ظاهرة «إهداء الكتب» في سياق الثقافة العراقية

ديوان أهدي للسياب عمره 66 عاماً بيع بأقل من دولار

غلاف ديوان موسى النقدي - صورة الإهداء إلى السياب
غلاف ديوان موسى النقدي - صورة الإهداء إلى السياب
TT

ظاهرة «إهداء الكتب» في سياق الثقافة العراقية

غلاف ديوان موسى النقدي - صورة الإهداء إلى السياب
غلاف ديوان موسى النقدي - صورة الإهداء إلى السياب

في كشك صغير لبيع الكتب محاذٍ لسياج مرأب للسيارات في حي البياع جنوب غربي العاصمة بغداد، قادتني الصدفة إلى معاينة بسطة الكتب المتواضعة، فعثرت على ديوان للشاعر العمودي الراحل موسى النقدي وضع له عنوان (أجنحة النور)، واكتشفت أن غلاف الديوان الأصفر، يخبئ خلفه إهداء إلى الشاعر بدر شاكر السياب، كتب بخط أنيق وواضح العبارة التالية: «هدية إلى الأستاذ الشاعر المبدع بدر شاكر السياب هدية تقدير وفوق الإعجاب.... المؤلف 10-6-1952».
صدفة أخرى محببة، قادتني إلى التعرف على أحمد جواد النقدي نجل أخ الشاعر موسى النقدي فعرضت عليه الديوان والإهداء، فقلّب أحمد الكتاب بهدوء وابتسم بغموض، مستغربا من كيفية حصولي على هذه النسخة، وهو يخبئ تحت ابتسامته حكاية طريفة سمعها من أبيه جواد ومن عمه موسى، مرتبطة بقصة الإهداء تلك.
الحكاية تعود إلى عام 1952. حين اشتراك بدر السياب في المظاهرة المشهورة التي أمسكت بلحظتها صورة متداولة للسياب وهو يعتلي السلم الخشبي الذي يمسك به الشاعر الفريد سمعان.
الحكاية والصورة معروفتان في الأوساط الثقافية العراقية، حيث جوبهت المظاهرة بالشدة من قبل قوات الشرطة حينذاك، وفر السياب هاربا، لكن الشيء غير المعروف هنا هي الوجهة التي هرب إليها السياب. وهو أمر يكشف عنه أحمد النقدي ابن أخ الشاعر موسى النقدي، حيث يقول: إن مقر الاختباء المؤقت للسياب كان في بيت أبيه جواد النقدي، ريثما يتمكن من ترتيب مسألة عودته إلى البصرة، وأثناء وجوده في البيت أهداه الشاعر موسى النقدي ديوانه (أجنحة النور) الآنف الذكر، وبعد أن هدأت الأمور نسبيا والكلام لأحمد، عمد السياب، إلى استعارة، دشداشة (الرداء التقليدي في العراق) مضيفه جواد النقدي، ليتسنى له التخفي في الزي الشعبي بمدينة الكاظمية، تمهيداً للعودة إلى داره في محافظة البصرة بواسطة القطار.
الطريف في الأمر، حسب أحمد، أن والده جواد النقدي، كلما يسرد هذه الواقعة، ورغم مرور السنين فإنه غالبا ما كان يكرر السؤال ذاته: بعيدا عن الشعر والسياب وموسى النقدي، دشداشتي وين صارت (أين دشداشتي)؟، ولعله كان يعني أن المظاهرات والشعر لا يورثان إلا الفقدان!
هذه الحكاية ربما تسحبنا إلى موضوع يتعلق بقضية إهداء الكتب والإصدارات الأدبية في السياق الثقافي العراقي العام، وتضطرنا ربما لطرح سؤال بهذه الصيغة: ترى كم من إهداء أهمل أو ضاع في أروقة الفنادق، أو على البسطات ومقاعد سيارات الأجرة، بقصد أو من دونه، تائها وهو يحمل شذى التعابير الشفافة والحميمة؟!
