وزارات لبنانية تعرقل إصلاحات الموازنة برفض خفض النفقات

TT

وزارات لبنانية تعرقل إصلاحات الموازنة برفض خفض النفقات

دخلت الحكومة اللبنانية في سباق مع الوقت، لتضمين الموازنة العامة التي تمثّل السياسة المالية للدولة إصلاحات - ولو شكلية - على قانون الموازنة، لملاقاة المؤتمرات الدولية الهادفة لمساعدة لبنان، وأبرزها مؤتمر «باريس - 4» المرجّح عقده في النصف الثاني من شهر أبريل (نيسان) المقبل بإجراءات مشجّعة، إلا أن المؤشرات الأولية لا توحي بكثير من التفاؤل، في ظلّ رفض معظم الوزارات تخفيض نفقاتها، وغياب الإجراءات الإصلاحية الفعلية، وأهمها في قطاع الكهرباء، والتهريب غير الشرعي، وتراجع الاستثمارات، في وقت يحتلّ لبنان موقعاً متقدماً في موضوع الفساد، بحسب مؤشر «مدركات الفساد» لعام 2017 الصادر عن «منظمة الشفافية الدولية».
ورغم المؤشرات السلبية التي تحدث عنها التقرير الدولي وخبراء المال والاقتصاد، أبدى وزير الدولة اللبناني لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني، تفاؤله بـ«الإجراءات التي تعتمدها الحكومة لجهة اعتماد سياسة مالية واضحة». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أنه «بمجرّد إصدار موازنات سنوية شفّافة، واعتماد قطع الحساب، يكون لبنان اجتاز مسافة 100 ميل على طريق الإصلاحات المطلوبة». ورأى أن «ما تريده الدول المشاركة في (باريس - 4)، والصناديق المانحة، هو إصدار موازنات صحيحة، وتوفير أموال على الخزينة، واعتماد الشفافية عبر الدخول بمناقصات في كل عمليات الصرف».
لكن الفارق يبقى كبيراً بين التوقعات السياسية وما تقوله الأرقام، إذ أكد الخبير المالي والاقتصادي مروان إسكندر، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الموازنة التي تجري دراستها لا تتضمّن إصلاحات حقيقية يمكن أن تقدم كنموذج مشجّع للمشاركين في مؤتمر (باريس – 4)». وأشار إلى أن «خفض نفقات الوزارات ليس جزءاً من الإصلاحات المطلوبة، في ظلّ كلام عن فصل الموازنة عن عجز الكهرباء البالغ مليار و800 مليون دولار»، معتبراً أن «بلوغ العجز المالي 14 في المائة من أساس الدخل القومي أمر لا يمكن أن يقبله أحد»، ومشيراً إلى أن الحكومة «لديها فرصة توفير ملياري دولار من قطاع الكهرباء، إذا تمّ الاستغناء عن استئجار بواخر الطاقة، وهذه أول خطوة إصلاحية».
وذكّر إسكندر بأن «التيار الكهربائي متوفِّر لـ92 في المائة من اللبنانيين والمقيمين على الأراضي اللبنانية، وهناك عروض من شركات محترفة قادرة على توليد الطاقة بكلفة 13 سنتاً أميركيّاً للكيلوواط الواحد، بدل الكلفة الحالية البالغة 23.7 سنت، وإذا ما استقدمت بواخر جديدة سترفع الكلفة إلى 33 سنتاً»، كاشفاً أن 42 في المائة من قيمة الدين العام في لبنان (البالغ 72 مليار دولار)، سببه العجز في قطاع الكهرباء، وإذا استمر الحال فسيصبح عجز الكهرباء 60 في المائة من قيمة الدين.
وما ذهب إليه الخبير المالي، يتطابق مع إعلان «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية - لا فساد»، (الفرع الوطني لمنظمة الشفافية الدولية)، عن حصول لبنان على معدل 28 من 100 على مؤشر مدركات الفساد لعام 2017 الصادر عن «منظمة الشفافية الدولية».
وأفاد المؤشر عن «تراجع لبنان إلى المرتبة 143 عالميّاً، من أصل 180 دولة يقيسها، بعدما كان في المرتبة 136 في عام 2016 من أصل 176 دولة، وعلى المستوى الإقليمي حل لبنان في المرتبة 13 من أصل 21 دولة عربية شملها المؤشر».
من جهته، شدد الوزير نقولا تويني على أن «سياسة تخفيض النفقات في الوزارات والمؤسسات تسلك طريقها بشكل إيجابي»، مؤكداً أن «الأرقام التي لا يمكن المس بها بالنسبة للوزارات، هي رواتب الموظفين لديها، وخدمة الدين العام»، ورأى أنه «بمقابل خفض الإنفاق الذي سيكون بحدود 10 في المائة من إجمالي الموازنة، يقابله زيادة في الإيرادات بقيمة 1.6 مليار دولار»، مؤكداً أن «الدولة بدأت التدقيق في الأموال التي تعطى كهبات للجمعيات الخيرية والمدرس المجانية، التي تقدّر بـ1.4 مليار دولار سنوياً».
وبرأي إسكندر فإنه «لابدّ من اعتماد خطوات إصلاحية أخرى، مثل ضبط الجمارك بشكل أكبر، وتشغيل مطار الرئيس رينيه معوّض (في شمال لبنان)، بما يحدّ من نسبة التهريب، لأن سيطرة فئة معينة على مطار رفيق الحريري الدولي (مطار بيروت) يجعل التهريب محمياً، بالإضافة إلى خلق جو استثماري لدى الناس، يسمح لهم بتوظيف الأموال في لبنان وخلق فرص عمل»، داعياً إلى «الاستفادة من الانفتاح السعودي على لبنان من جديد، والتعامل مع هذا المعطى بإيجابية».
وإذ توقع إسكندر لمؤتمر «روما - 2» النجاح، لأن دولاً لديها فائض من السلاح قادرة على تزويد الجيش والقوى الأمنية به، لفت الخبير الاقتصادي إلى أن «(مؤتمر باريس - 4)، لن يعطي الدولة اللبنانية أموالاً، لكنه سيقدم مساعدات، عبر بناء معامل للكهرباء وشق طرق وأوتوسترادات، وتطوير البنى التحتية... وهذا تأثيره أكثر إيجابية من تقديم الأموال».



هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.