البروفسور غريغوري غوز: احتمالات إبرام تسوية نووية مع إيران جيدة.. ولكن أستبعد اتفاقا جيوسياسيا

الخبير الأميركي في شؤون الشرق الأوسط قال لـ {الشرق الأوسط} إن توتر العلاقات بين الرياض وواشنطن لا يعد «أزمة»

غريغوري غوز (تصوير سالي ماكي - جامعة فيرمونت)
غريغوري غوز (تصوير سالي ماكي - جامعة فيرمونت)
TT

البروفسور غريغوري غوز: احتمالات إبرام تسوية نووية مع إيران جيدة.. ولكن أستبعد اتفاقا جيوسياسيا

غريغوري غوز (تصوير سالي ماكي - جامعة فيرمونت)
غريغوري غوز (تصوير سالي ماكي - جامعة فيرمونت)

جنبا إلى جنب الخسائر البشرية والمادية المروعة، أسفر الصراع السوري عن تفاقم بعض التصدعات السياسية العميقة بمنطقة الشرق الأوسط. فخارج نطاق سوريا، نجد خلافات صارخة بين القوى الإقليمية والدولية حيال موقفهم من الأزمة السورية، ولم تكن تلك الخلافات فقط بين مؤيدي ومعارضي نظام بشار الأسد، ولكنها أيضا توجد داخل المعسكر المناهض للأسد بشأن كيفية التعامل مع الأزمة.
وفي غضون ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة تقترب من التوصل إلى اتفاق مع إيران - الحليف الإقليمي الرئيس لبشار الأسد - بشأن البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل. وهذا الأمر يثير القلق الشديد للكثير من الدول العربية، وبالأخص دول الخليج، التي تجد صعوبة في فهم استعداد واشنطن للتعامل مع هاتين القضيتين بشكل منفصل، ويعد هذا الأمر بمثابة المصدر الرئيس لحالة التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، أحد أقدم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وأجرت «الشرق الأوسط» حديثا مع البروفسور غريغوري غوز، الخبير الأميركي الرائد في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، حول هذه التطورات، بالإضافة إلى الحديث عن قضايا أخرى تخص المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن البروفسور غريغوري غوز يشغل حاليا منصب أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيرمونت، وزميل أول غير مقيم في مركز بروكنجز الدوحة للدراسات، وسينضم قريبا إلى كلية بوش للخدمات الحكومية والخدمات العامة في جامعة تكساس إيه أند إم، وكتب الكثير من المقالات حول الشؤون الإقليمية، وألف ثلاثة كتب، تحمل العناوين الآتية: «العلاقات الدولية في الخليج» (2010)، و«الممالك النفطية: التحديات المحلية والأمنية التي تواجه دول الخليج العربية» (1994)، و«العلاقات اليمنية السعودية: الهياكل المحلية والنفوذ الأجنبي» (1990).
وفي ما يلي أبرز ما جاء في الحوار الذي دار في لندن وقبل بدء اندلاع الأحداث الأخيرة:

