يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا

رفضَ القذافي منحها استثمارات في الغاز والعقارات والمصارف... فبدأت المشاكل

يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا
TT

يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا

يوميات الود والخصام (الحلقة الأخيرة) : تفاصيل الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا

في الحلقة الخامسة من سلسلة تحقيقات «يوميات الود والخصام» بين نظام معمر القذافي وعدد من المسؤولين حول العالم، تكشف تفاصيل حصلت عليها «الشرق الأوسط» قصة الصفقة الأخيرة بين قطر وليبيا ورفض الأخيرة منح الدوحة استثناءات للاستثمار في الغاز والعقارات والمصارف، ما أدى إلى تحوّل أيام الصفاء إلى كابوس.
وقال مسؤول ليبي سابق إن الدوحة كانت تسعى إلى الحصول على مقابل خدمات قدمتها سلفاً لطرابلس، منها صرف قطر نحو 900 مليون دولار للمساعدة في حل خلافات دولية كانت ليبيا طرفاً فيها، من بينها 400 مليون دولار لـ«صندوق ضحايا الإيدز»، و500 مليون دولار فيما يعرف بـ«الاتفاق الليبي الشامل» مع الولايات المتحدة لتسوية القضايا العالقة. ووفق شهادات صوتية يحتفظ بها مسؤولون في النظام الليبي السابق، طلبت قطر، بعد ذلك، شراء أصول وإقامة مشروعات في ليبيا بثمن بخس، بحسب تقدير الليبيين، منها مشروع «المصرف الليبي القطري» ومشروع للأراضي في كل من منطقة «باب طرابلس» ومنطقة «جنزور»، إلى جانب حقول للغاز في «حوض غدامس».

يقول مساعد لسيف الإسلام، نجل القذافي، إنه حضر جانبا من هذه المفاوضات بين الليبيين والقطريين، وإنه حين تباطأ مسؤولو طرابلس في الاستجابة للمطالب القطرية، قام الشيخ حمد بن جاسم بزيارة للعاصمة الليبية، في صيف 2010. ووفق روايات عدة، من أطراف كانت حاضرة للمشهد أو مطلعة على تفاصيله، فقد جاء الشيخ حمد غاضباً، والتقى بسيف الإسلام، في وجود كل من رئيس الوزراء في ذلك الوقت، البغدادي المحمودي، ورئيس المخابرات العسكرية عبد الله السنوسي، ورئيس مؤسسة النفط الليبية، الراحل، شكري غانم. وقال الشيخ القطري في ذلك الاجتماع ما معناه: نحن أعطيناكم أموالاً، وأنتم لم تفوا بتعهداتكم.
وعلى هذا بدأت الخلافات التي تجلّت في أوضح صورها حين ظهرت قطر كأحد المتحمسين للإطاحة بنظام القذافي في مطلع 2011، سواء من خلال نشاطها في المحافل الدولية، أو بتجنيد قناة «الجزيرة» في تأجيج المشاعر المناهضة لحكم العقيد الراحل، أو بتمويل أطراف ليبية، حتى بعد سقوط النظام السابق، ومنها مؤسسات إعلامية كـ«مؤسسة الوسط»، المسجلة في بنغازي، والتي تعمل حالياً انطلاقاً من القاهرة.
وحضر رجل الأعمال اللبناني، زياد تقي الدين، اجتماعات على العشاء والغداء، في طرابلس ولندن وباريس، مع أطراف مختلفة كانت تسعى إلى الحصول على امتيازات في ليبيا، من بينهم الشيخ حمد نفسه. وفي نهاية المطاف يختصر تقي الدين، كل ما جرى بالقول إن الدوحة «كان هدفها تكسير النظام الليبي، وكسرته».
