حين لا تتسع الرقعة الجغرافية لأكثر من تنظيم متطرّف

هجمات على كابل من «طالبان» وأخرى عبر «داعش»

قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

حين لا تتسع الرقعة الجغرافية لأكثر من تنظيم متطرّف

قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
قوات أفغانية أمام أكاديمية مارشال فهيم العسكرية التي تعرضت لهجوم إرهابي نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

في حرب تنافسية ما بين التنظيمات المتطرفة، تتوالى الضربات على مدينة كابل وما حولها، تتلقى العاصمة الهجمات تارةً من حركة طالبان وتارة أخرى عبر تنظيم داعش بفرعه الأفغاني، كل تنظيم يسعى من أجل الحصول على أكبر مساحة من الأراضي الأفغانية التي صنفها تقرير للأمم المتحدة بأنها لا تزال واحدة من أخطر وأعنف بلدان العالم التي تعصف بها الأزمات.
وشكّل ازدهار نشاط تنظيم داعش، على الرغم من حداثة عهده في النطاق الجغرافي لأفغانستان، تهديداً وجودياً أزّم حركة طالبان، لا سيما أن التنظيم تمكّن من جذب عدد من المجموعات المحسوبة على حركة طالبان، بالإضافة إلى نقله شراسته المتعارف عليها في العراق وسوريا إلى كابل وما وراءها من خلال تنفيذ هجمات إرهابية عديدة. الأمر الذي أدّى إلى ما يشبه التسابق ما بين الجهتين وتوسيع لنطاق الهجمات بشكلٍ عام لتستهدف من خلال هجماتها الجهات الأمنية والمناطق الدبلوماسية والمساجد.
وتبنّت حركة طالبان مؤخراً هجوماً مسلحاً استهدف فندق إنتركونتيننتال مما أسفر عن مقتل 20 شخصاً من بينهم 4 أميركيين. وتضمنت الرسالة المباشرة التي تم الكشف عنها ما يشي برغبة في تسليط الضوء على السياسات الأميركية الصارمة حيالها وتهديد السلطات الأميركية في حال استمرّت على ذات النهج، إذ صرّحت حركة طالبان بأن: «الهجومين رسالة إلى ترمب بأن سياسته العدوانية لا تجدي». إلا أن سياق الأحداث يؤكّد أن تكثيف الهجمات يبطن استماتة في محاولة لإثبات استمرارية حركة طالبان والنجاح في اعتبارها القطب الوحيد والتنظيم المتطرف الأكثر سيطرة على الساحة الأفغانية. لا سيما أن القوات الأميركية سعت جاهدة لأن توجّه ضرباتها إلى حركة طالبان مما قوّض من قوّتها.