* كيف أثر الصراع السوري على العلاقات بين بلدان الخليج، وبالأخص دول مجلس التعاون الخليجي؟
- لا أعتقد أن دول الخليج لديها أي خلافات تتعلق بالأهداف الموضوعة من جانبهم، فكل دول الخليج تريد رحيل (الرئيس السوري) بشار الأسد، ويعمل جميعهم على تحقيق تلك الغاية بشكل أو بآخر، وتكمن الخلافات بينهم في التكتيكات التي يستخدمونها، وكذلك الأطراف التي يؤيدونها داخل المعارضة السورية. وأعتقد أن الخلاف الرئيس يكمن في ميل قطر لتأييد الإخوان المسلمين، بينما تميل السعودية وبعض الدول الأخرى، وبالأخص دولة الإمارات، لتأييد الجماعات غير المنتمية لتنظيم الإخوان المسلمين. وأرى أنه من المثير للاهتمام أن نجد السعودية واحدة من بين المؤيدين الرئيسين لأكثر العناصر العلمانية في الجيش السوري الحر، جنبا إلى جنب تأييدها لبعض العناصر غير المنتمية لجماعات تنظيم القاعدة.
وأعتقد أن السعودية تتعامل مع المعارضة السورية من أكثر من زاوية، لمحاولة تحقيق هدف التخلص من الأسد. ويبدو أن قطر تركز بشكل أكبر على دعم وتأييد الإخوان المسلمين والمنظمات الأخرى المماثلة، بالإضافة إلى تعاونها مع تركيا في ذلك الأمر، ولذا أعتقد أن الفارق بين دول الخليج لا يكمن في الهدف، ولكنه في الطريقة، ومن هو الطرف الذي يؤيدونه داخل المعارضة.
* بالنسبة لك، ما هو الدافع الرئيس لاستراتيجية قطر حيال سوريا؟ هل هذه الاستراتيجية تهدف في معظمها إلى تحقيق النفوذ والحرص على الهيمنة، أم تعتقد أن هناك أيضا عاملا أخلاقيا وراء دعمهم للمدنيين ضد الأعمال الوحشية والفظائع التي ارتكبها جيش بشار الأسد؟
- أعتقد أن هناك تعبئة ضخمة للرأي العام في العالم العربي ممن يدعمون المتمردين في سوريا، نظرا لرد الفعل الوحشي من جانب الأسد - مع اندلاع الثورة في عام 2011 - حيال الاحتجاجات التي كانت سلمية في البداية، ولذا لا أعتقد أن هذا الأمر تنفرد به قطر وحدها.
كانت السياسة الخارجية القطرية منذ التسعينات من القرن الماضي - ولا سيما عندما كان يمسك الشيخ حمد بزمام الحكم، وكان حمد بن جاسم يشغل منصب وزير الخارجية ورئيس الوزراء - تهدف إلى وضع قطر في طليعة العمل الدبلوماسي. ولا أعتقد أن هذا الأمر كانت تحركه فكرة خاصة تتعلق بالمصلحة القومية، ولكن باعتقادي أن هذا الأمر كان بدافع الطموح، فقد كانت القيادة القطرية تطمح بشدة للعب دور أكبر في المنطقة، وكان لهذا الدور عدد من العناصر التي تسهم في تحقيقه، والتي تتمثل في الآتي: عنصر العلامة التجارية العالمية، وذلك مع انعقاد الأحداث الرياضية والمؤتمرات الكبيرة في الدوحة، والتي توجت بالحصول على كأس العالم، وكذلك عنصر الوساطة، مع العرض القطري للقيام بدور الوساطة في قضايا عدة، بدءا من دارفور إلى لبنان وصولا إلى اليمن. وهناك عنصر آخر تمثل، بالطبع، في العنصر المعلوماتي من خلال قناة «الجزيرة»، ومن ثم كان العنصر الرابع في أنها أصبحت تلعب دورا سياسيا كبيرا. وأرى أنها أيّدت الإسلاميين، وبالأخص جماعات الإخوان المسلمين، لأنها ترى في نفسها القوة القادمة في المستقبل، أما العنصر الخامس، الذي يعد العنصر الأساسي الذي يتجاهله الجميع تقريبا إلى حد ما لأنه واضح للغاية، فيتمثل في العلاقة الأمنية القوية للغاية التي تربط بين قطر والولايات المتحدة، حيث إنها تستضيف القاعدة الجوية الأميركية، التي تعد بالأساس مركز القيادة المحلية للقيادة المركزية، ولذا أعتقد أن هذا العنصر الأمني الأخير هو الذي أعطى الثقة لقطر للقيام بالأمور الأخرى.
* كثر الحديث عن التقارب بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، برأيك ما احتمالات حدوث تطبيع كامل للعلاقات بين الدولتين؟
