الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

بعد قرار تدريس الأمازيغية... وبسببه

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»
TT

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

فجَر قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إطلاق ترتيبات لإنشاء «أكاديمية لتدريس اللغة الأمازيغية»، من جديد، الصراع بين أنصار الاستعاضة عن العربية بالأمازيغية لغةَ تداول رسمية وهم في غالبيتهم مُفرنَسون، و«العروبيين» المتحمّسين لـ«العنصر العربي الإسلامي في الهوية الجزائرية». كانت الأمازيغية قد أصبحت لغة رسمية في الجزائر بجنب العربية، بموجب مراجعة للدستور تمت في 7 فبراير (شباط) 2016. ومن ثم، احتدم خلاف كبير، أخذ في أحيان كثيرة طابعاً آيديولوجياً، بين فريقين: الفريق الأول في هذا الخلاف هو مَن يسميهم الإعلام المحلي «بربريست» (نسبة إلى البربر، السكان الأصليين لشمال أفريقيا) يناضلون من أجل تدريس الأمازيغية في كل الأطوار التعليمية، وقطاع من هؤلاء انخرط في تنظيم انفصالي يطالب باستقلال منطقة القبائل (شرق العاصمة الجزائر) التي يتكلم سكانها – البالغ تعدادهم نحو 3 ملايين – اللغة الأمازيغية. أما الفريق الآخر، فيشكّله «العروبيون» الذين يعتبرونها أهم رافد للهوية ولا يرضون بديلاً عن العربية، التي حلّت محل الفرنسية لغةَ تداول في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وهذا خلال سنوات قليلة بعد الاستقلال عن المستعمر الفرنسي عام 1962.
في أعقاب الضجة التي أثارها قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، إطلاق ترتيبات لإنشاء «أكاديمية لتدريس اللغة الأمازيغية»، التقت «الشرق الأوسط» نخبة من أهم الباحثين الذين يتصدّرون واجهة الإعلام الجزائري لمناقشة موضوع الأمازيغية، وقراءة تفاعلات الموضوع، وما إذا كانت «لهجة» أم «لغة» وعلاقتها بالدين.
امحند أرزقي فرَاد، المؤرخ والباحث الآنثروبولوجي، قال شارحاً: «عادت المسألة الأمازيغية في السنوات الأخيرة إلى مسرح الأحداث ببلدان شمال أفريقية بقوة، وهذا لسببين اثنين على الأقل: أولهما يتمثل في تراكم نضالات أجيال كثيرة من أجل إعادة الاعتبار للمكوّن الأمازيغي في الهويّة المغاربية. والسبب الآخر هو «الربيع العربيّ» الذي رفع الحيف والضيم عن الأمازيغ في ليبيا وتونس».
وبحسب فرَاد، الذي يتحدَر من منطقة القبائل: «لا يختلف اثنان عاقلان حول أمازيغية شمال أفريقية، ومن ثم فإن المتحدّثين بها ليسوا أقلية، وهذا رغم انكماش اللسان الأمازيغي وانحساره في المناطق المعزولة كالجبال والواحات وجزيرة جربة بتونس. وعليه – كما يضيف فرّاد – فإن الجدال حول اللغة الأمازيغية هو في الحقيقة جدال بين إخوة في الجنس والعرق، احتفظ بعضهم بلغة الأجداد، وتعرّب بعضهم الآخر بفعل انتشار اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن. وعليه، من الخطأ اعتبار انتشار اللسانين حالياً معياراً للتمييز بين الجنسين الأمازيغي والعربي».
