نفذ الجيش اللبناني، في إطار تنفيذ المراحل الأولى من وضع طرابلس بإمرته، لإعادة الهدوء إلى المدينة بعد ثلاثة أيام من الاشتباكات الدامية بين مسلحين من حي باب التبانة وآخرين من حي جبل محسن على خلفية الأزمة السورية، حملة دهم واعتقالات أسفرت عن توقيف 21 شخصا، وسط ترقب وهدوء حذر في المدينة اخترقته عمليات قنص متكررة.
ولم يمر دخول الجيش إلى منطقة باب التبانة، ذات الغالبية السنية، ظهر أمس بسلام، إذ اشتبك مع بعض المسلحين في شارع سوريا الفاصل بينه وبين منطقة جبل محسن العلوية، مما أدى إلى جرح رقيب في الجيش اللبناني. وجاءت الاشتباك على الرغم من التنسيق بين قيادة الجيش ومرجعيات المجموعات المسلحة المنتشرة في المنطقة.
وأكدت مصادر ميدانية عدة لـ«الشرق الأوسط»، أن «التنسيق شمل جميع المجموعات المسلحة في كل الشوارع».
وتطبيقا للخطة الجديدة، سيرت عناصر قوى الأمن الداخلي دوريات راجلة في شوارع المدينة وأقامت حواجز ثابتة عند مفترق الطرق ودققت في هويات المارة والسيارات، في حين أعلنت قيادة الجيش اللبناني، أمس، أنه «بنتيجة التدابير الأمنية التي اتخذتها وحدات الجيش، أوقف 21 شخصا في منطقتي باب التبانة وجبل محسن لارتكابهم جرائم مختلفة منها المشاركة في إطلاق النار. وقد أحالت مديرية المخابرات ثمانية منهم إلى النيابة العامة العسكرية وتستمر التحقيقات مع الموقوفين الآخرين، بينما تتابع وحدات الجيش إجراءاتها الأمنية في المدينة لفرض الأمن وإعادة الوضع إلى طبيعته».
ومع ذلك، بقي رصاص القنص يحصد المارة على الأوتوستراد الرئيس الذي يربط طرابلس بعكار، ووقع الكثير من الجرحى، وظل الطريق مقفلا وخطرا.
واستكمالا للإجراءات الأمنية، ادعى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر على عشرة أشخاص بينهم ثمانية موقوفين بمن فيهم حاتم الجنزرلي وعلى قياديي محاور، عبد الرحمن دياب وعبد الكريم سليمان، وهما فاران بجرم تأليف مجموعات عسكرية ضمن فريقين متنازعين عسكريا وسياسيا «بهدف النيل من سلطة الدولة وهيبتها والتعرض لمؤسساتها وعلى فتح معارك عسكرية بين جبل محسن وباب التبانة وإطلاق وتبادل النار والقصف بالصواريخ وقتل ومحاولة قتل مدنيين وعسكريين وتدمير أملاك عامة وخاصة».
وكان الجيش اللبناني استفاد من الدفع الرسمي والسياسي الذي أعطي له، منذ ليل أول من أمس، حيث شهدت مناطق الاشتباكات معارك بالأسلحة الرشاشة والصاروخية، وأطلق الجيش القنابل المضيئة لتحديد أماكن إطلاق النار والرد عليها، ونفذ عدة مداهمات في جبل محسن كما في مناطق بعيدة عن مناطق الاشتباكات مثل حارة التنك في الميناء، ومنطقة باب الرمل، حيث قبض على أحمد عبد القادر الشامي، الذي وصفه بيان للجيش بأنه «أحد المطلوبين الخطرين».