- إذا كنت تعني بالتطبيع الكامل عودة السفراء، فأعتقد أن هناك احتمالا كبيرا لتحقيق ذلك الأمر. وفي الحقيقة، هناك أكثر من عقبة تحول دون ذلك على الجانب الإيراني مقارنة بالجانب الأميركي، نظرا لأن معاداة الولايات المتحدة يعد أحد العناصر الأساسية للفكر الثوري الإيراني منذ عام 1979، ولكن إذا كنا نعني بالعلاقات الطبيعية التعاون الجيوسياسي الفعلي، فاحتمال حدوث ذلك أقل بكثير. وأرى أن احتمالات التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي تعد جيدة جدا، وإن لم تكن بنسبة مائة في المائة. وحسب ما أوضحه الرئيس (الأميركي باراك) أوباما، فإن احتمالات التوصل إلى اتفاق أو عدم الاتفاق تعد متساوية.
ولكن في ما يتعلق بالاتفاق الجيوسياسي بين الطرفين، والذي يقضي بأن يكون هناك اتفاق كبير بين الولايات المتحدة وإيران بالأساس حول الشكل الذي يتعين أن تكون عليه المنطقة، بحيث يكون لإيران دور جيوسياسي كبير، فلا أعتقد حدوث ذلك الأمر. ويرجع السبب الرئيس لعدم حدوث ذلك هو أن سياسية الولايات المتحدة، مدة 70 عاما، في منطقة الشرق الأوسط تقوم على منع أي قوة أخرى من أن يكون لها دور مهيمن، وإذا كان باعتقادك أن الولايات المتحدة قد تتعاون بالفعل مع إيران لضمان هيمنة إيران الإقليمية، فهذا الأمر سيسفر عن مشكلتين، الأولى تتعلق بعلاقة الولايات المتحدة الوثيقة مع إسرائيل، وعدم رغبة إسرائيل في أن تكون إيران قوة إقليمية مهيمنة، بالإضافة إلى علاقة الولايات المتحدة الوثيقة بالسعودية، وكذلك عدم رغبة السعودية في تكون إيران قوة إقليمية مهيمنة، لذا أشك في إمكانية التوصل إلى هذا النوع من الاتفاق الجيوسياسي الكبير.
* هل هذا يعني أنك لا تعتقد أن الولايات المتحدة لديها بصمة وأثر واضح في منطقة الشرق الأوسط مع كون الرئيس أوباما يولي القليل من الاهتمام للنفوذ الإيراني في المنطقة؟
- الولايات المتحدة أقل قلقا إزاء النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة مقارنة بالمملكة العربية السعودية، ولكن هذا لا يعني أن واشنطن تؤيد انتشار النفوذ الإيراني أو أنها غير معنية بما تقوم به طهران. هذا يعني فقط أن السعودية أشد قلقا إزاء هذه القضية من الولايات المتحدة. وبالتأكيد فإن سياسة الولايات المتحدة حيال سوريا ليست مثل سياسة السعودية، ولكنها لا تؤيد أيضا بشار الأسد. وأرى أن السياسة المعلنة في لبنان والعراق تتعارض أيضا مع الهيمنة الإيرانية. وبرأيي فإن الأمر يتعلق فقط بدرجة الالتزام، فالسعودية تعد أكثر التزاما حيال هذا الهدف مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية، ولكن هنا يشبه الأمر كثيرا الوضع داخل دول مجلس التعاون الخليجي التي تحدثنا عنه في السابق، فليس هناك اختلاف في الأهداف، ولكن الاختلاف يكمن في التكتيكات وترتيب الأولويات، ولكن لا يعني هذا أننا نقول إن الولايات المتحدة وافقت بالأساس على أن إيران ستكون هي القوة الإقليمية المهينة. وأعتقد أنه عندما نتحدث عن تقليل الوجود العسكري في المنطقة، علينا أن نبتعد عن المبالغات، فبالتأكيد يعد الوجود العسكري الأميركي في المنطقة أقل بكثير مما كان عليه عندما كان يوجد لدينا 100 ألف جندي في العراق.
* هل تعني أنه لم يكن لذلك تأثير سلبي بالضرورة؟
- نعم بالتأكيد، ولكن ما زال يوجد قواعد عسكرية أميركية في جميع أنحاء الخليج، وفي الكويت، والبحرين، وقطر، ويوجد تسهيلات وترتيبات مع دولة الإمارات وسلطنة عمان. وأرى أن هذه القواعد العسكرية ما زالت قائمة ولا يجري العمل على إغلاقها. وأعتقد أن ما نراه الآن يمثل عودة للوجود العسكري الأميركي الذي كان في المنطقة أثناء التسعينات بعد تحرير الكويت. نحن نرى عودة لهذا المستوى من الالتزام، وليس التراجع إلى نقطة الصفر.
* هل تعتقد أن العلاقات السعودية - الأميركية الحالية تعد في أسوأ مراحلها منذ عام 1948؟
