إيران... الدين أداة آيديولوجية في يد السلطة السياسية

عباس أمانت يقرأ تاريخها خلال خمسة قرون

من مظاهرات إيران الاحتجاجية الأخيرة
من مظاهرات إيران الاحتجاجية الأخيرة
TT

إيران... الدين أداة آيديولوجية في يد السلطة السياسية

من مظاهرات إيران الاحتجاجية الأخيرة
من مظاهرات إيران الاحتجاجية الأخيرة

كثيراً ما جذبت إيران طوال سنوات كتّاب التاريخ، أي منذ خط هيرودوت ما خطه على الورق، كما أبعدت قسماً منهم لأسباب عديدة متعلقة بهويتها المركبة بصفتها عاملاً أساسياً مؤثراً في أحداث العالم لآلاف السنين. وكثيراً ما يجعل هذا التفاعل بين الانبهار والرفض من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تقديم سرد موضوعي لأحداث التاريخ الإيراني. نتيجة لذلك كانت إيران، كما يقرّ عباس أمانت مؤلف هذا الكتاب الدسم والثري «معرّضة لنوع من التدقيق» أطلق عليه أمانت «تاريخ متأثر بالمواقف». يعني ذلك عملياً أن الذين يكتبون عن إيران يكتبون أيضاً عن أنفسهم، أو على الأقل يوضحون رؤية جيلهم أو الباحثين المعاصرين للأحداث التاريخية.
لنبدأ بالقول إنه من الممتع قراءة كتاب أمانت «إيران: تحديات تاريخ متأثر بالمواقف»، الذي يركز على تاريخ إيران منذ قيام الدولة الصفوية عام 1501 حتى يومنا هذا، بفضل التدفق النثري السلس، وبخاصة بالنسبة إلى القارئ غير المتخصص. مع ذلك يضفي استخدام مصطلح «حديث» بعض الغموض كما يعترف أمانت نفسه؛ فهل دخلت إيران العالم الحديث مع قيام الدولة الصفوية؟ ربما الأهم من ذلك هو هل نحن على يقين من أن إيران قد دخلت العالم الحديث، الذي يعني أموراً مختلفة لأشخاص مختلفين؛ إذ يقوم مفهوم الحداثة، وهو ثمرة التنوير، على الرؤية الخطية للتاريخ الإنساني بوصفه تسلسلاً نحو التقدم ينتقل من نقطة منخفضة إلى نقطة أعلى فأعلى.
لا يورط أمانت نفسه فيما تتسم به مسألة الحداثة من تعقيد، لكنه يشير ضمناً إلى أن العالم الحديث قد بدأ مع صعود ما يسمى «إمبراطوريات البارود» الذين مثّلوا أطرافاً جديدة فاعلة في التاريخ باستخدام أسلحة الدمار الشامل في زمنهم للتوسع من خلال الحروب؛ نظراً لكون إيران من أولى ضحايا «إمبراطورية البارود» إبّان حقبة الصفويين، وكانت تلك الإمبراطورية هي الإمبراطورية العثمانية تحت قيادة السلطان سليم. ويمكن للمرء القول إن إيران قد دخلت التاريخ الحديث، وبخاصة بعد أن امتلك الصفويون واستخدموا المدفعية الحديثة. لاحقاً، واصلت إيران انغماسها في الحداثة، أثناء حكم القاجاريين، الذين أعقبوا الصفويين في الحكم بعد فترة طويلة ودامية من حكم أسرتين أخريين، من خلال إجراء عدد من الإصلاحات المادية والمؤسسية. وتسارعت خطى التحديث بعد ذلك إبّان فترة حكم الدولة البهلوية، التي أعقبت الدولة القاجارية في حكم البلاد، من خلال التركيز على تحويل البلاد إلى دولة على الطراز الغربي، وربما إلى نموذج للثقافة الفارسية بأكملها.