- تحدّي كتابة اللغة
وحول الحرف الذي ينبغي أن تكتب به الأمازيغية، يقول فرَاد «التحدي الصعب الذي يواجه الأمازيغية بعد تجاوز العقبة السياسية، هو اختيار طريقة كتابتها. فهي الآن تكتب بالأبجديات الثلاث: (التيفيناغ) في الجنوب، والأبجدية العربية في جبال الأوراس وغرداية، والأبجدية اللاتينية في منطقة القبائل. وسبب ذلك التهميش والإقصاء اللذين عانت منهما اللغة لعقود طويلة؛ لذا سعى أبناؤها إلى الحفاظ عليها بكل الطرق كلّ حسب إمكاناته في الجزائر الواسعة». ويضيف فرّاد: «في الحقيقة، تعايشت الأمازيغية مع العربية لقرون طويلة فاقترضت منها الكثير من الكلمات والمصطلحات، وتأثرت بالثقافة الإسلامية إلى درجة يصعب الآن تصوّر كتابتها بغير الأبجدية العربية. لكن، من جهة أخرى، فإن النخبة المُفرنَسة المهيمنة على (المحافظة السامية للأمازيغية) هي التي تكفلت بالنضال من أجل إحيائها وترقيتها بالأبجدية اللاتينية، وهناك ألوف الكتب منشورة بها. أمّا في الجنوب فمن الصعب إقناع إخواننا الطوارق بالتنازل عن الكتابة التيفيناغية الأصيلة ذات الحمولة الرمزية».
- «الهويّة» ومسؤولية فرنسا
من جهة ثانية، أفاد الدكتور أحمد شنَة، أحد أبرز الباحثين بالمجتمع المدني – وهو مسؤول حكومي سابق – بأن اعتماد اللغة الأمازيغية لغةً رسميةً في البلاد «لا يعني أنه سيتم تلقائياً إبعاد اللغة العربية أو التقليل من شأنها أو إنزالها إلى المرتبة الثانية. ذلك ما لن نقبله مهما كانت الظروف والمسوّغات... كما أننا لن نقبل أيضاً تهميش باقي اللهجات الأمازيغية، كالشاويّة التي تشكل النسبة الأكبر في المشهد الديموغرافي، إلى جانب المزابية (الميزابية) والتارقية والشلحية والشنوية وغيرها من اللهجات المنتشرة في طول البلاد وعرضها». وأردف شنّة: «إن كانت الإرادة صادقة (من جانب السلطات) لإعادة الاعتبار للبعد الأمازيغي في هويتنا وشخصيتنا الوطنية، إلى جانب البعدين الإسلامي والعربي، مثلما هو منصوص عليه في الدستور، يتوجب على الجميع العمل على إشراك كل المكوّنات والعناصر على قدم المساواة، وإتاحة الفرص لجميع اللهجات المحلية في مسار التأسيس العلمي الجاد لهذه اللغة الأمازيغية المنشودة. وهي اللغة التي نرجو، في نهاية المطاف، أن تكون معبّرة عن فكر ووجدان كل الجزائريين والجزائريات، في إطار احترام الخصوصيات ومراعاة الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين منطقة وأخرى؛ ما يحقق الثراء الوطني المرتقب من دون إقصاء أو احتكار أو تطرّف في الرأي».
ويتابع شنّة: «في ظل ما يدور في الساحة الوطنية من جدل وتجاذب حول المسألة الأمازيغي، وبخاصة ما تشهده مواقع التواصل الاجتماعي من نقاشات حادة حول هذا الموضوع، وتطور التجاذبات في القضية إلى حد التجريم والتخوين والتراشق بالتهم بين بعض الفعاليات في المؤسسات البرلمانية والحزبية والإعلامية، فإنه بات من الضروري أن نؤكد مرة أخرى، بأن (مسألة الهوية) لم تكن في أي يوم من الأيام مشكلاً في الجزائر، إلا مع دخول المستعمر الفرنسي إلى بلادنا... المستعمر الذي أقدم على تمزيق اللحمة الوطنية وتطبيق سياسة (فرّق تَسُد) انطلاقاً من كراهية فرنسا الاستعمارية للإسلام والعربية باعتبارهما الإسمنت المسلح الذي يوحّد الجزائريين والجزائريات باختلاف أعراقهم وثقافاتهم المحلية، ويدفعهم بقوة وثبات إلى التطلع نحو المستقبل، وإعادة بناء الدولة الجزائرية التي دمّرها الفرنسيون على امتداد قرن و32 سنة، بأبشع ما في التدمير من وسائل وأساليب».