- لا أتفق مع ذلك على الإطلاق، فعلينا أن نعود إلى الحظر الذي كان مفروضا على النفط عام 1973 لكي نعرف متى كانت العلاقات في أسوأ مراحلها.. وتلتها مراحل أخرى شهدت توترا، فأنا لا أطلق عليها أزمة، ولكن أعدها اختلافا في الآراء. ذلك الاختلاف في الآراء هو حقيقة واقعية، ولا أريد أن التقليل من ذلك. الرياض وواشنطن لديهما وجهات نظر مختلفة في ما يتعلق بالأولوية حيال مسألة كبح جماح النفوذ الإقليمي لإيران، والتكتيك الأفضل للتعامل مع إيران، والأولوية حيال التكتيكات بشأن الأزمة السورية، وكذلك مسألة الديمقراطية في العالم العربي، وفي فترة ما بعد الربيع العربي. ويتضمن ذلك أيضا اختلاف وجهات نظرهما بشأن كيفية التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها تنظيما سياسيا. كل هذا يعبر عن اختلافات حقيقية، ولكن دائما ما يكون هناك اختلافات بين السعودية والولايات المتحدة، ودائما ما يكون بينهما اختلافات بشأن المسائل المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي. وتتمثل المصالح الجوهرية التي لا تزال قائمة للتوحيد بين البلدين في النفط وتأمين التدفقات النفطية، بالإضافة إلى هدفهما المشترك في التعاون لمكافحة الإرهاب، وليس هناك أي ما يشير إلى أن التعاون العميق بين البلدين لمكافحة الإرهاب قد تغير على الإطلاق، وكل منهما يشترك في رغبته لمنع أي قوة إقليمية أخرى من الهيمنة على منطقة الخليج أو منطقة الشرق الأوسط، ومجددا الاختلاف بينهما يكمن في اختلاف التكتيك المتبع لتحقيق الهدف، ولكنهما ما زالا يتشاركان في هدفهما الاستراتيجي. وأنظر إلى هذه الفترة باعتبارها تشهد خلافات جادة حيال عدد من القضايا وليست باعتبارها تمثل أزمة في العلاقة بين البلدين.
* لقد قمت بتأليف كتاب جيد عن العلاقات اليمنية - السعودية، وقد لعبت السعودية والدول الأخرى الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي دورا هاما في دعم اليمن خلال تلك المرحلة الانتقالية ماليا وسياسيا. ما الجديد الذي يمكن أن تقدمه دول مجلس التعاون الخليجي لدعم اليمن؟ هل تعتقد أن فكرة عضوية اليمن بمجلس التعاون الخليجي لم يعد لها وجود، أم أنها لا تزال حقيقة من الممكن حدوثها في المستقبل القريب؟
- لا أعتقد أن هذا الأمر من المتوقع حدوثه في المستقبل القريب. ورأيي أن مجلس التعاون الخليجي دائما ما يمثل المنظمة التي تضم دولا ذات حكومات متشابهة، وهذا الشيء هو الذي يجعل تلك الدول تتمتع بالوحدة. ومجددا، أرى أن الدول الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي لا يعملون سويا بشكل دائم، ولكنهم يتّحدون وقت الأزمة. وأعتقد أن سبب اتحاد تلك الدول في مواجهة الأزمة يرجع إلى حقيقة أنهم لديهم أنظمة حكم مماثلة، وبالنظر إلى اليمن نجد أن بها نظام حكم يختلف تماما عن تلك الدول. ولا أعتقد أن الدول الأخرى بمجلس التعاون الخليجي ستسمح بانضمام اليمن إلى تلك المنظمة الخاص بهم، وأرى أنه من المرجح بشكل أكثر أن ينضم الأردن إلى دول المجلس وليس اليمن. والأهم من ذلك، يجب الأخذ في الاعتبار مسألة حقوق المواطنين التابعين لدول مجلس التعاون الخليجي في ما يتعلق بعبور الحدود، والعمل في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى. وأشك أن ترحب تلك الدول بفتح حدودها أمام اليمنيين، وهذا لا يعني أن اليمنيين لا يعملون في تلك الأماكن.
* من دون حرج، ما أفضل كتاب حتى الآن عن الثورات العربية؟
- إنه سؤال شيق. الكتاب الذي أستخدمه في التدريس هو كتاب مارك لينش، ولكن هذا الكتاب يغطي فقط عام 2011، وهناك الكتب التي صدرت على عجل عام 2012، بواسطة الذين أعدوا تحليلا سريعا حول ما يشهده العالم العربي من أحداث. وما نحن بصدده الآن هو الموجه الجديدة من الكتب التي تتناول السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة بمنظور أوسع، ولذا أنا بانتظار هذه الكتب.



