ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

وسط الاقتتال الداخلي والشائعات عن عودة «القاعدة»

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري
TT

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

ارتباك فكري وشرذمة تنظيمية ينهكان فصائل الشمال السوري

يزداد وضع القوة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي الراديكالي المسلح في شمال غربي سوريا تعقيداً. وتشهد مناطق في محافظة إدلب تأجج حدة التوترات، عوضاً عن توحّد الساحة العسكرية بعد هزيمة تنظيم داعش والهجوم الذي تشنه قوات بشار الأسد والميليشيات الداعمة لها على المحافظة ومدينة إدلب عاصمتها الإدارية. إذ اندلعت المواجهات من جديد بين مختلف التنظيمات مع انقسام «هيئة تحرير الشام» إلى فصائل متناحرة لكل منها جدول أعمالها الخاص.
بدأت في الأيام الأخيرة «جبهة تحرير سوريا» هجماتها الواسعة على مقار ومعسكرات «هيئة تحرير الشام»، التي تضم ضمن مَن تضم «جبهة النصرة» سابقاً - المرتبطة بدورها بتنظيم «القاعدة» - إلى الغرب من مدينة حلب، كبرى مدن شمال سوريا. وجاء هذا التطوّر في أعقاب إعلان التشكيل العسكري الجديد المؤلف من «حركة نور الدين زنكي» و«حركة أحرار الشام». وأفاد ناشطون بأن الهجوم سبقته موجة اتهامات متبادلة بشأن عمليات قتل وتصفية.
الشيخ حسن دغيم، الخبير في شؤون الحركات الراديكالية السورية، ذكر أن الحرب بين «حركة نور الدين زنكي» و«هيئة تحرير الشام» كانت قد اندلعت منذ ثلاثة أشهر. وتجدّدت أخيراً الاشتباكات بين «جبهة تحرير سوريا» - التي بات تضم حركتي «زنكي» و«أحرار الشام» - ويقاتل معهم تنظيم «صقور الشام»، ولقد وصلت الاشتباكات حتى إدلب.
ومن ناحية ثانية، يشير الشيخ رامي الدالاتي، وهو أيضاً متخصص في الحركات الراديكالية السورية، إلى «أن الوضع الحالي يشهد صراعاً فصائلياً في محاولة لمناكفة هيئة تحرير الشام من قبل الفصائل التي تعتبر أقل درجة إن صح القول، مثل أحرار الشام. وهذه الأخيرة تسعى للتواصل مع الفصيل المتمرد من الهيئة، ونعني نور الدين زنكي، ولقد شكل الفريقان معا جبهة تحرير سوريا». ويتابع الدالاتي: «الحقيقة أن جبهة تحرير سوريا ليست جبهة مندمجة فعلياً بل هي عبارة عن اتفاقية دفاع مشترك بين الفريقين. فهي شُكلت بدافع التصدي، أو انطلاقاً من شعور خوف متصاعد تجاه هجوم قد تشنه عليها هيئة تحرير الشام».

مخاوف و«مناكفة»؟
ويضيف الدالاتي «أن هيئة تحرير الشام تشعر بخوف حقيقي من تنظيم زنكي الذي يملك بالإضافة إلى القوة العسكرية، ولو المتواضعة، ثقلاً اجتماعياً خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرته مثل غرب حلب، وهي مناطق منظمة بشكل دقيق. وهذا ما يشكل تحديا لهيئة تحرير الشام. وبالتالي، يحاول الزنكي أن يتسبب بمناكفة لهيئة تحرير الشام بغية تفعيل موقعه في العلاقة مع الأتراك، ولكي تتم استشارته في إدخال القوات التركية التي لا تزال حتى الآن تدخل سوريا فقط عن طريق هيئة تحرير الشام».
هذا، وفي سياق الاتهامات المتبادلة، تدّعي «هيئة تحرير الشام» أنها اعتقلت بعض العناصر من «حركة نور الدين زنكي» نفذوا عمليات اغتيال، وهو أمر تنفيه الحركة. كذلك تدعي «الهيئة» أن «زنكي» أدخلت إلى إدلب مجموعة تتألف من 120 شاباً من جيش الثوار الموالي للأكراد في مناطق «جيب» عفرين بهدف اغتيال شخصيات من «الهيئة». وعلى الرغم من أن «حركة نور الدين زنكي» تنكر هذه الادعاءات، «فإن من الصعوبة بمكان أن تتمكن هكذا مجموعة من العبور من عفرين إلى حلب أو إدلب من دون المرور بأراضي زنكي»، كما يقول الشيخ الدالاتي.