وعلى كل حال، تعود قضية ضحايا الإيدز في ليبيا إلى عام 1999، حين جرى اتهام خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني يعملون في مستشفى للأطفال في مدينة بنغازي، بحقن 426 طفلاً ليبياً بدم ملوث بفيروس الإيدز. وبعد الحكم على هؤلاء المتهمين بالإعدام، ثار جدل بين ليبيا وأوروبا حول القضية، استمر حتى سنة 2007، حين سوي الموضوع. ويقول مساعد سابق لسيف الإسلام القذافي: «المهم أن اتفاقاً حصل على أن يتم إطلاق سراح أولئك المحكومين، مقابل أن تحصل عائلات الأطفال على تعويضات». ويضيف: «كان يفترض أن تكون هذه التعويضات من الاتحاد الأوروبي، لكنه رفض. وعليه قالت الدولة الليبية إنه طالما لا توجد تعويضات لذوي الضحايا، فإن المحتجزين لن يخرجوا. وهنا تدخل القطريون ودفعوا مبلغ 400 مليون دولار أميركي لصندوق ضحايا الإيدز... لقد دفعت الدوحة هذا المبلغ، وجاء به (مسؤول في) المصرف المركزي القطري».
أما قصة «الاتفاق الشامل» بين الولايات المتحدة وليبيا، والذي كان يهدف إلى غلق كل القضايا التي تخص ليبيا في الخارج، فقد كانت قيمته ملياراً و800 مليون دولار، وأخذت هذه القصة عدة مراحل إلى أن تبلورت في الاتفاق النهائي. وهو أمر يبدو أنه تسبب في ترطيب الموقف الأميركي تجاه ليبيا، حتى قبل نهاية حكم جورج بوش الابن بسنة واحدة.
كان سيف الإسلام يرى أنه من أجل الاهتمام بقضايا الداخل، وتنفيذ برامج للتنمية لليبيين، لا بد، أولاً، من إغلاق ملفات الخارج، والتي كان من بينها قضية تفجير طائرة «يو تي إيه» مع الفرنسيين، وقضية تفجير طائرة لوكربي مع الأميركيين خصوصاً، وموضوع دعم الجيش الجهوري الآيرلندي مع البريطانيين، وقضية الملهى الليلي (لابل) مع الألمان، وغيرها من قضايا عبر العالم كان فيها ليبيون متهمين أو محكومين غيابياً.
وكان المتهمان الليبيان في لوكربي هما الأمين فحيمة وعبد الباسط المقرحي. وصدر حكم ببراءة فحيمة وإدانة المقرحي... ويقول صديق لسيف الإسلام القذافي كان عضواً في لجنة «الاتفاق الشامل» الذي أقره، في 2008، الرئيس الأميركي بوش، والكونغرس، في نهاية المطاف: «كان هناك من يقول لك: إذا دفعت عشرة ملايين دولار لكل عائلة ضحية من ضحايا لوكربي، فأنت تعترف بالمسؤولية، ويقولون لماذا دفعت؟». ويجيب قائلاً: «حتى لو صدر حكم ببراءة المقرحي، فالنظام القضائي في أميركا يسمح، مع ذلك، برفع قضية مدنية ضد ليبيا، وكانوا سيحصلون على عشرات مليارات الدولارات، بما قيمته أكبر بكثير من قيمة التعويضات. لهذا لجأنا لما يعرف بالحل خارج المحكمة... ووصلنا إلى صيغة بدفع عشرة ملايين دولار لكل ضحية، على دفعات».
كانت الدفعة الأولى أربعة ملايين دولار لكل أهل ضحية، تدفع عند رفع العقوبات الأممية عن ليبيا، والتي كانت قد صدرت بالقرار رقم 748. ثم عند رفع العقوبات الأميركية، يتم دفع مبلغ أربعة ملايين دولار أخرى لكل عائلة ضحية. وبعد ذلك، وعند رفع اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، يتم دفع المليونين المتبقيين لكل ذي ضحية.