ماكرون يرسم خطوطاً حمراء للتعاون مع دمشق

الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
TT

ماكرون يرسم خطوطاً حمراء للتعاون مع دمشق

الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون متحدثاً في إطار الاجتماع السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم في قصر الإليزيه الاثنين (رويترز)

احتلت ملفات الشرق الأوسط حيزاً واسعاً في الكلمة التي ألقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ظهر الاثنين، في قصر الإليزيه، بحضور سفراء فرنسا عبر العالم وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وبالنظر للتطورات الجارية في سوريا، فقد حرص ماكرون على إبراز موقف واضح، مشدداً على أن بلاده «لم تصدق أبداً أن الديكتاتور (في إشارة إلى بشار الأسد) يمكن إعادة تأهيله».

إلا أنه في الوقت عينه، دعا إلى التزام الحذر «من خلال النظر إلى تغيير النظام في سوريا من دون سذاجة». وما حرص عليه ماكرون يكمن في رسم ما يمكن تسميته «خريطة طريق» لكيفية التعامل مع السلطات الجديدة في دمشق، وما تتوقعه باريس والعواصم الأوروبية الأخرى، من السلطة الجديدة، مع التذكير بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، ونظيرته الألمانية أنالينا بايربوك مؤخراً إلى دمشق.

الأكراد «الحلفاء الأوفياء»

قوات من «قسد» في تدريب مشترك مع القوات الأميركية شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)

وفيما تتصاعد المعارك في الشمال السوري بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، والقوات الحليفة لتركيا، حرص ماكرون على التأكيد بقوة على موقف بلاده من الأكراد الذين وصفهم بـ«الحلفاء الأوفياء» في محاربة تنظيم «داعش»، ملمحاً إلى أن بعض الدول كانت مستعدة للتخلي عنهم، في تلميح للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الذي كان مستعداً في عام 2018 لسحب القوات الأميركية لتسهيل سيطرة تركيا على المنطقة.

