبيرة للإرهاب.. لم نخرج من أجل هذا على نظام (العقيد الراحل معمر) القذافي، نحن موجودون هنا ونرى الطرفين ولا نرى أي حسم على المدى القريب لأي طرف». هكذا وصف فرج، أحد سكان تلك المدينة القابعة في شرق ليبيا، ما يحدث هناك، مفضلا عدم ذكر بقية اسمه خوفا على حياته.
الحديث هنا عن بنغازي، تلك المدينة الساحلية التي عصف بها القتال وأصيبت الحياة العامة فيها، وهي قاعدة لشركات نفطية، بجمود شبه كامل، منذ أعلن اللواء السابق بالجيش الليبي خليفة حفتر حربه على المتشددين الإسلاميين.
تعكس هذه المشاهد المتناقضة صورة حقيقية للواقع العسكري والأمني الذي تعيشه بنغازي، ثانية كبريات المدن الليبية ومهد الانتفاضة الشعبية التي دعمها حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011. وبعد مرور بضعة أسابيع على عملية «الكرامة» التي حظيت بزخم إعلامي وتأييد شعبي واسع النطاق خاصة في بنغازي، التي كانت مسرحا لعمليات قتل مستمرة استهدفت ضباط الجيش والشرطة والناشطين السياسيين والإعلاميين، فإن الاستراتيجية التي تتبعها قوات حفتر في قتال المتشددين، تبدو بطيئة نسبية مقارنة بتطلعات رجل الشارع العادي الذي يطمح إلى الخلاص من القبضة الحديدية التي يفرضها جيش مختلط من الإسلاميين المتطرفين على المدينة.

قال أحد الإعلاميين في المدينة لـ«الشرق الأوسط»: «حفتر يريد عزل المتطرفين بالضواحي، خاصة معقلهم الرئيس القوارشة. إنه يسعى للدخول من منطقة سيدي فرج - الهواري لعزل مجموعة («أنصار الشريعة») بمعقلهم الرئيس الذي يتمركزون فيها وبالتالي إبعادهم عن المدينة نفسها والتكفل والتعامل مع أي مجموعات أو خلايا أو جيوب داخل المدينة، خاصة حي الليثي، بمعاونة السكان». وأضاف: «ومن ثم حصار «أنصار الشريعة» بالقوارشة واستنزافهم وربما الضغط عليهم للخروج باتجاه منطقة المقزحة التي تعد منطقة مزارع وشبه جرداء».
ويتضح من خريطة عسكرية اطلعت عليها «الشرق الأوسط» إصرار حفتر على ضرب قصر ولي العهد ومعسكر «17 فبراير» في منطقة قاريونس، وكتيبة راف الله السحاتي حتى آخر منطقة الهواري وتحديدا الدوار الشهير بدوار مصنع الإسمنت للسيطرة على الطريق الحيوي «الهواري- سيدي فرج» الذي يصل لطريق المطار.
يعتقد كثيرون أن هدف حفتر هو عزل مناطق بنغازي المأهولة بالسكان والتي يتحصن فيها المتطرفون، خاصة تنظيم ««أنصار الشريعة»»، علما بأن لدى حفتر موالين وقوات بالمناطق القريبة من القوارشة من ضمنها المقزحة - سلوق وغيرها، التي تشكل بدورها طوقا آخر على القوارشة وصولا للرجمة المتمركز فيها حاليا.
ويبدو من الخريطة أيضا أن حفتر يريد إخراج كتيبة «17 فبراير» من قاريونس والسيطرة على مقر كتيبة «21 صاعقة» من قبل «أنصار الشريعة» للحصول على معسكر حصين وراء الخط وفي عمق بنغازي.
وشنت مقاتلات حفتر عدة هجمات صاروخية على مواقع لتمركز المتطرفين في المدينة في محاولة لإجبارهم على الخروج من مخابئهم القريبة من السكان.
وقال أحد السكان لـ«الشرق الأوسط»: «الآن صاروا خارج بنغازي مع حملة دعاية إعلامية للتأثير على الرأي العام ضدهم على نحو يجعلهم غير مرتاحين ببنغازي، وهذا حدث بالفعل.. هم الآن بكامل عدتهم وعتادهم موجودون في القوارشة، لقد وقعوا في الفخ».