وساطات «شرعية»
من جهة ثانية، كان لعدد من المشايخ والدعاة البارزين محاولات كثيرة لإنهاء القتال الدائر بين «هيئة تحرير الشام» و«حركة نور الدين الزنكي» في الشمال السوري المحرَّر. وبحسب «الدرر الشامية»، كتب الداعية عبد الرزاق المهدي في منشور على قناته «تليغرام» تفاصيل ما حدث أثناء لقاء قادة «زنكي» و«الهيئة». ومما جاء في المنشور أنه حضر الجلسات الشيخ عبد الله المحيسني، والشيخ مصلح العلياني، والشيخ أبو محمد الصادق. وأكد المنشور أنه «قياماً بالواجب الشرعي على طلاب العلم والمصلحين، انطلقنا لنستمع للأطراف المتنازعة أي هيئة تحرير الشام وحركة نور الدين الزنكي، وكنا قد اتفقنا أن نسعى لزيارة الطرفين حقناً للدماء وحفظاً للساحة من الضياع».
الجدير بالإشارة، أن الخلاف بين حركة «نور الدين زنكي» و«هيئة تحرير الشام» ليس الخلاف الوحيد الذي تشهده الساحة الراديكالية السورية، وتحديداً في شمال غربي سوريا. ولقد عزا نشطاء ومعارضون الخسائر الملحقة إلى انسحاب مسلحي «الهيئة» من المنطقة وتخليها عنها لصالح نظام الأسد، فوفق الناشط إبراهيم إدلبي: «بدلاً من القتال، سلِّمت هيئة تحرير الشام الأراضي للقوات الموالية لنظام الرئيس (بشار) الأسد». أما الخبير حايد حايد، من مركز تشاتام هاوس البريطاني للأبحاث، فيرى أن «تراجع الهيئة يصب ضمن استراتيجية أوسع لحماية المناطق الواقعة غربي خطة سكة الحديد (سكة حديد حلب - دمشق)، ومن أجل توطيد السلطة في المناطق الأخرى التي تعتبرها أكثر حساسية».
ومن الواضح، أن الخسائر العسكرية ساهمت في تفاقم المشكلات الداخلية ضمن «هيئة تحرير الشام» بعد انفصالها عن تنظيمها الأم - أي تنظيم القاعدة، الذي أعقبه حلقات متتالية من إعادة التسمية ومن اعتقال طال حركيين بارزين في صفوفها. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) أوقفت «الهيئة» بتوقيف الشيخ الدكتور سامي العريدي و«أبو جليبيب الأردني» اللذين كانا من أبرز الشخصيات الحركية في «الهيئة»، قبل أن يجري إطلاقهما لاحقا. وبالإضافة إلى الدكتور سامي العريدي و«أبو جليبيب»، جرى اعتقال أعضاء بارزين آخرين هم «أبو خديجة الأردني» و«أبو مصعب الليبي»، وفق الشيخ حسن دغيم. وجاءت هذه الاعتقالات بعد حملة طويلة من الاغتيالات الغامضة استهدفت أعضاء «هيئة تحرير الشام».

تحوّل براغماتي؟
وفي هذا الصدد يوثق حايد حايد 35 اغتيالاً ضد أعضاء المنظمة، بينما يقول حسن أبو هنية، الخبير في شؤون «القاعدة» إن «هذه الاغتيالات استهدفت أشد المعارضين الذين تصدّوا للتحوّل البراغماتي الذي سعى إليه أبو محمد الجولاني». وللتذكير، فإن «جبهة النصرة» كانت قد أعلنت في يوليو (تموز) 2016 انفصالها عن تنظيمها الأم، أي تنظيم «القاعدة»، وبدأت العمل تحت مسمى «جبهة فتح الشام»، قبل أن تتخذ تسميتها الجديدة في يناير (كانون الثاني) 2017.
أما جهود الجولاني الساعية لإضفاء صبغة براغماتية على «الهيئة» فلم تتوقف عند الانفصال عن تنظيم القاعدة فحسب، بل أدت أيضا إلى تقارب مع تركيا. ففي أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، عبرت قوات الاستطلاع التركية محافظة إدلب ضمن المرحلة الأولى من عملية «تهدئة» الانتشار مع مرافقة وحراسة مسلحة من «هيئة تحرير الشام». وفي فبراير (شباط) الماضي تناقل مؤيدون لـ«الهيئة» شريط فيديو لأحد رجال الدين وهو يشرح قواعد تعاون «الهيئة» مع تركيا، غير أن هذا الفيديو ما لبث أن حُذف.

