قصص كثيرة لا ترى النور... والمعوقات مادية وقانونية

مدير تحقيقات مكتب الصحافة الاستقصائية لـ «الشرق الأوسط» : ليس هناك عصر ذهبي لمهنة المتاعب

من مقر «واشنطن بوست» عام 1971 ولحظة محورية للصحافة الاستقصائية  تجمع الثنائي بن برادلي وكاثرين غراهام اللذين نشرا أوراق البنتاغون (غيتي)
من مقر «واشنطن بوست» عام 1971 ولحظة محورية للصحافة الاستقصائية تجمع الثنائي بن برادلي وكاثرين غراهام اللذين نشرا أوراق البنتاغون (غيتي)
TT

قصص كثيرة لا ترى النور... والمعوقات مادية وقانونية

من مقر «واشنطن بوست» عام 1971 ولحظة محورية للصحافة الاستقصائية  تجمع الثنائي بن برادلي وكاثرين غراهام اللذين نشرا أوراق البنتاغون (غيتي)
من مقر «واشنطن بوست» عام 1971 ولحظة محورية للصحافة الاستقصائية تجمع الثنائي بن برادلي وكاثرين غراهام اللذين نشرا أوراق البنتاغون (غيتي)

يعود بنا فيلم «ذا بوست» إلى الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي. ومن صالة تحرير صحيفة الـ«واشنطن بوست» يحيي توم هانكس وميريل ستريب، أحداث بطولة الثنائي بين برادلي وكاثرين غراهام. مشروع استقصائي ضخم دفع بالصحافيين إلى خوض معركة غير مسبوقة بين الحكومة والسلطة الرابعة لنشر «أوراق البنتاغون» التي كشفت تورط واشنطن في حرب فيتنام، إلى العالم.
شاهد هذا العمل المميز العديد من الزملاء في الأوساط الصحافية والإعلامية. وترك مرارة في فمهم. تحسروا على وضع الصحافة الاستقصائية اليوم، وتمنوا لو أنّهم عايشوا تلك الحقبة الذهبية.
ماريون جونز، الصحافي البريطاني يختلف مع زملاء المهنة في الرأي، قائلاً: «قد يعتقد من شاهد (ذا بوست)، أنّ ذلك العصر كان العصر الذهبي للصحافة، إنّما ليس هناك من عصر ذهبي لهذه المهنة ولا لحظة بطولية واحدة». ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «حتى في تلك الفترة، كان النشر متفاوتا ما بين التحقيقات العظيمة، ومئات الأخبار التي لا داعي لها».
إذن، وفق جونز، فإن الصحافة الاستقصائية لم تمت. بل يرى أيضاً أنّ بعض جوانبها تحسّن اليوم، لسهولة الحصول على المعلومات في عصر الإنترنت. وفي ذلك يقول: «في يومنا هذا، لو كان لدى صحافي شاب قصة جديرة بالنشر، فلدى أبرز المؤسسات الإعلامية القابلية للاستماع إليه. الأمر الذي لم يتسنّ لي عندما كنت صحافياً شابا مهما كانت قصصي مهمة».
جونز صحافي استقصائي متمرّس. تدرج مهنيا في «بي بي سي» منذ تسعينات القرن الماضي. كانت الهيئة شاهدة على نجاحات تحقيقاته الاستقصائية، وإخفاقاته القانونية؛ لكنه قرّر قبل عامين أن ينهي رحلته معها للالتحاق بمكتب الصحافة الاستقصائية في العاصمة البريطانية. التقيته في مقرها اللندني الذي تأسس عام 2010، من قبل نخبة من صحافيي أهم المطبوعات البريطانية. مقابلة قصيرة لضيق وقته وكثرة مهامه، والسّبب صغر كادره (15 صحافيا تقريبا). لكنّني استرقت من خلالها نظرة إلى داخل العمل الاستقصائي «الذهبي».
يرى جونز أنّ عمله مع «بي بي سي» كان مختلفا عن تجربته منذ التحاقه بمكتب الصحافة الاستقصائية. ويقول: «الأمر الرائع في انضمامك إلى مؤسسة إعلامية بضخامة الـ(بي بي سي) هو أنّك تعمل إلى جانب مئات الناس الذين بإمكانك التعاون معهم واستشارتهم وإجراء (عصف ذهني) لبلورة الأفكار والمبادرات والمشاريع». ويضيف: «لكن الأمر السيئ في (بي بي سي) هو أنّ هناك طبقات عديدة من الإدارة والتراتبية التي تقيّد الموظفين، فعلى سبيل المثال أثناء عملي ضمن برنامج (بانوراما) كان هنالك 3 مديرين أعلى رتبة من رئيس تحرير البرنامج، وكانوا يتمتّعون بصلاحية تامة لمراجعة نصوص الحلقات والتعليق عليها. الأمر الذي يعتبر معطلا للعمل». ويستطرد شارحا: «أمّا هنا في هذا المكتب، فلدينا مدير ومجلس إدارة يجتمع نحو كل 6 أسابيع ما يسهل العمل. لكن وللأسف ليست لدينا الموارد التي تمتلكها الـ(بي بي سي)، ولكنّنا ننمو بكادرنا ومواردنا كلما زاد التمويل».