وتمكنت ليبيا من دفع ثمانية ملايين دولار لعائلة كل ضحية من ضحايا لوكربي. ويقول مساعد سيف القذافي: «كان هناك جدول زمني لهذا الموضوع... دفعنا الثمانية ملايين دولار، لكن المليونين الأخيرين لم ندفعهما، لأن الجانب الأميركي تأخر في رفع اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، حتى أبريل (نيسان) 2006. وكان يفترض أن يرفع اسم ليبيا من هذه القائمة سنة 2003».
وفي سنة 2008 بدأت بعض القضايا تُرفع أمام المحاكم الأميركية، لتجميد أرصدة ليبية في الخارج، جزء منها في قضايا أخرى متهمة بها ليبيا بالإرهاب في العالم. ويضيف مساعد سيف الإسلام: «وبالفعل صدر حكم في محكمة اتحادية، في نيويورك، بتجميد أرصدة ليبية، فكان لا بد من إيجاد حل شامل، لأن محامينا، والإدارة الأميركية في ذلك الوقت، نصحونا، وقالوا لنا حلوا المشكلة الآن، قبل أن تتضخم وقد تصل قيمة التعويضات إلى مئات المليارات».
وعلى هذا الأساس تم تشكيل لجنة «الاتفاق الشامل»، بعد أن التقى سيف الإسلام، مع ديفيد وولش، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، واللقاء تم في برلين. واتفقا على ضرورة المضي قدماً في حل شامل للقضايا العالقة خارج المحكمة على أن تغلق كل القضايا وتمنح المؤسسات الليبية الاعتبارية الحصانة أمام القضاء الأميركي.
وجرى التوصل لاتفاق بدفع مبلغ مليار وخمسمائة مليون دولار لحل كل القضايا العالقة مع ليبيا في الخارج، بالكامل. على أن تُسقط كل القضايا المرفوعة ضد ليبيا، بعد دفع هذا المبلغ، ويكون غير مسموح أن ترفع أي قضية ضد ليبيا في أميركا مجدداً، وإعطاء حصانة لمسؤولي الدولة الليبية، وللأصول الليبية، بحيث لا يستطيع أحد أن يجمدها.
ويقول المساعد القريب لسيف الإسلام إن «الفكرة كانت تنصب على إنشاء صندوق قيمته مليار وخمسمائة مليون دولار، لكن بعد ذلك أصرَّ القائد (القذافي) وقال: لا... فبالإضافة إلى تعويض ما يسمى بضحايا الإرهاب الليبي، يجب أن يُعوَّض الليبيون الذين هم ضحايا الغارة الأميركية على ليبيا عام 1986. وعلى هذا أضيف للصندوق مبلغ 300 مليون دولار كتعويض للجانب الليبي عن غارة 1986، وبالتالي أصبح المبلغ الإجمالي لصندوق التعويضات الشامل، ملياراً و800 مليون دولار».
وتغطي مخصصات الصندوق الجديدة، مبلغ المليوني دولار لكل ضحية من ضحايا لوكربي التي لم تكن ليبيا قد سددتها بعد، كما يغطي جميع القضايا الأخرى. ويضيف مساعد نجل القذافي: «صدر بالتالي قرار رئاسي من الرئيس بوش، في ذلك الوقت، باعتماد هذه الاتفاقية، ثم صدر قانون من الكونغرس باعتمادها أيضاً». ويوضح أن «الخزانة الليبية لم تدفع مليماً واحداً، إنما جرى تمويل الصندوق من شركات وتبرعات». ويزيد أن «قطر دفعت مبلغ 500 مليون دولار عن الدولة الليبية لإنجاز هذا الاتفاق».