ويضيف شنّة، المتحدر من منطقة الأوراس التي يتكلّم سكانها الشاويّة، إحدى لهجات الأمازيغية: «لم نسمع في تاريخ الأولين من الآباء والأجداد، منذ الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، عن أي خروج للسكان المحليين عن سلطة الإسلام أو رفضهم اللسان العربي... بل على العكس تماماً من كل تلك المزاعم والأباطيل التي روّجها المؤرخون الاستعماريون، ويردّدها اليوم ببلاهة كثرة من أشباه المثقفين من أبناء هذه المدرسة الاستعمارية المغشوشة. الأمازيغ، الذين استقبلوا الإسلام والعربية في الجزائر وفي كل بلدان الشمال الأفريقي، استقبالاً كريماً مباركاً، عملوا كل ما في وسعهم خلال قرون من الإشعاع الحضاري والعلمي والثقافي، على بناء دول ومجتمعات قوية متقدمة وصل صداها إلى كل أوروبا، واستفاد من خيراتها جياع فرنسا ومشرّدو إسبانيا والبرتغال».
- مؤامرة للتمكين للفرنسية
ويذهب عبد الرزاق مقري، رئيس الحزب الإسلامي «حركة مجتمع السلم»، في الاتجاه نفسه تقريباً؛ إذ يقول: «أنا أتعجب من الحرب التي يريد بعض المغفلين والمتعصّبين والسذَّج أن يشعلوها بين العربية والأمازيغية، وهم لا يدرون أنهم وقود فتنة كان ولا يزال الاستعمار القديم والجديد يشعلها بيننا ضمن قاعدة (فرّق تَسُد). الأمازيغية والعربية كلاهما مهمشتان في هذا البلد لصالح الفرنسية. المؤامرة القائمة في الجزائر هي للتمكين للغة الفرنسية والثقافة الغربية الفرنسية، وليس للعربية أو الأمازيغية. العربية والأمازيغية شقيقتان... شقيقتان شقيقتان. كما هي الفارسية والعربية، والتركية والعربية والأردية وغير ذلك من اللغات التي انصهرت معاً ضمن الأخوة الإسلامية التي لا تفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. لقد كان صهيب الرومي وسلمان الفارسي أقرب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، من عمّه أبي لهب. إن المطلوب هو أن تتحالف العربية والأمازيغية ضد الاستعمار والثقافة الاستعمارية، كما كانتا إبان الاحتلال الفرنسي».
وبرأي مقري «ما شهدناه في المدة الأخيرة، من سبّ وشتم متبادل بين الجزائريين على أساس الهويّة اللغوية أمر خطير. فلو وجد الجزائريون راحتهم وأنسهم وكرامتهم ورخاءهم، تحت العلم الوطني لما تعالى بعضهم على بعض بانتمائهم اللغوي، ولما تدخل الأجنبي في شأن خصوصياتهم يعبث باستقرارهم ووحدتهم، كما هو ديدنه دائماً، لتحقيق مصالحه وفرض حضارته الاستعمارية الظالمة».
وبخصوص الحرف الذي تكتب به الأمازيغية، يوضح مقري أن الأمازيغية «لغة موجودة من خلال لهجات متعدّدة منها الشاويّة والقبائلية والمزابية والترقية والشلحية... ولا يمكن تعليمها بفاعلية إلا ببناء هذه اللغة بناءً أكاديمياً يجعل لها (فصحى) تتيح للأمازيغ، بمختلف لهجاتهم، أن يفهموا بعضهم بعضاً. ومن ثم، مَن يرد أن يتعلم هذه اللغة من غير المتحدثين يسهل عليهم ذلك... تماماً مثل أي لغة أخرى. فلولا وجود العربية الفصحى مثلاً، لما استطاع العرب أن يفهموا بعضهم بعضاً... سواءً بخصوص تنوع لهجات الجزائر في مختلف جهات الوطن، وبشكل أوضح على مستوى العالم العربي، لولا الفصحى لما استطاع المغاربة أن يتواصلوا مع المصريين والخليجيين والعراقيين والسوريين، والعكس صحيح».