التهديد الأميركي لحركة طالبان
توالت الضغوط الناجمة عن استهداف القوات الأميركية لحركة طالبان في الآونة الأخيرة، على اعتبار أن حركة طالبان تحمل تهديداً أمنياً للعالم، فبالتالي صوّغت الجهات الأمنية الأميركية سياسة الحرب الاستباقية الموجهة إلى «طالبان»، على أساس أنْ لا سبيل للتوصل إلى مهادنة معها. مما دفعها إلى التركيز على الضربات العسكرية بهدف تقويض قوتها، بالأخص في ظل وجودها في منطقة منعدمة الاستقرار أمدتها بقدرات تتيح لها تنفيذ تطلعاتها التخريبية. الأمر الذي أثار القلق الأميركي من احتمال نقل الاضطرابات السياسية وأعمال العنف إلى مناطق أخرى، وقد عزّز من قوة حركة طالبان وجودها في المنطقة منذ فترة التسعينات في أعقاب انسحاب الاتحاد السوفياتي السابق مما أعطاها ما يوحي بشرعيتها في أفغانستان. بالأخص في ظل مرور الدولة بما يعد اضطراباً سياسياً منذ إطاحة الولايات المتحدة بنظام «طالبان» في عام 2001 نتيجة دعمه لتنظيم القاعدة. وتمكنت حركة طالبان من الصمود واستمرارية سيطرتها على مناطق عديدة في أفغانستان. وقد سعت الحكومة الأفغانية في أحايين عديدة للخوض في مفاوضات مع «طالبان» من أجل إيقاف العنف.
وقد يكون قرار الرئيس الأميركي ترمب استبقاء القوات الأميركية في أفغانستان، وتكثيفها الهجوم على حركة طالبان بغارات عسكرية في الآونة الأخيرة، أشبه بامتداد للحرب التي شنتها الولايات المتحدة على «طالبان» منذ مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وقد اتخذت ذات النهج الذي قضت فيه على أماكن نفوذ تنظيم داعش في العراق وسوريا. وقد تضمنت الهجمات الأميركية على «طالبان» استهدافاً لمراكز تدريبهم مثل ما حدث مؤخراً في ولاية بداخشتان القريبة من المناطق الحدودية مع الصين وطاجيكستان. إضافة إلى شن غارات جوية متتالية للقضاء على أكبر قدر من أعضاء الحركة. وقد أفضى ذلك إلى مقتل زعيم تنظيم الدولة عبد الحسيب في عملية مشتركة للقوات الأفغانية والأميركية، ومن قبله حفيظ سعيد خان الذي قُتل هو الآخر من خلال غارة أميركية جوية. ذلك الاستهداف أدّى إلى شروع حركة طالبان بتنفيذ هجمات إرهابية متوالية تستهدف كل ما يتعلق بالمصالح الأميركية، من أجل تنفيذ وعيد «طالبان» من جهتها بجعل أفغانستان مقبرة للأميركيين في حال عدم انسحابهم.
ولا يعدّ الوجود الداعشي في منطقة أفغانستان جديداً، إذ يعود سعي التنظيم إلى التغلغل في المنطقة إلى عام 2015، حين تم إنشاء تنظيم الدولة في خراسان بهدف مد نفوذه في كل من أفغانستان وباكستان. ويؤكد ذلك مدى براغماتية التنظيم، إذ إنه في ذلك العام لم يمنعه سعيه لتكوين خلافة داعشية في منطقة أخرى من مساعيه في جعل منطقة أفغانستان امتداداً لنفوذه. وقد أرسلت حركة طالبان فور بدء تنظيم داعش مساعيه في أفغانستان، خطاباً حمل توقيع الملا مختار منصور رئيس اللجنة السياسية في «طالبان»، من أجل حث تنظيم داعش على الكف عن تجنيد المقاتلين في أفغانستان، وقد شدّد فيه على أن أفغانستان لا تتسع إلا لعَلَم واحد وقيادة واحدة للقتال. مما يعكس مدى قلق حركة طالبان حيال الوجود الداعشي الجديد في المنطقة، خصوصاً أن ذلك أدى إلى انقسام مجموعات متطرفة كانت مناصرة لحركة طالبان، وذلك من أجل الانضمام إلى تنظيم داعش، وذلك على الرغم من قلة أعضائه وحداثة عهده وافتقاره إلى التاريخ القديم في القتال في المنطقة على غرار حركة طالبان وتنظيم القاعدة، الذي سهّل لـ«طالبان» إمكانية الحصول على مناصرين في مناطق عديدة في أفغانستان. وقد كان ضعف الوضع الأمني والسياسي في أفغانستان للحركة فرصة لإقناع العديد من الأفغان بأنها الحل الوحيد من أجل إعادة البلاد إلى عهدها السابق. وإعدادهم من خلال التدريب العسكري والآيديولوجي في معسكرات تدريب تابعة لهم، استغلت توعّر المناطق الجبلية في أفغانستان من أجل تحويل أي حرب إلى ما هو أشبه بحرب عصابات يصعب استهدافهم من خلالها.