التمويل. مشكلة طالت الصحافة ككل، لكنّ أكبر ضحاياها كانت التحقيقات الاستقصائية. وعن ذلك يقول الصحافي البريطاني: «هذا النوع من الصحافة مكلف، فالعديد من القصص لا ترى النور بعد العمل عليها لأسباب متعددة». ويضيف: «قد يواجه الصحافي مشاكل قانونية أو يصطدم بحائط ويصبح غير قادر على تحصيل الحقائق لإثبات فرضيته، أو قد توقفه المطبوعة أو الشركة الإعلامية التي يعمل لديها لصعوبة القصة وتكلفتها العالية». لهذا السبب، خفضت المنابر الإعلامية والصحف من طواقم الصحافة الاستقصائية بما فيها الـ«بي بي سي»، وفق جونز.
تأسس المكتب في محاولة لإعادة إحياء الصحافة المهنية الحرّة. ويؤكد جونز أنّه من خلال المشاريع المتنوعة التي يعمل عليها المكتب، يهدف إلى كشف سقطات الأنظمة والشركات العالمية. وقد تُعدّ «أوراق حرب العراق» من أبرز إنجازاته التي استطاع جمعها ونشرها فترة تعاونه مع ويكيليكس. وتعتبر أكبر تسريبات لوثائق عسكرية في التاريخ (نحو 400 ألف تقرير)، كشفت عن انتهاكات الجيش الأميركي للمساجين، فيما شملت المشاريع الأخرى تحقيقات في ضربات الطائرات دون طيار (درونز) وحصيلة للضحايا، إلى جانب تحقيق آخر حول الانتهاكات في أفغانستان. ويقول: «استطاعت تحقيقاتنا أن تحتل الصفحات الأولى في الجرائد البريطانية، وقد تصدّرت قصصنا هذه الصفحات ثلاث مرات خلال الأشهر الثلاث الماضية».
ويكشف جونز أنّ المكتب يتعاون مع «غوغل» حالياً، في مبادرة لدعم الصحافيين المحليين عن طريق نشر بيانات ليستفيدوا منها.
وعن تعاون المكتب مع المنابر الإعلامية يقول: «في البدايات كنا نتواصل لنشر تحقيقاتنا في الصحف، لكنّنا الآن في طور التوسع ولدينا علاقات جيدة مع قنوات بريطانية، ونعمل على نحو خمسة مشاريع مرئية، منها فيلم وثائقي». ويضيف: «الصحافة المكتوبة كما عهدناها، لم تعد موجودة في يومنا هذا، وقد يحتل سبق صحافي ما، حيّزاً على الصفحة الأولى، لكن معظم من سيقرأه سيقوم بذلك من خلال الموقع الإلكتروني». ويردف موضحاً: «من فوائد نشر الخبر على الصفحة الأولى، أنّ قنوات مثل (بي بي سي) تغرّد هذه الصفحات لأبرز المطبوعات فتصل إلى ملايين الناس». ويؤكد أنّ «الإعلام الاستقصائي يشهد تغيرات في طريقة تقديمه للناس، ويجب أن يضمّ المحتوى مقاطع فيديو من قلب الحدث مثلا أو تصويرا خفيا مع النص والصور».
لا تزال التحقيقات الصحافية تعتمد على معلومات من المبلغين (whistle blowers). ويقول جونز: «فادنا العديد من المبلغين في خوض تحقيقات مهمة آخرها كان فضيحة استثمارية، لكن الأمر الأهم يبقى حماية هوية المبلغين والحفاظ على ثقتهم».
ولكن ماذا عن المعلومات الكاذبة؟ يرد جونز: «للمكتب إجراءات شديدة لتدقيق الحقائق والمعلومات، إذ تمر التحقيقات التي يُمل عليها، في أصعب آلية للتدقيق، تفاديا لنشر الأكاذيب». ويضيف: «عملت في (بي بي سي) في برنامج نيوز نايت وبانوراما كما عملت مع العديد من الصحف العالمية، إلا أن عملية فحص الحقائق في مكتبنا هي الأكثر اجتهادا من أي مكان آخر».
يطمح جونز خلال السنوات المقبلة إلى أن يشهد المكتب نموا وتطويرا، وأن يتوسع كادره، ولكن ليس بعدد هائل، لكي يستطيع الإبقاء على آلية عمله الحالية. ويقول: «لا أعتقد أنّنا سنصبح اسماً مألوفاً للناس، لكنّنا وصلنا إلى مرحلة أصبحنا معروفين في الأوساط الصحافية ونريد أن يسمع صوتنا صناع القرار».
لمكتب الصحافة الاستقصائية اللندني استعداد للتعاون مع الجميع، ومحتواه متوفر لكل من يريد نشره، حسب جونز. ولكن يستطرد قائلاً: «يهمنا معرفة من يموّل المنابر الإعلامية». ويختتم بقوله: «أهم قواعدنا أنّنا لا نتلّقى الدّعم المالي من أي جهة حكومية، لأن ذلك قد يضر بمهنيتنا ويؤثر على محتوانا».
 