إهداء الكتب الأدبية ودواوين الشعر ظاهرة شائعة في سياق الثقافة العراقية، والثقافة العربية بالطبع، بين الكتاب والأدباء وبين بعضهم البعض، وهي ظاهرة يختلط فيها الاحترام والتقدير من جانب، والسخرية وعدم الاكتراث من جانب آخر، حتى أن شاعرا معروفا يتندر غالبا من أن أكثر الكتب المهداة التي تصله مصيرها أيدي أطفاله الصغار!
يمكن القول بشيء من الحذر، إن الإهداءات تتوزع عموما على صنفين، الأول يتعلق بإهداءات مشاهير وكبار الكتاب والأدباء ويحظى هذا النوع باهتمام المهدى إليه، أما إهداءات الكتاب الأقل شأنا فغالبا ما تهمل، والثاني يتعلق بورثة الكاتب أو الأديب الراحل، فإنهم يهملون تلك الإهداءات وربما يبيعونها بمجرد رحيل الأب إلى العالم الآخر، لذلك تجدها مرمية على البسطات أو على رفوف المكتبات.
المناسبة تقودنا إلى الحديث عن الببلوغرافي الحلي الراحل الدكتور صباح المرزوق الذي كان مولعا باقتناء الكتب الممهورة بتوقيع مؤلفها، وكان غالبا ما يبحث عن تلك النوعيات من الكتب والإهداءات في المكاتب والبسطيات في شارع المتنبي ببغداد والمكتبات الأخرى في بقية المحافظات، ليضيفها إلى رفوف مكتبته، وكثيرا ما كان يرينا قسماً منها.
أتذكر أنه عرض يوما ديوانا للشاعر علي عبد الأمير عجام عنوانه «يدان تشيران إلى فكرة الألم» كتب عليه إهداء لشاعر معروف وبخط أنيق ولغة لينة ومشاعر رقيقة استوعبت نصف الصفحة الأولى من الديوان تقريبا، لكنها لم تكن كافية ما يبدو لاحتفاظه به، فوجده المرزوق في إحدى بسطات الكتب المتواضعة، أتذكر أن المرزوق قال لي بحسرة: «ماذا يكتب علي عبد الأمير بعد حتى يحتفظ به المهدى إليه؟».
في مهرجان قصيدة النثر الثالث الذي أقيم في محافظة البصرة العام الماضي، همس الناقد الدكتور مالك المطلبي بعد أن أهدي إليه نحو 70 كتابا: «إذا لم أجد أحدا، يعيني على حملها إلى بغداد، سأتركها في الفندق». والمطلبي المعروف بتعليقاته الساخرة، وجديته القاهرة، لم يترك لنا مجالا لكي نأخذ تصريحه على أي محمل.
الحق، كنا نرجح تركها في الفندق، نسبة لعدم قدرته على حملها، رغم حيويته الظاهرة. لكننا لمحنا المطلبي في اليوم التالي من بعيد وهو يجرجر الحقيبة المليئة بالكتب وحده متحاملا على نفسه وبالكاد ساعده أحد الأصدقاء على حملها إلى السيارة.
لقد كان تقديرنا خاطئا.
على أن ثقافة الإهداء، تطورت في السنوات الأخيرة، وانتقلت من فكرة توصيل الكتاب وإهدائه بشكل شخصي إلى ثقافة توقيع الكتاب في حفل أدبي تتم فيه مناقشة الكتاب، ومن ثم توزيعه، ممهورا بتوقيع الكاتب، وهذا التقليد أتاحته بعض المكتبات والصالونات الأدبية وأصحاب دور، حيث يعمدون إلى إقامة حفل توقيع كتاب في بعض المقاهي التي انتشرت في حي الكرادة الراقي في بغداد، مثل مكتبة ومقهى «قهوة وكتاب» ومقهى «رضا علوان».
وغني عن القول: إن الكتاب العراقي ما زال يوزع بنسخ أكثر إذا ما أهدي مجانا، خلافا لإهدائه بثمن مدفوع، ويبدو أن حفل توقيع وتوزيع الكتاب في العراق والإقبال على شرائه لم يتحول بعد إلى ثقافة تنظر إلى الكتاب باعتباره بضاعة أدبية تستحق الشراء ودفع الثمن.