وعن السبب الذي دفع القطريين إلى هذا الأمر، يوضح مساعد سيف الإسلام قائلا إن القطريين كانوا يسعون من وراء ما دفعوه لصندوق ضحايا الإيدز مع الأوروبيين، وصندوق الاتفاق الشامل مع الأميركيين، والذي بلغ إجماليه 900 مليون دولار، إلى «ترضية الأطراف الغربية وترضية الليبيين، ومن ثمَّ الحصول على مشاريع بتسهيلات كبيرة في ليبيا... كانت أعينهم على عقود الغاز. وكذلك كان لديهم مشروع المصرف الليبي القطري، ومشروع استثماري كبير اسمه باب طرابلس، في طريق السكة... كل هذه الأراضي كانوا يريدون أخذها». ويضيف: «كانوا يريدون تأسيس مشروع الشركة الليبية القطرية، في منطقة جنزور... وإقامة إنشاءات عقارية أيضا. وكان هناك شركة اسمها فرنكس، كندية، تملك مع المؤسسة الليبية للاستثمار مجموعة حقول في منطقة حوض غدامس النفطي. وكان القطريون يريدون شراء هذه الأصول»، بحسب معلومات المسؤول الليبي السابق الذي عمل لفترة طويلة إلى جانب نجل القذافي.
وفيما يخص خلفية عدم التفاهم بين القطريين والليبيين، في ذلك الوقت، على كل هذه المشروعات والخطط الاستثمارية، يقول مساعد سيف الإسلام: «طبعاً البيروقراطية والإجراءات الإدارية الليبية، ثم إن القطريين كانوا يريدون الشيء الذي قيمته دولار، بسنت. وأنا أتذكر تقريباً في صيف 2010 جاء الشيخ حمد بن جاسم إلى طرابلس، والتقى بسيف الإسلام. وكان الدكتور البغدادي المحمودي موجوداً، وكان عبد الله السنوسي موجوداً، وكذلك كان شكري غانم حاضراً. كان الشيخ حمد منزعجاً، وقال: أنتم - ما معناه - ضحكتم علينا، ونحن أعطيناكم أموالاً، وأنتم لم تفوا بتعهداتكم».
ويتذكر المصدر ذاته تلك الأيام، قائلاً إن الفنيين الليبيين، مثل الدكتور شكري غانم، قالوا للقطريين أنتم تريدون، مثلاً، قطعة الأرض المعروضة بـ300 مليون، بعشرة ملايين فقط... لا. لن نعطيها لكم. فخرج الشيخ حمد، وكان غاضباً، وأرسل رسالة لسيف الإسلام، وعبَّر له فيها عن أنه، أي الشيخ حمد، أصبح في حِلٍّ من كل الالتزامات مع ليبيا. ويضيف: «هذه كانت بداية المشكلة مع قطر في ذلك الصيف». ويؤكد أن سيف الإسلام كان متفهماً لهواجس الخبراء الليبيين من محاولات القطريين.
ويبدو أن قطر كانت تسعى للدخول إلى ليبيا من أي منفذ. وكانت شهيتها مفتوحة للاستثمار في الغاز الليبي الذي يصفه تقي الدين بأنه من أجود أنواع الغاز في العالم. ويقول تقي الدين، متذكراً تلك الأيام التي سبقت 2011: «جاء حمد بن جاسم خلال عشاء عند السنوسي، في ليبيا، بحضور سيف الإسلام، وغانم، وزير النفط، والمحمودي، وأنا، وابن السنوسي، الذي توفي فيما بعد في الحرب». ويروي أن «سيف سأل الشيخ حمد، خلال العشاء، عن مشروعات سياحية يمكن أن يقوم بها القطريون على الشواطئ الليبية، إلا أن الشيخ حمد رد قائلاً: هذا بعدين... لكن كيف نتعاون سوياً، قطر وليبيا، في مجال البترول والغاز؟».
وفي المقابل، لاحظ تقي الدين أن بعض الليبيين، مثل الوزير غانم، لم يكن لديهم ميل لنشاط القطريين المزمع في الغاز والنفط في ليبيا. ويقول إنه فوجئ بعد ذلك بأن الدوحة كان لديها علم بتفاصيل اتفاقيات ليبية بشأن الغاز، مع أطراف في أوروبا. وفي جلسة أخرى على العشاء في فندق في لندن، التقى تقي الدين مع سيف الإسلام، وتحدثا طويلاً عن محاولة قطر الدخول في صفقات الغاز الليبي، وهو ما ترتب عليه إلغاء عقود كانت تسمح لقطر بالاستفادة من هذه الاستثمارات في ليبيا. ويقول: «هذا كان أساس مشكلة قطر مع ليبيا ودعمها للشراذم المسلحة وتمويلها للمتطرفين».