أسباب التغلغل {الداعشي}
وعلى الرغم من انبثاق منهجية حركة طالبان في استقطابها للمناصرين من مبدأ اللُّحمة الوطنية والعودة بالتاريخ لفترة عهدهم، من أجل إثبات أن حراكهم وحده يعدّ أفضل حل للبلاد مما يحتم أهمية استعادتهم لحكم البلاد، فإن تنظيم داعش من جهة أخرى يسعى إلى قولبة تنظيمه بمظهر يشدد فيه على عدم اكتراثه بأصول وأعراق مناصريه وتوجهاتهم السابقة، وإنما يسعى بأسلوب جماهيري لاستقطاب كل الجنسيات على النهج الذي اتخذه من قبل في كلٍّ من سوريا والعراق وأدّى إلى تهافت المتطرفين على تلك المنطقة، بينما يستقطب تنظيم داعش في أفغانستان مقاتلين من دول مجاورة مثل أوزبكستان وطاجيكستان دون تمييز عنصري ما بين أعضائه. فكل من يتبنى فكر التنظيم ويعلن ولاءه له يتم الترحيب به، بغض النظر عن أي أمر آخر. بينما يعد كل من يخالف مبادئهم عدواً لهم، وقد استفاد تنظيم داعش من تصعيد الخلاف بين الطوائف الدينية المختلفة كما حدث في كلٍّ من العراق وسوريا، وذلك أحد أهم مسببات انقسام التنظيم عن «القاعدة»، وإن كانت أفغانستان لا تحوي نسبة كبيرة من الشيعة، إلا أن وجودهم أعطى الفرصة لأن يشن التنظيم عدداً من الهجمات التي استهدفت الشيعة في أفغانستان ومساجدهم وأماكن تجمعهم، والتي بإمكانها أن تستجلب أعضاء ينضمون إليهم بغرض التهجّم على الأقليات الدينية أو المذهبية، مما يكوّن للتنظيم حيّزاً جديداً يحوي مناصرين جدداً يرحّبون بهم، وذلك يعد مهماً، إذ يتيح لأعضائه فرصة الانتقال إلى منطقة ينعدم فيها الأمن للاستقرار فيها والتمكن من السيطرة على جزء منها، ليتم اعتبارها بديلاً بعد أن تبدّدت فرصة تحقيق «داعش» استراتيجيته السابقة المتضمنة إنشاء خلافة داعشية في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من اختلاف طبيعة التضاريس في أفغانستان التي تتميز بوعورة جبالها، إذ قد يشكّل ذلك إرباكاً للتنظيم لعدم فهمه طرق التخفي وحماية أنفسهم، فإن التنظيم تمكن من التغلغل والوصول إلى جماعات انضمت إليه وتركت حركة طالبان. ويعد ذلك مفصلياً بالنسبة إلى «داعش»، إذ لا بد من الاعتماد على السكّان الأصليين هناك من أجل مدّهم بالمعرفة بجغرافية البلاد وطباع سكّانه، وطرق كسب ودّهم، لا سيما أن المناطق الجبلية إنْ تم فهم سبلها تسهّل على المتطرفين التخفي، مما يصعّب الوصول إليهم. ويَظهر مبلغ تمكُّن تنظيم داعش في أفغانستان، من قدرته على السيطرة على أراضي تورا بورا الحدودية في إقليم ننكرهار، وقد اشتهرت أراضيها فيما قبل باحتضانها قائد تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن.
جميع تلك الحيثيات دفعت بحركة طالبان إلى الشعور بتعرضها للضغوط من أجل التعجل بالقيام بهجمات الإرهابية، والسعي في الكشف عن مدى قوة السلطات الأفغانية من جهة، ولمحاولة إثبات أنها لا تزال في أوج قوتها ولم تفقد القدرة على التصعيد، لا سيما في ظل وجود القوات الأميركية المستهدفة لها، إضافة إلى تنافس تنظيم داعش في محاولة إبراز حضوره في الساحة، وهو بالفعل يشكّل خطورة على أفغانستان، بل قد يؤدي الأمر إلى انتقال خطورتها إلى باكستان والدول المجاورة مثل الهند وإيران. خصوصاً أن الفكر الداعشي يَعتبر كل من يخالفه كافراً لا بد من محاربته.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».