مقالات ذات صلة

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد

«طويق للنحت» ينطلق في الرياض بمشاركة فنانين من 23 دولة

ستُصبح أعمال الملتقى جزءاً دائماً من ملامح مدينة الرياض الحضارية (الرياض آرت)
ستُصبح أعمال الملتقى جزءاً دائماً من ملامح مدينة الرياض الحضارية (الرياض آرت)
TT

«طويق للنحت» ينطلق في الرياض بمشاركة فنانين من 23 دولة

ستُصبح أعمال الملتقى جزءاً دائماً من ملامح مدينة الرياض الحضارية (الرياض آرت)
ستُصبح أعمال الملتقى جزءاً دائماً من ملامح مدينة الرياض الحضارية (الرياض آرت)

انطلقت، مساء الأربعاء، النسخة السادسة من «ملتقى طويق الدولي للنحت 2025»، الذي يقام تحت شعار «من حينٍ لآخر... متعة الرحلة في صعابها»، وبدأت معها جولة جديدة لصناعة الأعمال الفنية من خلال النحت الحي، ورواية القصص الملهمة وراء كل منحوتة، التي يقدمها الفنانون المشاركون من داخل السعودية وخارجها.

ويشارك في الملتقى، الذي يساهم في إبراز دور السعودية بوصفها مركزاً عالمياً للإبداع والثقافة، 30 فناناً من 23 دولة حول العالم، ينشئون أعمالاً فنية عامة، باستخدام أحجار الجرانيت والبازلت من أرض المملكة، لتكون جزءاً من المشهد الفني والثقافي للعاصمة.

ويُمكِن للزوار التواصل والتفاعل المباشر معهم، وتبادل الثقافات، واكتشاف الأساليب والأدوات المستخدمة في أعمال الملتقى الذي تستضيفه الرياض خلال الفترة بين 15 يناير (كانون الثاني) الحالي و8 فبراير (شباط) المقبل.

30 فناناً من 23 دولة حول العالم ينشئون أعمالاً باستخدام أحجار الجرانيت والبازلت (الرياض آرت)

وقالت سارة الرويتع مديرة الملتقى، الذي يعد أحد برامج «الرياض آرت»، إن المنحوتات الفنية التي يُنتجها نخبة من الفنانين المشاركين في النسخة السادسة ستُصبح جزءاً دائماً من ملامح مدينة الرياض الحضارية.

وأضافت في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «بعد أن تم توزيع منحوتات النسخ السابقة في مواقع بارزة مثل مركز الملك عبد العزيز التاريخي، سيُساهم هذا العام في إضافة المزيد من الأعمال الفنية التي تُثري المشهد الحضري للعاصمة وتُلهم سكانها وزوارها».

وأوضحت الرويتع أن الملتقى، «يُمثل إضافة نوعية إلى المشهد الفني والثقافي للعاصمة، حيث يعكس التزامنا بتحقيق مستهدفات (رؤية السعودية 2030)؛ عبر تعزيز الهوية الثقافية والفنية للمملكة، وتحويل الرياض إلى معرض فني مفتوح يُبرز تطلعاتها كعاصمة عالمية للثقافة والإبداع».

سارة الرويتع مديرة طويق للنحت (الرياض آرت)

وتحتفي النسخة السادسة للملتقى، الذي انطلقت أعمال النحت الحي فيه، الأربعاء، بجمال الإبداع الفني والتبادل الثقافي، من خلال برنامج متكامل يشمل ورشات العمل، والجلسات الحوارية، والجولات التعريفية التي تتيح للزوار فرصة فريدة للتفاعل مع الفنانين ومتابعة إبداعاتهم مباشرة.

وتسلط الضوء على جمال وتحديات رحلة الإبداع الفني، تحت إشراف القيّمين سيباستيان بيتانكور مونتويا، والدكتورة منال الحربي، وتستمر أعمال النحت الحي حتى 8 فبراير، يليها معرض مصاحب يُقام في واجهة روشن بمدينة الرياض بين 12 و24 فبراير، ليعرض الأعمال الفنية النهائية التي ستوزع لاحقاً في مواقع بارزة حول العاصمة، لإضافة لمسة فنية دائمة إلى ملامحها.