ومن جانبه، كان مساعد سيف الإسلام القذافي وصديقه الشخصي قد تعامل قبل ذلك مع القطريين من خلال لجنة كان عضواً فيها، وكانت مختصة بإعادة المقرحي من سجنه في اسكوتلندا إلى طرابلس. ويقول: «حين أصيب المقرحي بالسرطان، شُكلت لجنة برئاسة مدير المخابرات حينذاك، موسى كوسا، وكان معنا فيها الدكتور إبراهيم الشريف، وهو طبيب ليبي، وعبد العاطي العبيدي، وزير الخارجية السابق، والمستشار عزام الديب، من إدارة القضايا الليبية. وتوجهنا إلى بريطانيا وبدأنا في التفاوض، للإفراج عن المقرحي، إما عن طريق اتفاقية قضائية لنقله لليبيا أو بإفراج صحي، وفقا لما يتيحه القانون الاسكوتلندي في مثل هذه الحالة».
ويضيف: «وفي إطار مراكز الضغط (اللوبي) التقيت أنا وكوسا مع الشيخ حمد، في لندن، في مكان مجاور لفندق دورشستر... وكانت (...) موجودة، وتقوم بتدوين محضر الاجتماع... وتكلمنا معه بأننا نريد مساعدة القطريين لدى الاسكوتلنديين والبريطانيين، فاقترح الشيخ حمد، لكي نكسب الإنجليز، ويساعدوننا، أن ندخل مع القطريين لشراء أسهم في مصرف (...) بريطاني، من أجل حلحلة الأمور. وكانت تلك الأسهم مطروحة للبيع في ذلك الوقت».
ووفقاً لمساعد سيف القذافي، وعد الشيخ حمد الليبيين بأنه بعد أن يتم الانتهاء من صفقة أسهم المصرف البريطاني، ستقوم قطر بدعوة الوزير الأول الاسكوتلندي (رئيس الوزراء) ألكس ساموند، لزيارة الدوحة، وأنهم سيتحدثون معه، في قطر، حول موضوع الإفراج عن المقرحي. ثم قال الشيخ حمد أيضاً إنه سيصدر تعليماته لخالد العطية، وكان وزير دولة في وزارة الخارجية القطرية، لكي يزور المقرحي. ويضيف: «بالفعل رتبت للعطية، وذهب لزيارة المقرحي... كان هذا أول لقاء لي مع الشيخ حمد... لقد طلبنا من القطريين مساعدتنا في إخراج المقرحي، فأدخلونا في البزنس».
وبعد كل تلك العلاقات القطرية - الليبية الطيبة، بدأت أحداث ما يعرف بـ«الربيع العربي» في اجتياح المنطقة انطلاقاً من تونس. وحين بدأت المظاهرات في مصر، شعر القذافي بالغضب مما عده تحاملاً من جانب قطر وقناة «الجزيرة» على الرئيس المصري حسني مبارك... فاتصل بأمير قطر (حمد بن خليفة)، وقال له: لماذا أنتم متحاملون على حسني مبارك وعلى مصر. ويضيف مساعد نجل القذافي، الذي كان شاهداً على القصة: «كان القائد (القذافي) منزعجاً جداً من الخط الذي تبنته قناة الجزيرة وقطر في هذا الموضوع... ووبخ الأمير القطري، خلال المكالمة، وتضمن الاتصال كلاماً قاسياً جداً وجهه له القذافي... وبعد تنحي مبارك، تحدث أحد أبناء أمير قطر مع سيف الإسلام، وقال له: جهزوا أنفسكم... أنتم الهدف المقبل».
