حين لا تتسع الرقعة الجغرافية لأكثر من تنظيم متطرّف

هجمات على كابل من «طالبان» وأخرى عبر «داعش»

قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

حين لا تتسع الرقعة الجغرافية لأكثر من تنظيم متطرّف

قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

في حرب تنافسية ما بين التنظيمات المتطرفة، تتوالى الضربات على مدينة كابل وما حولها، تتلقى العاصمة الهجمات تارةً من حركة طالبان وتارة أخرى عبر تنظيم داعش بفرعه الأفغاني، كل تنظيم يسعى من أجل الحصول على أكبر مساحة من الأراضي الأفغانية التي صنفها تقرير للأمم المتحدة بأنها لا تزال واحدة من أخطر وأعنف بلدان العالم التي تعصف بها الأزمات.
وشكّل ازدهار نشاط تنظيم داعش، على الرغم من حداثة عهده في النطاق الجغرافي لأفغانستان، تهديداً وجودياً أزّم حركة طالبان، لا سيما أن التنظيم تمكّن من جذب عدد من المجموعات المحسوبة على حركة طالبان، بالإضافة إلى نقله شراسته المتعارف عليها في العراق وسوريا إلى كابل وما وراءها من خلال تنفيذ هجمات إرهابية عديدة. الأمر الذي أدّى إلى ما يشبه التسابق ما بين الجهتين وتوسيع لنطاق الهجمات بشكلٍ عام لتستهدف من خلال هجماتها الجهات الأمنية والمناطق الدبلوماسية والمساجد.
وتبنّت حركة طالبان مؤخراً هجوماً مسلحاً استهدف فندق إنتركونتيننتال مما أسفر عن مقتل 20 شخصاً من بينهم 4 أميركيين. وتضمنت الرسالة المباشرة التي تم الكشف عنها ما يشي برغبة في تسليط الضوء على السياسات الأميركية الصارمة حيالها وتهديد السلطات الأميركية في حال استمرّت على ذات النهج، إذ صرّحت حركة طالبان بأن: «الهجومين رسالة إلى ترمب بأن سياسته العدوانية لا تجدي». إلا أن سياق الأحداث يؤكّد أن تكثيف الهجمات يبطن استماتة في محاولة لإثبات استمرارية حركة طالبان والنجاح في اعتبارها القطب الوحيد والتنظيم المتطرف الأكثر سيطرة على الساحة الأفغانية. لا سيما أن القوات الأميركية سعت جاهدة لأن توجّه ضرباتها إلى حركة طالبان مما قوّض من قوّتها.