يتبنى أمانت في سرد الأحداث الآراء السائدة التي تبناها الباحثون الغربيون، بل وحتى الروس، فيما يتعلق بالتاريخ الإيراني خلال القرون الخمسة الماضية. وما يزيد كتابه إثارة هو إخبار القارئ كيف ينظر للبحث الحديث، الذي يهيمن عليه الأكاديميون والباحثون الغربيون، إلى إيران. تتميز هذه الطريقة بعبقريتها في العرض المنطقي والتبسيط. على سبيل المثال، يقال إن الدولة الصفوية، التي أسسها المحارب الشاب إسماعيل، هي التي أدخلت الإسلام الشيعي إلى إيران، وجعلته الدين الرسمي للدولة بقوة السلاح. يعني هذا تجاهل حقيقة وجود المذهب الشيعي، بمختلف طوائفه، في إيران قبل حكم الدولة الصفوية بخمسمائة عام. كذلك، قد يتساءل المرء عن المذهب الشيعي الذي كان يتبعه الصفويون حقاً.
إنهم لم يكتبوا نصاً لاهوتياً عن الموضوع، واضطروا إلى الاستعانة برجال الدين من المناطق الشيعية في لبنان. ولم يكن يتبنى رجل الدين الشيعي الإيراني، وبخاصة في مدن مثل شيراز وأصفهان، رؤية شاه إسماعيل. في كل الأحوال قد يسأل المرء عما إذا كان المذهب الشيعي مجرد أداة آيديولوجية لإسماعيل أم لا. كان شاه إسماعيل الصفوي يحب أن يدعو نفسه بكيخسرو، وهو اسم لملك إيراني أسطوري قبل ظهور الإسلام، لا يزال يعد حتى اليوم مثالاً يحتذى به للملوك في الثقافة الفارسية. كذلك لم يطلق مؤسس الدولة الصفوية على أي من أبنائه اسماً لشخصية شيعية بارزة مثل علي، أو حسن، أو حسين، بل أطلق على ابنه وخليفته اسم طهماسب، على اسم أمير ومحارب آخر أسطوري يسبق ظهور الإسلام. كان اسم الابن المفضل لإسماعيل هو القاص ومعناه «المنتقم». وتم إطلاق اسم عباس على ثلاثة من ملوك الدولة الصفوية الاثنى عشر؛ تيمناً باسم عم الرسول، وجدّ العباسيين الذين أصبحوا ألدّ أعداء علي وخلفه. كان آخر ملوك الدولة الصفوية في أصفهان فقط هو من حمل اسم السلطان حسين.
كان شاه إسماعيل فخوراً بأمه المسيحية مارثا، تلك المرأة الجميلة البيزنطية، التي رفضت اعتناق الإسلام ناهيك عن المذهب الشيعي.
يكرر أمانت بعضاً من الأقوال القديمة عن الدولة الصفوية، أبرزها أن القزلباش (ذوي الرؤوس الحمراء)، وهم قوات النخبة التابعين لإسماعيل، كانوا يضعون جثث الجنود العثمانيين في الماء المغلي، ويأكلونهم وهم يحتسون الخمر.
تتجاهل نظرة الباحثين الغربيين للصفويين، التي عبّر عنها أمانت ببراعة، حالة الشيزوفرينيا التي تعاني منها إيران؛ فهي أمة لا تشعر بالارتياح تجاه الإسلام، لكنها في الوقت نفسه تتردد في التخلي عنه. لا يمكن لحقيقة استغلال الإسلام بمذاهبه المختلفة في الحروب بين الأسر الحاكمة، واستخدامه من جانب حركة الخميني اليوم في المجال السياسي، أن تخفي حقيقة أن الدين لا يزال يستخدم أداةً في يد السلطة السياسية وليس العكس.