ويقول مساعد سيف الإسلام إنه بعد ما دار بين نجل القذافي ونجل الشيخ حمد، تكلم سيف مع مدير كبير في قناة «الجزيرة» في ذلك الوقت، وسأله عما إذا كانت القناة تعمل على موضوع يهدف إلى شحن الشارع الليبي وإثارته ضد نظام القذافي. ويضيف موضحاً أن المدير في «الجزيرة» نفى ذلك لسيف الإسلام و«لكن كانت هناك تعليمات... والتعليمات هي التي فرضت نفسها في النهاية».
ويتابع قائلاً: «بمجرد تفجّر الأحداث في ليبيا، انطلاقاً من بنغازي، في فبراير (شباط) 2011، بدأت قنوات تلفزيونية حملة ممنهجة لشيطنة النظام في ليبيا... وأخذت تروّج أقاويل لا أساس لها من الصحة، كالتضخيم لأعداد قتلى تلك الأحداث. وأن النظام قصف أحياء مدنية بالطائرات، وأنه تم اغتصاب آلاف النساء، وأن طرابلس تعج بالمرتزقة. وبعد ذلك زعمت أن معمر القذافي وعائلته لديهم حسابات بمئات المليارات من الدولارات في الخارج. كل هذه كانت أكاذيب. فبعد مرور سبع سنوات لم يعثر أي كان من أجهزة مخابرات ودول على أي من تلك الحسابات المزعومة». ويضيف أن هذه الحسابات كانت تخص المؤسسة الليبية للاستثمار، وشركة الاستثمارات الخارجية، ومصرف ليبيا المركزي.
ويقول قادة من النظام السابق، وآخرون من الزعماء الحاليين بالمنطقة الشرقية، بمن فيهم الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر، إن تدخل قطر في ليبيا ما زال مستمراً حتى هذه اللحظة. ويوضح مساعد سيف الإسلام أن الدوحة «ما زالت تدعم الإسلاميين، وتمول مؤسسات إعلامية ليبية موجودة حتى في القاهرة»، في إشارة إلى مؤسسة «الوسط»، مشيرا إلى أنه «ثبت» أن من يقوم بتمويلها هي رئاسة الأركان القطرية... ويضيف: «أنا أتفهم أن تقوم دولة بتمويل قناة أو جريدة، عن طريق وزارة إعلام أو وزارة ثقافة، لكن أن تقوم رئاسة الأركان القطرية بتمويل مؤسسة بعينها، فهذه بدعة جديدة في الإعلام».
ووفق وثائق تعود إلى عامي 2013 و2014، فإن تحويل الأموال إلى هذه المؤسسة الليبية، جرى عن طريق شركة قطرية تسمى (...). وشارك في أحد الاجتماعات القطرية، بتاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 2013. والمخصصة للتمويل، كل من مساعد رئيس الأركان القطري للشؤون المالية، والمدير التنفيذي للشركة. وبلغت قيمة تمويل الموازنة في تلك السنة، نحو 8.8 مليون دولار. وتُبيِّن صور لتحويلات مصرفية للمؤسسة الإعلامية، تدفق التمويل القطري، حيث بلغ في شهر واحد، هو يوليو (تموز) من عام 2014، أكثر من 100 ألف دولار أميركي.
ولا تتبع «مؤسسة الوسط» الإسلاميين المتطرفين المرتبطين بقطر. ومعروف أن رئيسها، محمود شمام، وزير الإعلام الليبي السابق، محسوب على الخط المدني في ليبيا. لكن مساعد سيف الإسلام يقول إن الدوحة تريد أن يكون لديها ورقة أخرى ليست من الإسلاميين، لتنفذ أجندتها بالمنطقة. من جهته، يعلّق شمام على هذا الموضوع قائلاً إن هذا التمويل القطري حصل في البداية فقط، وضمن تمويل قطر لتلفزيون قناة «ليبيا الأحرار» وتمويل الثورة الليبية بشكل عام، مشيرا إلى أن علاقة مؤسسة «الوسط» مع التمويل القطري «توقفت... الوسط الآن ليست لها علاقة».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».