ويتابع مقري: «حينما نصل إلى المرحلة الأكاديمية، يتدخل الجانب الثقافي والحضاري في اختيار الحرف الذي تبنى به اللغة الأمازيغية الفصحى. وإذا اعتبرنا أن القضية الأمازيغية هي قضية كل الجزائريين، فمن حقنا في (حركة مجتمع السلم) كجزائريين أن نناصر رأي الأكاديميين، الذين يعتبرون أن اختيار الحرف العربي هو الاختيار الطبيعي؛ لأن البعد الحضاري للأمازيغ ارتبط بالبعد الحضاري العربي الإسلامي. إن الجامع بين اللغتين تاريخي وجغرافي وثقافي وسياسي واجتماعي، مثل البعد الحضاري للفرس الذي ارتبط بالإسلام بعد الفتح... واليوم تُكتب الفارسية بالحرف العربي. الشيء نفسه بالنسبة للأتراك، فاللغة التركية كانت تكتب بالعربية أيام مجد الأتراك (العثمانيين)، ثم غيّرها كمال أتاتورك للاتينية فمزّق الشعب التركي وأدخله في الصراع والتخلف».
- أخطاء الفاتحين مع الأمازيغ
أما محمد صالحي، الباحث في علوم اللسان (الألسنية)، فيقول: إن كل اللغات المستخدمة في العالم الإسلامي «تأثرت باللغة العربية معجماً ونحواً وصرفاً وصوتاً وكتابة، ولا يمكن إنكار هذا الأمر الواضح والراسخ. لقد وجد من مائة لغة تكتب بالحرف العربي، إلا أن الاستعمارين الغربي والسوفياتي سابقاً، غيَرا حروف لغات القوقاز والقرم وآسيا الوسطى. ولم تسلم الأمازيغية من هذه المحاولة؛ إذ سعى الفرنسيون بطرق عدة لتغيير حرفها العربي الذي كتبت به منذ بداية التدوين بها لفائدة كتب التفسير والفقه وخطب الجمعة والمناسبات. ولقد أوعز لأتباعه من الجزائريين أنه من مصلحة الأمازيغية كتابتها بالحرف الفرنسي (اللاتيني)، لكن في حقيقة الأمر الهدف هو إحداث شرخ بين العربية والأمازيغية، وتفريق الشعب الجزائري وتعميق صراع الهوية».
أما عدَة فلاحي، مستشار وزير الشؤون الدينية وعضو البرلمان سابقاً، فيقول: إن الأمازيغ اعتنقوا أغلب الديانات والملل والنحل التي وفدت إليهم، من مجوسية إلى وثنية إلى يهودية إلى مسيحية... وأخيراً الإسلام الذي قبلوه وارتضوه واعتنقوه طواعية بعد مقاومته في البداية. استمرت هذه المقاومة لعشرات السنين بسبب طبيعة الأمازيغي المتمرد الرافض لكل من يريد أن يهيمن عليه، إلا أن المسلمين الفاتحين حينها فقدوا الكثير من خصائصهم الروحانية الأولى التي تربى عليه الجيل الأول من الصحابة، وتصرفوا مع الأمازيغ في البداية بصفتهم عرباً، وهذا ما جعل الفتح الإسلامي عصيّاً وصعباً ومُكلفاً في البداية. ولكن يبدو أن هذه العقيدة العسكرية القديمة للمسلمين القادمين من المشرق، باستعلاء، والتي استبعدت القاعدة القرآنية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والقاعدة السنية المحمدية «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، خلّفت عقدة ما زالت تتحكم في أمزجتنا إلى اليوم، حتى على مستوى النخبة، سواءً المعرّبة أو الأمازيغية».
ويتابع فلاحي «بعض المعرّبين البعثيين في بلادنا، أساؤوا التعامل مع المطالبين بإحياء الأمازيغية، ولذا شاهدنا ردات فعل متطرفة طالب أصحابها بكتابة الأمازيغية بـ«التيفيناغ» أو بالأحرف الفرنسية بدلاً عن العربية. وكان هناك طرف آخر كان له رد فعل عقائدي بسبب سوء تصرّف بعض المنتسبين للتيار الديني، أو ما يسمى بأصحاب الإسلام السياسي الذين قدّسوا اللغة العربية من باب تقديسهم للقران، وعلى حساب أي لهجة أو لغة أخرى، لدرجة أن بعض الأمازيغيين انقلبوا على أعقابهم وارتدوا عن الإسلام واعتنقوا المسيحية. بل، وذهب البعض منهم إلى الدعوة لانفصال منطقة القبائل عن الجزائر وتأسيس دولة مستقلة خاصة بهم تحمل هويتهم. وهذا للأسف، بمباركة وتشجيع ودعم الكولونيالية الفرنسية القديمة التي تستثمر في خلافاتنا».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.