كان الحرس الإمبراطوري للصفويين، أو القزلباش، يتحدثون التركية، في حين ملالي الملك، الذين تم استجلابهم من لبنان، يتحدثون العربية. لذا؛ لم يكن عمودا الدولة الجديدة يستطيعان التواصل بشكل مباشر مع رعايا الملك. وكان اختزال الأكاديميين للمشهد التاريخي بالقول إن «إيران قد تحولت إلى المذهب الشيعي خلال فترة حكم الدولة الصفوية» لا يخبرنا بالقصة الكاملة.
كذلك، يعيب رواية أمانت للتاريخ الإيراني خلال حقبة القاجاريين تلقي أفكاراً مسبقة من الصعب التخلص منها. تصوير القاجاريين على أنهم سلالة فاسدة منحطة رجعية لا تتمتع بأي كفاءة، يجعل من الصعب دراسة تأثير الأحداث التاريخية، وأهمها صعود القوى الإمبريالية الأوروبية، بشكل يتجاوز سيطرتهم. مع ذلك تحمل رواية أمانت ملمحاً إيجابياً يتمثل في تناول تقلبات الانشقاق الديني والسياسي خلال حقبة القاجاريين. مما يثير الاهتمام أيضاً تناول أمانت ظهور الدعوة البابية، ونشأة البهائية، ومحاولات قمعها من جانب القاجاريين؛ وهو أمر عادةً ما كان مؤرخو التاريخ الإيراني من الغربيين يتجنبون ذكره.
عندما نصل إلى حقبة الدولة البهلوية، سنرى أن أمانت يحاول، أحياناً بشكل بطولي، الابتعاد عن الأفكار المقولبة المسبقة التي أصبحت شعاراً لكثير من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن إيران. ورغم إدراكه الخطر المتمثل في احتمال نبذه من جانب المؤسسة الأكاديمية التي تنظر إلى الدولة البهلوية بازدراء، كان أمانت أحياناً يتحلى بالشجاعة لقول رأي يثير الاستياء ويخالف الإجماع الأكاديمي، ويؤكد أن اثنين من حكام الدولة البهلوية قد فعلا بعض الأمور الجيدة لصالح إيران، حيث يكتب: «خلال فترة حكم الدولة البهلوية شهد الإيرانيون في كل جيل تطوراً وتحسناً على المستوى المادي ومستوى النظافة والصحة، فبعد أن كانوا شعباً ضعيفاً مريضاً، ويعاني من سوء التغذية في بداية القرن، أصبحوا شعباً يظهر في الكثير من الصور الفوتوغرافية التي تعود إلى ذلك العصر، بوصفه شعباً نظيفاً يتمتع بصحة جيدة نسبياً وتغذية أفضل؛ كم هذا رائع».
يفند أمانت، وإن كان يتوخى الحذر وهو يفعل ذلك، زعم العصابات الماركسية والإسلامية المناهضة للشاه، بأن نظامه قد قتل «عشرات الآلاف» من أتباعهم ومؤيديهم. ويذكر أن إجمالي عدد الفدائيين، الذين تم إعدامهم، أو قتلهم خلال اشتباكات مع قوات الأمن قد بلغ 198، في حين خسر «مقاتلو الشعب» 15 فرداً فقط. أصبحت عبارة قتل «عشرات الآلاف» حقيقة لاحقاً خلال فترة حكم آية الله روح الله الخميني. بحذر أيضاً، ينحي أمانت جانباً الزعم التقليدي المنتشر في الدوائر الأكاديمية الغربية بأن ما فعله الشاه كان بدافع تلبية رغبات القوى الغربية، حيث يكتب: «بحلول منتصف الستينات، لم تكن لأي من الولايات المتحدة أو بريطانيا سيطرة أو نفوذ على سلوكه وتصرفاته».