وقال ماكرون: «نحن نعي الدين الذي ندين به لمجمل (القوات الديمقراطية السورية) وللمقاتلين من أجل الحرية مثل الأكراد، الذين تحلوا بالشجاعة في محاربة المجموعات الإرهابية». وأضاف أن بلاده «لم تتخل عنهم أبداً، ولن نتخلى عنهم في المسار الجديد، ونحن متيقظون لعملية الانتقال السياسي» الجارية حالياً في سوريا.

وتابع: «ما تريده فرنسا هو قيام سوريا ذات سيادة وحرة وتحترم تعدديتها الإثنية والسياسية والطائفية». وشدد ماكرون على أهمية أن تضم العملية الانتقالية الديمقراطية «كل مكونات المعارضة» للنظام السابق، بالتوازي مع «توفير الأمن للاجئين للعودة إلى بلادهم ومواصلة محاربة الإرهاب بشكل واضح، وتدمير كل البنى المنتجة للسلاح الكيماوي وشبكات إنتاج وتهريب المخدرات».

ويرى ماكرون، في إشارة على الأرجح للبنان، أنه «يتعين على سوريا أن تشارك في ضمان الأمن والاستقرار الإقليميين»، مذكراً بـ«مؤتمر بغداد» في نسخته الثالثة التي ستعقد في الربيع القادم، دون أن يحدد مكان انعقادها، لعرض تنفيذ مشاريع إقليمية «لمصلحة الجميع ولتحقيق السلام والأمن».

وسبق لوزير الخارجية الفرنسي أن شدد، في حديث صحافي، الأحد، على ضرورة ألا تستغل أي قوة أجنبية سقوط حكم نظام الأسد لإضعاف سوريا، مشيراً إلى أن سوريا «تحتاج بطبيعة الحال إلى مساعدة، لكن من الضروري ألا تأتي قوة أجنبية، كما فعلت لفترة طويلة روسيا وإيران، تحت ذريعة دعم السلطات أو دعم سوريا... وتُضعفها بشكل إضافي».

وبحسب جان نويل بارو، فإن «مستقبل سوريا يعود إلى السوريين. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، فإن هدف السيادة الذي أظهرته السلطة الانتقالية وممثلو المجتمع المدني و(أفراد المجتمعات) الذين التقيناها كذلك هو أمر سليم». وكان بارو يلمح للدور المتعاظم الذي لعبته وتلعبه تركيا في العملية الانتقالية الجارية حالياً.

الدور الإيراني

قاآني يستقبل الرئيس مسعود بزشكيان خلال مراسم ذكرى قاسم سليماني في طهران الخميس الماضي (الرئاسة الإيرانية)

بيد أن أشد العبارات استخدمها ماكرون في الحديث عن إيران التي اعتبرها «التحدي الأمني والاستراتيجي الرئيسي» في الشرق الأوسط. وجاء في حرفية كلام ماكرون أن إيران «تشكل التحدي الاستراتيجي والأمني الرئيسي لفرنسا والأوروبيين والمنطقة بكاملها، وأبعد من ذلك بكثير»، محذراً من أن «تسارع برنامجها النووي يقودنا إلى حافة القطيعة».

وما يعنيه الرئيس الفرنسي أن طهران اقتربت كثيراً من الحصول السلاح النووي. واللافت أن ماكرون يعد أحد القادة الغربيين القلائل الذين يحافظون على خط تواصل دائم مع القيادة الإيرانية. لكن يبدو أن قرب عودة ترمب إلى البيت الأبيض يجعل الأوروبيين ومنهم فرنسا يلجأون إلى خطاب أكثر تشدداً إزاء طهران.