لكن طيران حفتر يصر على قصف المعسكرات ولا يقصف القوارشة، بسبب عدة مخاوف لعل أبرزها أنه سيكون مضطرا للتدمير لكي يصل إلى مرحلة السيطرة كما قال مصدر عسكري لـ«الشرق الأوسط»، مضيفا: «سيواجه قوة كبيرة على الأرض لكي يسيطر. حفتر لن يستطيع السيطرة إلا إذا دخل عنوة للمدينة، وليس له إلا طريق واحد من جهة معسكر الصاعقة وسيواجه في طريقه الليثي، أما بقية المناطق فتتمركز فيها قوات متفرقة».
وتابع: «ببساطة يدمر لكي يسيطر، وأعتقد أنه لا يريد ذلك لأن البنغازية (سكان بنغازي) متقلبو المزاج. سيقاتلونه إن وقع ضحايا وسيخسر الدعم الشعبي والقبلي، وربما هناك اتفاق على ألا يضر المدينة». ومع لجوء حفتر إلى ماكينة الدعاية والحرب الإعلامية لتأجيج الرأي العام ضد خصومه، فإن لديه كما تقول مصادر في بنغازي عدة فرق تعمل داخل المدينة بشكل غير معلن على خطف وقتل كل من له علاقة بالميليشيات و«أنصار الشريعة». وقال ناشط إعلامي رفض تعريف هويته خشية تعرضه للانتقام: «أجل كثيرون اختفوا، وقتل ثلاثة حتى الآن محسوبون على (أنصار الشريعة). لاحظنا اختفاء كثيرين منذ بدء العمليات، خاصة صغار السن. البعض أطلق سراحه». وتابع: «المعلومات الواردة تقول إنهم يقادون إلى سجن قرنادة شرق بنغازي بالجبل الأخضر تحت سيطرة حفتر الذي سبق أن صرح في مؤتمره الأخير أنه سيستخدم أساليب خصومه للقضاء عليهم».
وأضاف: «بالتأكيد لديه قوة كبيرة، والإسلاميون أيضا قوة كبيرة لا يستهان بها، وبالتالي فإن أسلوب حرب العصابات والشوارع ليس في صالح قوات حفتر، لأن الإسلاميين خبراء فيها». وخلصت ناشطة إعلامية في بنغازي إلى القول: «حفتر يفتقد القدرة على حسم المعركة في بنغازي. الأمر صعب للغاية. الجماعات المتطرفة ما زالت داخل المدينة، وبصراحة هم الأقوى، ولا تنسى أن السلاح والمال عندهم».
وبينما تمضي الحياة في بنغازي التي تعيش نكهة الحرب منذ سقوط النظام السابق، فإن التساؤلات حول إمكانية انتقال عملية الكرامة إلى العاصمة الليبية طرابلس تبقى الأهم في ظل احتفاظ ميليشيات إسلامية بكل عتادها وأسلحتها في مواجهة جيش رسمي مفكك وضعيف البنيان.
ثمة صعوبات في أن تكون طرابلس الوجهة المقبلة لقوات حفتر، وكما قال صحافي ليبي في المدينة طلب عدم تعريفه، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب، أهمها تمركز الإرهابيين بين السكان، وضعف العتاد العسكري، فضلا عن الإمدادات التي تصل إلى «أنصار الشريعة» من مصراتة، مشيرا إلى أن تسليح حفتر أقل بكثير من تسليح «أنصار الشريعة». وهنا تروق لكثير من الليبيين فكرة المقارنة بين حفتر والرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، حيث أضاف الصحافي: « لم ينجح السيسي دون دعم شعبي وإعلامي ونخبة تسانده،
وهذا غائب حتى الآن، لأنه ببساطة لا توجد في ليبيا نخبة.. عندنا نكبة، بتذكرة طائرة تشتري أتخن رأس نخبوي» لكن ثمة خلاف حول عملية «الكرامة» حتى داخل من يفترض به أن يؤيدها، لهذا فإن حفتر من وجهة نظر الصحافي نفسه «يسير على حقل ألغام، فما زال هناك خلاف داخل الجيش، وعلى سبيل المثال، فإن آمر قاعدة طبرق مثلا حتى الآن متردد في الانضمام إلى عملية (الكرامة)». وبالإضافة إلى ذلك، فإن قنوات فضائية محلية تتبنى الخط الليبرالي لا تدعم حفتر وإن كانت تدعم فكرة الحرب على الإرهاب.
وهو يعتقد أنه ليست لدى حفتر القدرة على نقل معركته لطرابلس التي تعد عمليا مقسومة إلى جزأين، الشرقية تحت سيطرة «القاعدة» بكل أسمائها، والقاعدة العسكرية تقع تحت قبضتهم وكذلك البحرية، أما الغربية فهي تحت سيطرة الزنتان بتحالفاتها المصلحية المؤقتة جدا وليسوا فريقا واحدا.. ولديهم مشكلات مع الأمازيغ في ظهرهم.. و«القاعدة» في بوسليم أمامهم.
استراتيجيا، قال محلل عسكري ليبي لـ«الشرق الأوسط»: «يدرك حفتر تماما أن الزمان لم يعد الزمان نفسه، وأن تغييرات كثيرة لحقت بقواعد واستراتيجيات العمل العسكري الذي ابتعد عنه لأكثر من 20 سنة كانت كفيلة بتحويل المؤسسة العسكرية الليبية التي كان هو أحد قياداتها يوما من الأيام إلى أنقاض مؤسسة ليختتم مشوار تهالكها بدخولها طرفا في الصراع المسلح الذي صاحب ثورة «17 فبراير» ضد نظام العقيد القذافي. وأضاف: «خرجت المؤسسة العسكرية أو ما تبقى منها من العقود الأربعة بوحدات عسكرية ذات طابع أمني أطلق عليها اسم (الكتائب الأمنية) حلت محل ما كان يفترض أن يكون ركن القوات البرية الذي يرى حفتر أنه الأجدر برئاسته، والأدهى من ذلك أن عددا كبيرا من قادة هذه الوحدات العسكرية جرى اختيارهم لأسباب تتعلق بالولاء الشخصي للعقيد القذافي».ولفت إلى ما جرى عقب ثورة «17 فبراير» وما وصفه بالسيلان الضخم للأسلحة والذخائر والدور الذي لعبته العلاقات الاجتماعية «القبلية» في تنظيم التشكيلات العسكرية والميليشيات وصراعات النفوذ والمصالح القبلية. وأضاف: «حفتر ينتمي إلى قبيلة الفرجان أكبر القبائل الليبية وأحد فروع قبيلة ترهونة، وخلال عقود كان أغلب المجندين في القوات المسلحة الليبية من أبناء هذه القبيلة، وعدد كبير من قيادات الجيش الليبي ينتمون إلى هذه القبيلة». صحيح أن حفتر محسوب على الشرق الليبي. إلا أن قبائل الشرق الليبي الأصيلة أو الأقدم عهدا كالعبيدات والعواقير والمغاربة والبراعصة والتي كانت تمتهن حرفتي الرعي والزراعة وتشتهر تسميتها بـ«البوادي»، ترى أن القبائل الوافدة من الغرب مثل ورفلة والفرجان ومصراتة قد أضرت إلى درجة ما بالمصالح الاقتصادية لهم خاصة مع اكتشاف البترول الذي كان أغلب إنتاجه من الشرق الليبي.
وهكذا، فالمشهد في ليبيا معقد إلى درجة كبيرة، فيوجد تنافس على المناصب العليا في قيادة الجيش الليبي يكاد يكون منحصرا في قبائل بعينها مثل العبيدات الذين ينحدر منهم اللواء الراحل عبد الفتاح يونس وعبد السلام جاد الله الصالحين وسليمان محمود، والفرجان الذين ينحدر منهم الجنرالات عمر الحريري وخليفة حفتر وهؤلاء هم أصحاب الرتب الأعلى في الجيش الليبي.
في المقابل، ينتشر الإسلاميون في أوساط بعينها خاصة في المحسوبين على مدينة مصراتة أو المنتمين لها، ولعل كون أغلب قيادات هذا التيار من هذه المدينة يدلل على ذلك بوضوح، وهو ما قد يكون مبررا بعد أكثر من 500 عملية استهدفت عناصر الجيش الليبي، لأن يسارع من تبقى من قيادات هذه المؤسسة إلى تبني عملية عسكرية مضادة قادها حفتر، إلا أن المعطيات على الأرض تفرض سيناريوهات مختلفة.
وعلى الرغم من أن أصابع الاتهام تشير في كل العمليات التي استهدفت أفراد المؤسسة العسكرية إلى التيار الإسلامي، فإن التصدي لهذا التيار يفرض المواجهة مع حاضنته الشعبية سواء في بنغازي أو في درنة، علما بأن معظم أفرادها من تركيبة قبلية واحدة.
ويقول الخبير العسكري: «هذا لا يعني أن كل القبيلة توافق ضمنا على ما يقوم به بعض من أبنائها أو المحسوبين عليها، لكن هذا واقع الحال، أضف إلى ذلك تمترس قيادات هذا التيار واحتفاظه بكميات هائلة من الأسلحة والذخائر». وتابع: «يدرك حفتر بحكم خبرته العسكرية أن العمل العسكري الذي يقوم به لن يكتب له النجاح ما لم يتمكن من استنزاف كل الذخائر الموجودة في يد تلك الجماعات، لهذا لجأ إلى الحل الأكثر تفوقا، وهو سلاح الطيران».
ومع محدودية عدد الطائرات ومحدودية ذخائرها، نظرا لأن سلاح الطيران كان من الأسلحة التي أهملت في زمن العقيد القذافي، سيكون العمل كما يرى الخبير نفسه محصورا في استهداف مخازن الذخيرة لهذه المجموعات، وهو العمل الذي يستوجب أن يتزامن مع عمل استخباراتي على الأرض لرصد أماكن هذه المخازن وجمع المعلومات ومن ثم القيام بالإغارة عليها.
وخلص إلى أن «هذا الأمر سيؤدي إلى إطالة أمد العمل العسكري، وبالتالي زيادة احتمالات انهيار العملية برمتها، لأن الانتقال إلى مرحلة الصدام على الأرض قد تستلزم زمنا طويلا، وفي الوقت نفسه سيتبعها اندلاع صدام مواز مع الحاضنة الشعبية لكلتا المجموعتين». لكن قد يكون أهم هدف تحقق لعملية «الكرامة» أنها أوقفت الاستهداف اليومي لأفراد الجيش الليبي وإن بشكل مؤقت، فطبقا لما أعلنه بيان رسمي للقيادة العامة لجيش حفتر، فقد تراجعت نسبة اﻻغتياﻻت في بنغازي بنسبة تتجاوز 89 في المائة بعد إعلان الحرب على الجماعات اﻻإرهابية.
وقال دبلوماسي عربي عاد لتوه من بنغازي ضمن بعثة بلاده التي أغلقت مقر قنصليتها في المدينة التي تكاد تخلو حاليا من البعثات الدبلوماسية الأجنبية، لـ«لشرق الأوسط»: «حفتر لوحده لن يقدر على الحسم إلا إذا تدخلت أطراف خارجية لمصلحته، يبدو أن الحسم في ليبيا سيظل بعيد المنال في الوقت القريب». يقول فرج الذي يعكس رأيه رجل الشارع العادي في نبرة تفاؤل: «بعض المحسوبين على التيار الإسلامي المتشدد يريدون تحويل بنغازي إلى مرتع أو مركز للإرهاب، أهل بنغازي طيبون ووسطيون، ولكنهم لن يرضوا أن تتحول مدينتهم إلى هذا أبدا».
وهو يستدل على صحة كلامه بوقوف سكان المدينة مع الجنرال حفتر في مظاهرات علنية وعلى مرأى ومسمع من «أنصار الشريعة» والكتائب، كما أن المدينة قدمت أكثر من مائة شهيد على أسوار تلك الكتائب عندما طالبتها بفك نفسها وتسليم سلاحها للجيش والشرطة، مضيفا بنيرة حاسمة: «بنغازي مدينة مناضلة، وسيأتي الوقت الذي تهدر فيه وتكتسحهم».
وقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات شبه يومية شاركت فيها أحيانا طائرات هليكوبتر وطائرات حربية ولحق خلالها ضرر بمناطق سكنية، فيما أغلقت الجامعات في الأغلب ولزم كثير من السكان منازلهم. وتهدد الفوضى ليبيا مع عجز الحكومة والبرلمان عن السيطرة على الميليشيات ورجال القبائل المسلحين والإسلاميين الذين ساعدوا في الإطاحة بالقذافي عام 2011 لكنهم يتحدون الآن سلطة الدولة.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.