التهديد الأميركي لحركة طالبان
توالت الضغوط الناجمة عن استهداف القوات الأميركية لحركة طالبان في الآونة الأخيرة، على اعتبار أن حركة طالبان تحمل تهديداً أمنياً للعالم، فبالتالي صوّغت الجهات الأمنية الأميركية سياسة الحرب الاستباقية الموجهة إلى «طالبان»، على أساس أنْ لا سبيل للتوصل إلى مهادنة معها. مما دفعها إلى التركيز على الضربات العسكرية بهدف تقويض قوتها، بالأخص في ظل وجودها في منطقة منعدمة الاستقرار أمدتها بقدرات تتيح لها تنفيذ تطلعاتها التخريبية. الأمر الذي أثار القلق الأميركي من احتمال نقل الاضطرابات السياسية وأعمال العنف إلى مناطق أخرى، وقد عزّز من قوة حركة طالبان وجودها في المنطقة منذ فترة التسعينات في أعقاب انسحاب الاتحاد السوفياتي السابق مما أعطاها ما يوحي بشرعيتها في أفغانستان. بالأخص في ظل مرور الدولة بما يعد اضطراباً سياسياً منذ إطاحة الولايات المتحدة بنظام «طالبان» في عام 2001 نتيجة دعمه لتنظيم القاعدة. وتمكنت حركة طالبان من الصمود واستمرارية سيطرتها على مناطق عديدة في أفغانستان. وقد سعت الحكومة الأفغانية في أحايين عديدة للخوض في مفاوضات مع «طالبان» من أجل إيقاف العنف.
وقد يكون قرار الرئيس الأميركي ترمب استبقاء القوات الأميركية في أفغانستان، وتكثيفها الهجوم على حركة طالبان بغارات عسكرية في الآونة الأخيرة، أشبه بامتداد للحرب التي شنتها الولايات المتحدة على «طالبان» منذ مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وقد اتخذت ذات النهج الذي قضت فيه على أماكن نفوذ تنظيم داعش في العراق وسوريا. وقد تضمنت الهجمات الأميركية على «طالبان» استهدافاً لمراكز تدريبهم مثل ما حدث مؤخراً في ولاية بداخشتان القريبة من المناطق الحدودية مع الصين وطاجيكستان. إضافة إلى شن غارات جوية متتالية للقضاء على أكبر قدر من أعضاء الحركة. وقد أفضى ذلك إلى مقتل زعيم تنظيم الدولة عبد الحسيب في عملية مشتركة للقوات الأفغانية والأميركية، ومن قبله حفيظ سعيد خان الذي قُتل هو الآخر من خلال غارة أميركية جوية. ذلك الاستهداف أدّى إلى شروع حركة طالبان بتنفيذ هجمات إرهابية متوالية تستهدف كل ما يتعلق بالمصالح الأميركية، من أجل تنفيذ وعيد «طالبان» من جهتها بجعل أفغانستان مقبرة للأميركيين في حال عدم انسحابهم.
ولا يعدّ الوجود الداعشي في منطقة أفغانستان جديداً، إذ يعود سعي التنظيم إلى التغلغل في المنطقة إلى عام 2015، حين تم إنشاء تنظيم الدولة في خراسان بهدف مد نفوذه في كل من أفغانستان وباكستان. ويؤكد ذلك مدى براغماتية التنظيم، إذ إنه في ذلك العام لم يمنعه سعيه لتكوين خلافة داعشية في منطقة أخرى من مساعيه في جعل منطقة أفغانستان امتداداً لنفوذه. وقد أرسلت حركة طالبان فور بدء تنظيم داعش مساعيه في أفغانستان، خطاباً حمل توقيع الملا مختار منصور رئيس اللجنة السياسية في «طالبان»، من أجل حث تنظيم داعش على الكف عن تجنيد المقاتلين في أفغانستان، وقد شدّد فيه على أن أفغانستان لا تتسع إلا لعَلَم واحد وقيادة واحدة للقتال. مما يعكس مدى قلق حركة طالبان حيال الوجود الداعشي الجديد في المنطقة، خصوصاً أن ذلك أدى إلى انقسام مجموعات متطرفة كانت مناصرة لحركة طالبان، وذلك من أجل الانضمام إلى تنظيم داعش، وذلك على الرغم من قلة أعضائه وحداثة عهده وافتقاره إلى التاريخ القديم في القتال في المنطقة على غرار حركة طالبان وتنظيم القاعدة، الذي سهّل لـ«طالبان» إمكانية الحصول على مناصرين في مناطق عديدة في أفغانستان. وقد كان ضعف الوضع الأمني والسياسي في أفغانستان للحركة فرصة لإقناع العديد من الأفغان بأنها الحل الوحيد من أجل إعادة البلاد إلى عهدها السابق. وإعدادهم من خلال التدريب العسكري والآيديولوجي في معسكرات تدريب تابعة لهم، استغلت توعّر المناطق الجبلية في أفغانستان من أجل تحويل أي حرب إلى ما هو أشبه بحرب عصابات يصعب استهدافهم من خلالها.