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)
TT

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)

أثارت نتائج دراسة حديثة تساؤلات عدة بشأن دور التلفزيون في استعادة الثقة بالأخبار، وبينما أكد خبراء وجود تراجع للثقة في الإعلام بشكل عام، فإنهم اختلفوا حول الأسباب.

الدراسة، التي نشرها معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام مطلع الشهر الحالي، أشارت إلى أن «الثقة في الأخبار انخفضت بشكل أكبر في البلدان التي انخفضت فيها متابعة الأخبار التلفزيونية، وكذلك في البلدان التي يتجه فيها مزيد من الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار».

لم تتمكَّن الدراسة، التي حلَّلت بيانات في 46 دولة، من تحديد السبب الرئيس في «تراجع الثقة»... وهل كان العزوف عن التلفزيون تحديداً أم الاتجاه إلى منصات التواصل الاجتماعي؟ إلا أنها ذكرت أن «الرابط بين استخدام وسائل الإعلام والثقة واضح، لكن من الصعب استخدام البيانات لتحديد التغييرات التي تحدث أولاً، وهل يؤدي انخفاض الثقة إلى دفع الناس إلى تغيير طريقة استخدامهم لوسائل الإعلام، أم أن تغيير عادات استخدام ومتابعة وسائل الإعلام يؤدي إلى انخفاض الثقة».

ومن ثم، رجّحت الدراسة أن يكون سبب تراجع الثقة «مزيجاً من الاثنين معاً: العزوف عن التلفزيون، والاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي».

مهران كيالي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتفق جزئياً مع نتائج الدراسة، إذ أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «التلفزيون أصبح في ذيل مصادر الأخبار؛ بسبب طول عملية إنتاج الأخبار وتدقيقها، مقارنة بسرعة مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على الوصول إلى شرائح متعددة من المتابعين».

وأضاف أن «عدد المحطات التلفزيونية، مهما ازداد، لا يستطيع منافسة الأعداد الهائلة التي تقوم بصناعة ونشر الأخبار في الفضاء الرقمي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي». إلا أنه شدَّد في الوقت نفسه على أن «الصدقية هي العامل الأساسي الذي يبقي القنوات التلفزيونية على قيد الحياة».

كيالي أعرب عن اعتقاده بأن السبب الرئيس في تراجع الثقة يرجع إلى «زيادة الاعتماد على السوشيال ميديا بشكل أكبر من تراجع متابعة التلفزيون». وقال إن ذلك يرجع لأسباب عدة من بينها «غياب الموثوقية والصدقية عن غالبية الناشرين على السوشيال ميديا الذين يسعون إلى زيادة المتابعين والتفاعل من دون التركيز على التدقيق». وأردف: «كثير من المحطات التلفزيونية أصبحت تأتي بأخبارها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فتقع بدورها في فخ الصدقية والموثوقية، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى التلفزيون وإيجاد الوقت لمشاهدته في الوقت الحالي مقارنة بمواقع التواصل التي باتت في متناول كل إنسان».

وحمَّل كيالي، الهيئات التنظيمية للإعلام مسؤولية استعادة الثقة، قائلاً إن «دور الهيئات هو متابعة ورصد كل الجهات الإعلامية وتنظيمها ضمن قوانين وأطر محددة... وثمة ضرورة لأن تُغيِّر وسائل الإعلام من طريقة عملها وخططها بما يتناسب مع الواقع الحالي».

بالتوازي، أشارت دراسات عدة إلى تراجع الثقة بالإعلام، وقال معهد «رويترز لدراسات الصحافة»، التابع لجامعة أكسفورد البريطانية في أحد تقاريره، إن «معدلات الثقة في الأخبار تراجعت خلال العقود الأخيرة في أجزاء متعددة من العالم». وعلّق خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، من جهته بأن نتائج الدراسة «غير مفاجئة»، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى السؤال «الشائك»، وهو: هل كان عزوف الجمهور عن التلفزيون، السبب في تراجع الصدقية، أم أن تراجع صدقية الإعلام التلفزيوني دفع الجمهور إلى منصات التواصل الاجتماعي؟

البرماوي رأى في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «تخلّي التلفزيون عن كثير من المعايير المهنية ومعاناته من أزمات اقتصادية، دفعا الجمهور للابتعاد عنه؛ بحثاً عن مصادر بديلة، ووجد الجمهور ضالته في منصات التواصل الاجتماعي». وتابع أن «تراجع الثقة في الإعلام أصبح إشكاليةً واضحةً منذ مدة، وإحدى الأزمات التي تواجه الإعلام... لا سيما مع انتشار الأخبار الزائفة والمضلّلة على منصات التواصل الاجتماعي».