ارتباك وشرذمة تنظيميين
في أي حال، يمكن القول إن تحوّل «هيئة تحرير الشام» من تنظيم راديكالي متشدّد إلى منظمة براغماتية بعيدة عن «القاعدة»، وتفاوضها مع قوى إقليمية مثل تركيا، أديا إلى شرذمة المشهد في إدلب. ذلك أن عدداً من المجموعات مثل «جند الملاحم» و«جيش البادية» انفصل عن «الهيئة»، ولو أنه «ليس لهذه التنظيمات أي ثقل حقيقي أو قبول اجتماعي، وهي في الحقيقة أقرب لمجموعات القاعدة، من دون أن تكون فعليا من «القاعدة» وفق الشيخ الدالاتي. وحول هذه النقطة، يشرح الشيخ دغيم فيقول إن العريدي و«أبو جليبيب» جدّدا بيعتهم لـ«القاعدة» وسميا جماعتهما بـ«أنصار الفرقان»، أما «شباب جند الأقصى» فسموا أنفسهم «جند الملاحم»، في حين اختار فريق ثالث لا يريد لا الجولاني ولا العريدي أن يسموا أنفسهم «جيش البادية». ومن جانبه، يفيد إدلبي أن جميع هذه المشكلات «أدت إلى تقليص إلى حد كبير قوى هيئة تحرير الشام إلى نحو 5 آلاف مقاتل»، و«هذه المجموعات المنشقة تدين كلها بولائها لتنظيم القاعدة» وفق أبو هنية.

خطر عودة «القاعدة»
عودة إلى الدالاتي، فإنه يقول إن مجموعة «أبو جليبيب الأردني» وسامي العريدي و«أبو القسام الأردني» انشقت وحاولت أن تعيد إنشاء «القاعدة» الأصلي بقيادة «أبو همام السوري» إلا أنها لم توفق بذلك. وكانت «الهيئة» حادة في منع قيام مشروع «القاعدة» مرة أخرى على الأراضي السورية، ولذا اعتقلت «أبو جليبيب» والعريدي وأفهمتهما رسالة حازمة قبل أن تطلق سراحهما. وبالتالي، منع نشوء تنظيم لـ«القاعدة» في الشمال السوري، وأتباع هذين الحركيين رغم أنهم موجدون في الشمال السوري فهم لا يحظون بقبول شعبي كبير، ولا سيما أن أفراد هذه المجموعات انقسموا على أنفسهم بنتيجة تباين مواقف «أبو همام» والعريدي.
إلا أنه ووفقاً لمصادر مطلعة في إدلب، ما زال بإمكان «القاعدة» الاستفادة من الارتباك والشرذمة ومحاولة توحيد هذه الجماعات تحت راية واحدة. ويُعتقَد أن التنظيم الأساسي لـ«القاعدة» أرسل بالفعل أن حمزة، أحد أبناء زعيم «القاعدة» السابق الراحل أسامة بن لادن، إلى سوريا. وثمة من يزعم أنه موجود الآن في درعا، بيد أن أبو هنية وحايد لم يتمكنا من تأكيد الخبر. وفي هذا الصدد، اعتبر أبو هنية «أن حمزة بن لادن مرتبط بإيران والقاعدة في سوريا، ويمكن أن يصبح في نهاية المطاف أداة في يد طهران، وأن يلعب ضد المصالح الأميركية في شمال سوريا». ويعتقد أن حمزة بن لادن عاش وتزوج في إيران قبل أن ينضم إلى والده في أفغانستان ومن ثم يعبر إلى الأراضي السورية مع سيف العدل.
وتعليقا على ذلك، ينفي الشيخ دالاتي تماماً وجود ابن لادن في سوريا، ويعتبر الأمر مجرد شائعة لا أساس لها من الصحة. ومن ثم يشرح «أن المجموعة القاعدية التي انتشرت في سوريا لها علاقة بسيف العدل الموجود في إيران وهي على تواصل واضح معه. أما وجود حمزة بن لادن في سوريا فغير دقيق إطلاقاً».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.