وجاء لافتاً أن ماكرون أشار في كلامه، وفي إطار نظرته لما تمثله إيران، إلى «أنها ستكون، بلا شك، واحدة من القضايا الرئيسية في الحوار الذي سنقيمه مع الإدارة الأميركية الجديدة». ومن المرجح أن ينتهج الرئيس ترمب خطاً بالغ التشدد إزاء طهران، بحيث يذهب أبعد من التدابير التي اتخذها بحقها إبان ولايته الأولى. وثمة مراكز بحثية أميركية لا تتردد في الحديث عن اللجوء إلى ضربات عسكرية مشتركة إسرائيلية - أميركية ضد البرنامج النووي الإيراني.

حقيقة الأمر أن ماكرون أقام «مضبطة اتهام» بحق طهران وقادتها. وتشمل هذه المضبطة ما تعتبره باريس دوراً مزعزعاً للاستقرار في الشرق الأوسط وأبعد منه تقوم به طهران؛ في الإشارة إلى الدعم الذي تقدمه «للمجموعات التي تشكل خطراً في جميع مناطق المواجهة في الشرق الأوسط»؛ في إشارة إلى «حزب الله» و«حماس» و«المجموعات الميليشياوية في العراق»، فضلاً عن الحوثيين في اليمن.

غير أن أهم إعلان صدر عن ماكرون تناول إشارته إلى احتمال تفعيل الآلية المسماة «سناب باك» التي يعاد بفضلها الملف النووي إلى مجلس الأمن، ويمكن أن تعقبه إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران.

وذهب ماكرون أبعد من ذلك، بإشارته إلى أن أمراً كهذا يمكن أن يحل في الخريف القادم. وقال ماكرون: «خلال الأشهر المقبلة، سيتعين أن نسأل أنفسنا ما إذا كان يتعين علينا استخدام... آلية إعادة فرض العقوبات على إيران»، مشيراً إلى أن أكتوبر (تشرين الأول) 2025، هو الموعد الذي تنتهي فيه اتفاقية 2015 رسمياً.

يأخذ الغربيون على إيران انخراطها في الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أنهم يتخوفون من البرنامج الصاروخي - الباليستي الإيراني الذي يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا.

وتخطط باريس لأن يدور حوار واضح بينها وبين واشنطن حول سبل التعاطي مع إيران، التي تزايدت المخاوف الغربية منها بعد أن وصلت صواريخها إلى الأراضي الإسرائيلية. وخلال الاجتماعات الأخيرة لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، صدرت قرارات قوية بخصوص إيران. بيد أن الدول الغربية وعلى رأسها الموقعة على الاتفاق النووي لعام 2015، امتنعت عن تفعيل آلية «سناب باك» لأسباب مختلفة ومتغيرة.

لكن يبدو أن الغربيين عازمون، أخيراً، على اجتياز خطوة مهمة فيما إيران أصيبت إقليمياً بالضعف بسبب حرب إسرائيل على «حماس» ولبنان وضرباتها ضد الأراضي الإيرانية نفسها وضد الحوثيين، ومؤخراً تدمير قدرات الجيش السوري العسكرية. لكن هذا التصعيد يترافق مع محاولات دبلوماسية للدول الأوروبية الثلاث - فرنسا وبريطانيا وألمانيا - للبحث عن مخارج دبلوماسية للأزمة مع إيران، ومن ذلك الاجتماع المقرر في 13 الجاري. وآخر ما تشكو منه باريس هو محاولات إيران الانغراس في أفريقيا، التي ترى فيها فرنسا إضراراً بمصالحها.

لبنان

المبعوث الأميركي آموس هوكستين مجتمعاً مع قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون (أ.ف.ب)

لم يأت الرئيس الفرنسي بجديد بالنسبة للبنان «حيث لفرنسا تاريخ طويل والكثير من المواطنين والأصدقاء». وما يسعى إليه ماكرون هو توفير الهدوء على طول «الخط الأزرق»، من خلال مشاركة وحدات فرنسية في قوة «اليونيفيل»، وتسهيل انتشار الجيش اللبناني «بشكل حاسم» جنوب نهر الليطاني وامتداداً حتى الحدود مع إسرائيل.