أسباب التغلغل {الداعشي}
وعلى الرغم من انبثاق منهجية حركة طالبان في استقطابها للمناصرين من مبدأ اللُّحمة الوطنية والعودة بالتاريخ لفترة عهدهم، من أجل إثبات أن حراكهم وحده يعدّ أفضل حل للبلاد مما يحتم أهمية استعادتهم لحكم البلاد، فإن تنظيم داعش من جهة أخرى يسعى إلى قولبة تنظيمه بمظهر يشدد فيه على عدم اكتراثه بأصول وأعراق مناصريه وتوجهاتهم السابقة، وإنما يسعى بأسلوب جماهيري لاستقطاب كل الجنسيات على النهج الذي اتخذه من قبل في كلٍّ من سوريا والعراق وأدّى إلى تهافت المتطرفين على تلك المنطقة، بينما يستقطب تنظيم داعش في أفغانستان مقاتلين من دول مجاورة مثل أوزبكستان وطاجيكستان دون تمييز عنصري ما بين أعضائه. فكل من يتبنى فكر التنظيم ويعلن ولاءه له يتم الترحيب به، بغض النظر عن أي أمر آخر. بينما يعد كل من يخالف مبادئهم عدواً لهم، وقد استفاد تنظيم داعش من تصعيد الخلاف بين الطوائف الدينية المختلفة كما حدث في كلٍّ من العراق وسوريا، وذلك أحد أهم مسببات انقسام التنظيم عن «القاعدة»، وإن كانت أفغانستان لا تحوي نسبة كبيرة من الشيعة، إلا أن وجودهم أعطى الفرصة لأن يشن التنظيم عدداً من الهجمات التي استهدفت الشيعة في أفغانستان ومساجدهم وأماكن تجمعهم، والتي بإمكانها أن تستجلب أعضاء ينضمون إليهم بغرض التهجّم على الأقليات الدينية أو المذهبية، مما يكوّن للتنظيم حيّزاً جديداً يحوي مناصرين جدداً يرحّبون بهم، وذلك يعد مهماً، إذ يتيح لأعضائه فرصة الانتقال إلى منطقة ينعدم فيها الأمن للاستقرار فيها والتمكن من السيطرة على جزء منها، ليتم اعتبارها بديلاً بعد أن تبدّدت فرصة تحقيق «داعش» استراتيجيته السابقة المتضمنة إنشاء خلافة داعشية في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من اختلاف طبيعة التضاريس في أفغانستان التي تتميز بوعورة جبالها، إذ قد يشكّل ذلك إرباكاً للتنظيم لعدم فهمه طرق التخفي وحماية أنفسهم، فإن التنظيم تمكن من التغلغل والوصول إلى جماعات انضمت إليه وتركت حركة طالبان. ويعد ذلك مفصلياً بالنسبة إلى «داعش»، إذ لا بد من الاعتماد على السكّان الأصليين هناك من أجل مدّهم بالمعرفة بجغرافية البلاد وطباع سكّانه، وطرق كسب ودّهم، لا سيما أن المناطق الجبلية إنْ تم فهم سبلها تسهّل على المتطرفين التخفي، مما يصعّب الوصول إليهم. ويَظهر مبلغ تمكُّن تنظيم داعش في أفغانستان، من قدرته على السيطرة على أراضي تورا بورا الحدودية في إقليم ننكرهار، وقد اشتهرت أراضيها فيما قبل باحتضانها قائد تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن.
جميع تلك الحيثيات دفعت بحركة طالبان إلى الشعور بتعرضها للضغوط من أجل التعجل بالقيام بهجمات الإرهابية، والسعي في الكشف عن مدى قوة السلطات الأفغانية من جهة، ولمحاولة إثبات أنها لا تزال في أوج قوتها ولم تفقد القدرة على التصعيد، لا سيما في ظل وجود القوات الأميركية المستهدفة لها، إضافة إلى تنافس تنظيم داعش في محاولة إبراز حضوره في الساحة، وهو بالفعل يشكّل خطورة على أفغانستان، بل قد يؤدي الأمر إلى انتقال خطورتها إلى باكستان والدول المجاورة مثل الهند وإيران. خصوصاً أن الفكر الداعشي يَعتبر كل من يخالفه كافراً لا بد من محاربته.


مقالات ذات صلة

المشرق العربي طائرة من سلاح الجو العراقي خلال إحدى المهمات ضد تنظيم «داعش» (أرشيفية - واع)

العراق: المجال الجوي غير مؤمّن بالكامل

أقر العراق بأن مجاله الجوي غير مؤمّن بالكامل، في حين أكد اتخاذ إجراءات لتحسين القدرات الدفاعية بعد التعاقد مع كوريا الجنوبية قبل أشهر لامتلاك منظومة متطورة.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي الجيش العراقي يُطلق النار على مسلحي «داعش» عام 2017 (رويترز)

العراق: انفجار قنبلة يصيب 4 في كركوك

كشفت مصادر بالشرطة أن أربعة أصيبوا عندما انفجرت قنبلة على جانب أحد الطرق في مدينة كركوك بشمال العراق اليوم (السبت).

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي عناصر من القوات الحكومية في البادية (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

دمشق تواصل تمشيط البادية شرق حمص وملاحقة «داعش» بدعم من الطيران الروسي

رجّحت مصادر محلية أن يكون هدف حملة تقوم بها قوات تابعة لدمشق هو تأمين طرق البادية السورية الواصلة بين مناطق الحدود مع العراق ومحافظة حمص.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي فوزية أمين سيدو امرأة إيزيدية اختطفها «داعش» في العراق وتم إنقاذها بعملية في غزة (وزارة الخارجية العراقية)

عملية بقيادة أميركية تحرر إيزيدية من غزة بعد 10 سنوات في الأسر

قال مسؤولون عراقيون وأميركيون إن شابة إيزيدية عمرها 21 عاماً اختطفها مسلحون من تنظيم «داعش» في العراق قبل أكثر من عقد تم تحريرها من قطاع غزة هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.