ولزم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي طرابلس لمواكبة تنفيذ القرارات الجديدة، والتقى عددا من فاعليات باب التبانة. وهي المنطقة التي يبدو أن مسلحيها يشعرون بالريبة، خاصة مع الاستنابات القضائية. إلا أن بعض هؤلاء، قلل في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» من أهميتها وقالوا إن «هدف الاستنابات القضائية الضغط المعنوي فقط، خصوصا أن الواردة أسماؤهم هم أصلا مطلوبون، وليس بينهم من يعد مقاتلا رئيسا». وقال الشيخ وليد طبوش إمام مسجد خالد بن الوليد في التبانة لـ«الشرق الأوسط»: «يبدو أن الاستنابات ستطارد أشخاصا ليسوا رئيسين، ويمكن أن يثير القبض عليهم اضطرابا. فحتى اللحظة الذين عرفنا أسماءهم من جبل محسن وباب التبانة، لربما أنهم أطلقوا النار على أشخاص أو هددوا أحدهم، لكن القبض على رفعت عيد أو والده علي عيد المطلوبين في جبل محسن أو قادة المحاور في باب التبانة، يحتاج إلى غطاء سياسي كبير، وهو ما لم يتوفر حتى اللحظة». ولم يخف البعض إحساسه بأن هذه المرة لن تختلف عن سابقاتها، وأن الجيش يبدأ عادة كل انتشار بقوة، ثم سرعان ما ينخفض الكثير، وتخف القبضة.
وقال مصدر ديني مطلع في طرابلس لـ«الشرق الأوسط»: «لا نعرف ما ستكون عليه النتائج لوضع طرابلس تحت إمرة الجيش، لكن ما هو أكيد أن المسألة ستستغرق وقتا طويلا، وأن هناك خطة موضوعة بتفاصيلها، تعتمد سياسة القضم التدريجي، حتى لو كان بطيئا، للسيطرة على المنطقتين المتقاتلتين معا، وليس صحيحا أن باب التبانة وحدها هي المستهدفة. الخطة بدأت، والأيام المقبلة قد لا تكون سهلة».
في المقابل، لم يتوقع أهالي المدينة الكثير من الإجراءات الأمنية، التي وجدوا فيها تكرارا لما حصل إثر جولات القتال السابقة. «لم يتغير شيء. إنها المرة الثامنة عشرة، ربما، التي ينتشر فيها الجيش في باب التبانة وجبل محسن، ولا تتوقف المعارك»، هذا ما قاله بالأمس، عمار حداد لـ«الشرق الأوسط»، وهو يجلس في محله التجاري، في شارع عزمي، أحد الشوارع الرئيسة في طرابلس، شاكيا قلة الزبائن، بعد يوم واحد على وضع المدينة بإمرة الجيش اللبناني لمدة ستة أشهر.
بعض المواطنين في طرابلس يهزأون من القرار الجديد ويرون أنه ليس جديا. هناك من يسخر ويسأل: «لماذا أعلن في البدء عن جعل طرابلس منطقة عسكرية، ثم صدر نفي ليقال إنها فقط بإمرة الجيش، هذا ضعف وتردد وقلة ثقة بالقرارات». الدكتور زيني، وهو طبيب تقويم، يقول: «هم الآن يعالجون النتائج لا الأسباب مما سيفاقم المشكلات. فهم لا يستطيعون لجم منطقة من دون أن يتمكنوا من كبح أخرى، وهذا ليس حلا». ويشرح الدكتور زيني: «نحن جيل عايش الحرب ونعرف قيمة الجيش، لا بل الجيش عندنا ألف مرة أهم من مسلحين عشوائيين يحيلون حياتنا جحيما، لكننا نريدها دولة عادلة».
لا ينكر عمار حداد «الخشية من بعض مقاتلي باب التبانة أكثر من عناصر جبل محسن، لأنهم يعيشون معنا في المدينة، وما عادت حياتنا آمنة والسرقات كما الاعتداءات تتفاقم، لكن هذا لا يجعلنا نطالب بالاقتصاص من هؤلاء ونترك من يسرحون ويمرحون في جبل محسن من دون قصاص. مشكلتنا أن دولتنا ضعيفة وغير قادرة».
ولا يعترض أهالي المدينة على إمساك الجيش بزمام أمن المدينة، لكن عبارة واحدة تتردد باستمرار بين الأهالي: «نريد من الجيش أن يقضي على (الزعران) كلهم، وليس في باب التبانة فقط»، في إشارة إلى ضرورة القبض على الأمين العام للحزب العربي الديمقراطي في جبل محسن، النائب السابق علي عيد، الذي رفض المثول للتحقيق معه في قضية تفجيرات طرابلس.