ولم يتوقف ماكرون طويلاً عند العقبات التي يواجهها وقف إطلاق النار والشكاوى الكثيرة التي تقدم بها لبنان ضد الانتهاكات الإسرائيلية، التي لا تحترم الآلية التي توصلت إليها فرنسا بالتشارك مع الولايات المتحدة. كذلك بقي ماكرون عند العموميات فيما يخص موضوع الفراغ المؤسساتي وعملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مذكراً بالحاجة لإنجاح المسار السياسي، ومشيراً إلى الجهود التي يبذلها ممثله الوزير السابق جان إيف لو دريان في هذا الخصوص.

وبحسب ماكرون، فإن انتخاب رئيس جديد «يمثل الخيار الحاسم الذي من شأنه توفير السيادة اللبنانية، ويفتح الطريق لتشكيل حكومة قادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية».

الاعتراف بدولة فلسطين

الدمار والخراب في قطاع غزة بعد أكثر من عام من القصف الإسرائيلي المتواصل (أ.ف.ب)

كالعادة، ذكّر ماكرون بـ«الصداقة التاريخية» بين فرنسا وإسرائيل وتضامنه معها «في مواجهة الهمجية التي ظهرت في هجمات» «حماس» في 7 أكتوبر 2023، وضرورة إطلاق سراح الرهائن. كذلك أعرب ماكرون عن «تفهم بلاده لحاجة إسرائيل بألا تتكرر أمور كهذه وأن تضمن أمنها... ومما شدد عليه اعتباره أن الضربات الإسرائيلية (المستهدفة) في لبنان وسوريا وإسرائيل غيرت الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ما يرتب علينا جميعاً استخلاص النتائج وفتح أفق لسلام صلب ودائم وآمن للجميع في المنطقة».

وبحسب ماكرون «لا يمكن بناء هذا النوع من السلام على الأمن وحده، إذ يجب أن ينطوي على العمل الإنساني والسياسي، وهو شرط أساسي مطلق، أولاً وقبل كل شيء في غزة». وأضاف ماكرون: «لا يوجد أي مبرر عسكري لاستمرار العمليات الإسرائيلية والعرقلة المتعمدة للمساعدات الإنسانية، ولاستمرار العوز الشديد وحالة الجوع التي وصل إليها السكان المدنيون» في القطاع، معتبراً أنه ينبغي على إسرائيل «أن تضع حداً للحرب دون مزيد من التأخير، وأن تعترف بأن لديها شركاء للسلام، وأن تلتزم بتسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية، وذلك بالتنسيق مع جميع دول المنطقة بشأن غزة، والحفاظ على الأوضاع السياسية في الضفة الغربية وغزة».

ورغم سوداوية الوضع، يرى ماكرون أن «السلام ممكن، حيث إن المملكة العربية السعودية وشركاءنا العرب من ذوي النوايا الحسنة، (الأردن ومصر وقطر والإمارات العربية المتحدة) على وجه الخصوص، ملتزمون بذلك، وفرنسا قدمت ولا تزال تقدم دعمها الكامل».

وحث ماكرون الأوروبيين على العمل في هذا الاتجاه، وبالتنسيق مع الشركاء العرب، «من أجل حل الدولتين، مع احترام الاحتياجات الأمنية للإسرائيليين والتطلعات المشروعة للفلسطينيين».

ودعا الرئيس الفرنسي إلى «بناء إطار جديد للأمن والتعاون في الشرق الأوسط» مشيراً إلى أن «هذا هو هدف المؤتمر الدولي الذي بادرنا به مع المملكة العربية السعودية، والذي سيعقد في نيويورك في يونيو (حزيران) المقبل. وسيكون علينا أن نجعل من هذا المؤتمر لحظة حاسمة». واختتم كلامه بالإشارة إلى أن فرنسا «يمكنها من هذا المنطلق التحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطين».