تولستوي... مفكراً

ترجمة بعض رسائله عن الدين والفلسفة والعلم إلى العربية

تولستوي... مفكراً
TT

تولستوي... مفكراً

تولستوي... مفكراً

صدرت هذه السنة ترجمة لبعض رسائل ومقالات الأديب الشهير: «ليف تولستوي» من الروسية مباشرة إلى العربية، أنجزها يوسف نبيل، وجمعها في كتاب عنونه: «في الدين والعقل والفلسفة» وذلك عن دار آفاق للنشر والتوزيع بالقاهرة.
بدأ المترجم الكتاب بمقدمة يوضح فيها كون أن الناس تعرف تولستوي الأديب، ولكن الكثير منهم لا يعرفون تولستوي المفكر، الذي تناول أعقد المسائل الفكرية والفلسفية ببداهة الأطفال وببساطة مخيفة، حتى أنها كانت صادمة، بشكل خلق لنفسه الكثير من الأعداء، فهو وكما يقول المترجم، «يشكل بحق روحا جريئة مناقضة للتيار الفكري العام، ألم ينعت فلسفة نيتشه بالتافهة والمبتذلة؟ ألم يرفض الموجة العارمة التي راجت بين المثقفين في القرن التاسع عشر والمحتقرة للدين، بحجة أنه مجرد نتاج للخوف من ظواهر الطبيعة غير المفهومة للإنسان؟ ليؤكد بدلا عن ذلك من أنهم مجرد هاربين من النواميس الأخلاقية». هذه الآراء وأخرى هي من دفعت يوسف نبيل إلى نقل بعض أفكاره، خاصة تلك المتعلقة بالدين والأخلاق إلى العربية.
لقد جاء أول مقال في الكتاب بعنوان: «العقل والدين» وهو بالأصل رسالة موقعة بتاريخ 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 1894 كانت موجهة لـ«آنا جيرمانوفنا»، وهي سيدة طلبت من تولستوي، أن يجيبها على سؤال أهمية العقل لدى البشر، وذلك من أجل ضمه إلى مجموعة أدبية معدة للنشر، وفيه نقرأ إلحاحا على أهمية العقل باعتباره الوسيلة التي حبانا الله بها للتعرف على النفس واكتشاف علاقتنا بالعالم، وإذا اعترض البعض على ذلك بدعوى أن الأمور غير الملموسة لا يمكن مقاربتها بالعقل، بل طريقها هو الإيمان والوحي، يرد تولستوي بأن الإنسان لا يمكنه أن يؤمن بعيدا عن العقل، فالعقل هو من يحدثه بأن يؤمن بهذا الشيء أو بآخر. ومن يقول بعدم وجوب قيادة العقل، يكون بحسب تولستوي، مثله مثل رجل يسير في الظلام حاملا مصباحا، ولكي يتمكن من الخروج منه ينبغي عليه أن يطفئ هذا المصباح مرددا أن الضوء لن يقوده بل شيء آخر.
يضيف تولستوي دفاعا عن العقل، بأن تقاليد الناس المتوارثة قد تكون كاذبة، أما العقل فهو من عند الله ولا يمكن أن يكون كاذبا، لهذا ولكي نتعرف على الحقيقة ونعبر عنها، لا يلزمنا أي قدرات عقلية رفيعة أو خارقة، بل يجب فقط أن نثق في العقل ونصدقه وحده، فهو من يحمينا من التناقضات، بل علينا السعي الدؤوب نحو حماية هذا العقل وإعطاؤه الكلمة الدائمة.
كما نجد في المقال الثاني وهو بعنوان: «الدين والأخلاق» والموقع بتاريخ 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1893، والموجه للجمعية الأخلاقية الألمانية التي سألته عن: ما الذي يفهمه من كلمة: «الدين»؟ وهل يمكن إقامة أخلاق بمعزل عن الدين؟، محاولة دقيقة لتعريف جوهر الدين وعلاقته بالأخلاق، ليبدأ تولستوي بذكر المعاني المتداولة للدين التي حددها في ثلاثة وهي: أولا، وهو المشهور عند المؤمنين، كون الدين عبارة عن وحي منزل منحه الله للناس على شاكلة كتاب مقدس، وكل جماعة دينية تعتبره الحقيقة الوحيدة. أما ثانيا فهو المعنى القدحي الذي يراه البعض خاصة من المثقفين، بحيث يعد الدين عندهم مجرد أساطير عفا عنها الزمن، وهو نتاج الخوف من الظواهر الطبيعية الملغزة وغير المفهومة، لهذا فهو مرحلة ماضية طويلة في تاريخ البشرية أصبحت الآن عائقا نحو التطور. وهنا كما نلاحظ يتحدث تولستوي عن النظرة الوضعية التي سادت في أوروبا خاصة فرنسا بزعامة «أوجست كونت» الذي ينعت عمله بالتافه والسطحي. أما المعنى الثالث فهو الذي يرى في الدين مجرد أداة في يد سلطة الدولة لكبح همجية الجموع وقمع شهواتهم البهيمية ومن تم حسن قيادتهم. وهو التفسير الذي يهتم به غير المبالين بالدين.
إن المعنى الأول حسب تولستوي، يفسر الدين كحقيقة لا تقبل الشك أو الجدال، ومن اللازم العمل على ذيوعه وبكل الوسائل الممكنة، والمعنى الثاني، يفسر الدين باعتباره خرافة وجب تخليص البشرية منه، أما المعنى الثالث فهو يفسر الدين باعتباره آلة تصلح فقط للعموم، من أجل ردعهم وتوجيههم.
وبحسه الأدبي الرفيع يشبه المعنى الأول للدين بمن يتحدث عن قطعة موسيقية ويراها الأفضل، والمعنى الثاني بمن لا يستطيع تذوق الموسيقى ومن ثم فهو لا يحبها، والثالث الذي لا يرى في الموسيقى سوى وسيلة مفيدة لتعلم الرقص وتنظيم المسيرات العسكرية لهذا ينبغي استغلالها.
يرى تولستوي، أن تعريفات الدين الثلاثة المذكورة أعلاه، تتضمن عيبا كبيرا، وهو أنها كلها تتحدث عن الدين دون أن تتطرق لجوهره. ليؤكد أن الدين هو شعور داخلي متجذر، وليس مرتبطا بالخوف كما يلح أعداؤه، إنه الجواب الأكثر عمقا عن سؤال: لماذا أعيش؟ وما الهدف من وجودي العرضي والفاني في كون أبدي لا محدود؟، فالدين محركه في جوفنا لأن سؤال التلاشي جاثم على كل إنسان ولا يتوقف أبدا.
باختصار يحدد تولستوي الدين بكونه فهم الفرد للعلاقة التي تربطه باعتباره يؤول إلى زوال في عالم يبدو أزليا، لهذا فهو يلزم الجميع، لأنه لا أحد يمكنه أن يتملص من الجواب عن علاقته بالعالم، فإنسان بلا دين كالقول بإنسان بلا قلب. ويشير تولستوي إلى أن علاقة الإنسان بالعالم بدأت دينيا قبل أن تكون فلسفيا وعلميا، لهذا فهو يحظى بالأسبقية، ناهيك على أنه يتميز بالعمومية، بينما الفلسفة والعلم لها طابع الخصوصية، فالإنسان العادي البسيط ودون دراسة، يمكنه أن يربط علاقة بالعالم ويخلق المعنى فيه. بكلمة واحدة تعد كل ديانة هي محاولة للإجابة عن سؤال معنى الحياة؟.
أما بخصوص سؤال الأخلاق، فإن تولستوي يرفض أي فصل بين الأخلاق والدين، إذ يرى أن أي تفسير للحياة يتضمن في طياته النموذج الأخلاقي، فمثلا إذا آمن الشخص بأن معنى الحياة يكمن في المنفعة الخاصة، فهذا سيؤدي إلى حركة في الحياة ملؤها استغلال كل ما يروق في الحياة. أما إذا أجاب المرء بأن معنى الحياة يكمن في خدمة المجموع، فهذا سيغير السلوك ويجعله مصوبا لمنفعة الآخرين، وبالمثل إذا كان تصورك لمعنى الحياة يتجلى في خدمة الخالق، فإن الأمر سيدفعك إلى بذل الوسع في تحقيق كلمته على أرض الواقع... من هذه الأمثلة يتأكد كم أن الدين باعتباره جوابا عن معنى الحياة يتضمن مطالب أخلاقية بالضرورة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».