الهند وسياسة التفاعل شرقاً

تتسلل إلى المنطقة مستغلة حالة الشد والجذب بين هانوي وبكين

رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي لدى استقباله الرئيس الفيتنامي  تران داي كوانغ قبل أيام (أ.ف.ب)
رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي لدى استقباله الرئيس الفيتنامي تران داي كوانغ قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

الهند وسياسة التفاعل شرقاً

رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي لدى استقباله الرئيس الفيتنامي  تران داي كوانغ قبل أيام (أ.ف.ب)
رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي لدى استقباله الرئيس الفيتنامي تران داي كوانغ قبل أيام (أ.ف.ب)

نيودلهي لم تعد مترددة بشأن توسيع وجودها في المجال الصيني، وفي إطار توجهاتها لتعزيز سياسة التفاعل شرقا، انضمت الهند مؤخرا إلى فيتنام للاضطلاع بدور أكثر حزما في منطقة المحيط الهادئ. وجاءت الزيارة الأخيرة للرئيس الفيتنامي تران داي كوانغ إلى الهند بمناسبة الذكرى الـ45 للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وذلك بعد شهر من زيارة رئيس الوزراء الفيتنامي نغوين شوان لحضور القمة التذكارية بين الهندية ورابطة «آسيان» والاحتفال بيوم الجمهورية الهندية، انعكاسا واضحا للعلاقات الاستراتيجية المتنامية بين الجانبين. وصرح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي: «إننا سوف نعمل معاً من أجل إقامة منطقة منفتحة ومستقلة ومزدهرة في إقليم الهند - المحيط الهادئ؛ ذلك الذي يحظى بالسيادة الكاملة وحماية القانون الدولي. ولقد اتفقنا على تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف القطاعات مثل الطاقة المتجددة، والزراعة، والمنسوجات، والنفط، والغاز الطبيعي. ولن نعمل على تعزيز علاقاتنا الثنائية طويلة الأمد فحسب، وإنما سوف نعمل كذلك مع البلدان الأخرى بشأن إقامة العلاقات الثلاثية كذلك».
وفي خضم ازدياد النفوذ الصيني في المنطقة، شدد الرئيس الفيتنامي وبقوة على تعميق التواصل البحري الهندي - الفيتنامي في الممرات البحرية ذات الأهمية الاستراتيجية، في الوقت الذي يقوم فيه بزيارة دولة مهمة إلى الهند. واكتسبت دعوته أهمية كبيرة مع دعوة الولايات المتحدة واليابان وأستراليا إلى دور أكبر للهند في منطقة الهند - المحيط الهادئ، ويبدو أن ذلك بهدف احتواء الوجود الصيني في منطقة بحر الصين الجنوبي. ومن المحتمل أن يشارك البلدان مع كثير من الأصدقاء المشتركين مثل الولايات المتحدة واليابان. وبينما تفكر الدول الأربع، بالإضافة إلى الهند، في كيفية إدارة التصاعد الصيني، فقد أسفر ذلك عن حالة من التقارب فيما بينها.
يقول بانكاج جها، أستاذ الدراسات الدفاعية والاستراتيجية في جامعة جيندال العالمية: «يعد الرباعي الدولي المذكور ضمانا ضد أي مغامرات صينية محتملة. وفي ظل وجود اليابان والهند (التي ترتبط هانوي معها بعلاقات قوية) ضمن ذلك الرباعي، فسوف تشارك فيتنام في المناورات البحرية التي تستمر 8 أيام وتستضيفها الهند في المحيط الهندي في الفترة ما بين 6 و23 مارس (آذار) الحالي. ومن الدول المشاركة هناك أستراليا، وماليزيا، في خطوة قد أثارت الحفيظة الصينية بالفعل».
وكان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قد زار فيتنام عام 2016 وهو في طريقه إلى الصين لحضور قمة مجموعة العشرين في بكين، وكانت الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس وزراء هندي منذ 15 عاما. وأشارت زيارة مودي إلى الدعم الهندي لفيتنام في مواجهة الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها من بكين بشأن الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي. وعلى الرغم من تسوية النزاع الحدودي بين البلدين، فإن العلاقات بين فيتنام والصين تتسم بدرجة ملحوظة من التعقيد. وتجدر الإشارة إلى المطالبات الصينية الإقليمية المتداخلة مع بروناي، وماليزيا، والفلبين، وفيتنام، وتايوان في منطقة بحر الصين الجنوبي. بيد أن هانوي كانت الأكثر إثارة للضجيج بشأن مخاوفها من المطالب الصينية المتزايدة إلى جانب تحركاتها في بناء الجزر الصناعية ذات الصبغة العسكرية. وقد أشار الخبراء الاستراتيجيون الهنود ومنذ فترة طويلة إلى إمكانية استفادة نيودلهي من حالة الصراع القائمة بين فيتنام وبكين؛ حيث إن هانوي تحتاج في الوقت نفسه إلى التآزر الهندي لحماية مصالحها. يقول المعلق السياسي الهندي مانوج جوشي: «تتبع فيتنام سياسة التعاون والمواجهة مع الصين، وبالتالي، فإن التواصل الهندي الطموح حيال فيتنام يجب ألا يثير الاستغراب. فلقد شهدت نيودلهي خلال السنوات الأخيرة تحرشات بكين بحدودها. ومن الضروري وفقا لذلك بالنسبة إلى نيودلهي أن تتعامل بالمثل وتتحرش بما كان يُعد تقليديا الفناء الخلفي لبكين، من خلال التفاعل النشط مع الدول الإقليمية التي تتقاسم مع نيودلهي التصورات ذاتها بشأن العدوان الصيني».
وتعد هانوي مهمة لجهود التواصل الإقليمي الهندية في منطقة جنوب شرقي آسيا، بالإضافة إلى خطط نيودلهي لزيادة الاتصالات السياسية مع الدول الأعضاء في رابطة «آسيان». وتعمل الهند على تشييد طريق الهند - ميانمار - تايلاند (ومن المقرر استكمال الأعمال فيها بحلول عام 2019)، ويمكن ربط هذه الطريق بالطرق الأخرى القائمة وصولا إلى فيتنام. وفي بحر الصين الجنوبي ومنطقة شرق المحيط الهادئ، تعمل الهند بصفة تدريجية على التعامل مع فيتنام بمثل الطريقة التي تتعامل بها الصين مع باكستان في جنوب آسيا؛ من واقع أنها «ثقل استراتيجي معتبر». واستراتيجيا؛ ينظر إلى فيتنام على أنها أحد أوثق شركاء الدفاع لدى الهند في منطقة جنوب شرقي آسيا. ومنذ التوقيع على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية في عام 2007 بين البلدين، عملت نيودلهي وبصفة منتظمة على إمداد هانوي بالمساعدات العسكرية، بما في ذلك برامج التدريب للقوات الجوية، والتدريبات البحرية المشتركة، ومناورات حرس السواحل. كما قامت القوات البحرية الهندية أيضا بتدريب أطقم الغواصات الفيتنامية، وتعاونت مع هانوي في مجالات مكافحة الإرهاب، لدرجة المساعدة في مكافحة الجرائم متعددة الجنسية، وتهريب المخدرات في خليج البنغال.
كما وفرت الهند خطأ ائتمانيا إلى فيتنام بقيمة 500 مليون دولار من أجل شراء العتاد الدفاعي للقوات المسلحة الفيتنامية، وقامت أيضا بإعادة تجديد السفن الحربية الفيتنامية من طراز «بيتيا». كذلك، وفي أول صفقة من نوعها، باعت نيودلهي 4 سفن دورية بحرية إلى فيتنام؛ تلك التي من المحتمل أن تستخدم في تعزيز دفاعات البلاد في بحر الصين الجنوبي الغني بالطاقة. ويقدر حجم التبادل التجاري بين الهند وفيتنام بنحو 6.24 مليار دولار في السنة المالية 2016 - 2017. واتفق الجانبان على زيادة التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار بحلول عام 2020. يقول الخبير الاستراتيجي الهندي هاراش بانت: «هناك مصلحة مشتركة بين البلدين في ضمان أمن الممرات البحرية وتبادل الاهتمامات بشأن الوصول الصيني إلى المحيط الهندي وبحر الصيني الجنوبي. ومن هذه النقطة، تساعد الهند فيتنام في بناء قدرات الإصلاح والصيانة في منصاتها الدفاعية».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