في محاولته الفدائية للهرب من الأفكار المسبقة، يكسر أمانت حاجزاً كبيراً متمثلاً في أحداث أغسطس (آب) 1953، التي أدت إلى إقالة حكومة محمد مصدق بعد عامين من شغله منصب رئيس الوزراء. الرواية المنتشرة في الدوائر الأكاديمية الغربية هي أن إقالة الشاه لمصدق كانت انقلاب من تخطيط وتدبير الاستخبارات المركزية الأميركية وتنفيذ الشاه وأعوانه في الجيش. يتم وصف أي شخص ينحرف عن هذه الرواية التاريخية بأنه تنقيحي، ويجعله هذا الوصف لا يقل سوءاً وبشاعة عن منكري محرقة اليهود، ويكون مصيره هو النبذ والطرد من دوائر البحث.
إنه يصف الأمر برمته بأنه مثل «مسودة لإحدى روايات غراهام غرين»، حيث يتبع طريقة ساخرة، وإن كانت لا تخلو من الحقيقة والجدية، للتشكيك في الفكرة المسبقة دون إثارة غضب وحنق المروجين لها في الدوائر الأكاديمية. لجأ أمانت إلى الكثير من المؤهلين للإشارة إلى أنه لا يتفق بشكل كامل مع الرواية الرسمية الخاصة بحكومة مصدق.
على سبيل المثال، يكتب أن الشاه بعد إقالته مصدق: «كان ربما يستعد للتخلي عن منصبه والذهاب إلى منفى دائم ربما في الولايات المتحدة، حيث اشترى على الأرجح مزرعة هناك». كذلك يتجرأ أمانت على انتقاد مصدق حين يكتب: «يمكن النظر إلى نهجه الاستبدادي المزعج كأحجية محيرة؛ فهل كان ينتمي إلى النهج المحافظ، أم الليبرالي أم الشعبوي المتطرف». ربما في كل الأحوال لم يكن أمانت ينظر إلى مصدق باعتباره ديمقراطياً ليبرالياً أطاحت به الإمبريالية الأميركية المدمرة.
مع ذلك، لحماية نفسه من هجمات ذئاب الأفكار المسبقة المقولبة، سرعان ما يعود أمانت إلى تكرار ذكر الرواية السائدة، وهو انحراف مؤسف لولاه لكانت روايته للأحداث موضوعية عادلة. لقد قام الشاه خلال الـ37 عاماً التي قضاها في الحكم بتعيين وإقالة 23 رئيس وزراء، بمن فيهم مصدق الذي قام بتعيينه مرتين.
هل نرى إذن إقالة كل منهم انقلاباً؟ لماذا لم يزعم مصدق نفسه أنه كان ضحية لانقلاب؟ السبب هو أن مصدق، الذي حظي بتعليم فرنساوي، كان يعلم أن هذه الكلمة الفرنسية الأصل تعني تغيير نظام دولة ما وحاكمها، ودستورها، بالعنف، ولم يحدث أي من هذا في إيران. لقد كانت إقالة مصدق خطأً من الناحية السياسية والأخلاقية، لكنها لم تكن انقلاباً. كذلك لم تكن الاستخبارات المركزية الأميركية قادرة على ممارسة هذا النفوذ الهائل على السياسة الإيرانية، ويدل على ذلك افتقارها للكفاءة الذي ظهر جلياً في الكثير من المواقف.
كان أمانت متوازناً أيضاً في روايته التاريخية لثورة الخميني والجمهورية الإسلامية خلال العقود الثلاثة الماضية. لقد كان يتناول بنبرة هادئة رزينة الإعدامات الجماعية، واحتجاز الرهائن، والتحريض على الإرهاب والقمع، وهي أمور أصبحت من الملامح والسمات الرئيسية لنظام الخميني. مع ذلك، أشار في الوقت ذاته إلى أن نظام الخميني قد منح إيران استقراراً يندر وجوده في منطقة الشرق الأوسط حالياً؛ رغم قول بعض المنتقدين إن الاستقرار الذي يتحدث عنه أمانت ما هو إلا ركود أو صمت القبور.
مع ذلك، هناك خطأ ارتكبه أمانت، وهو تأكيده على أن ثورة الخميني قد أوصلت «رجال الدين الشيعة إلى سدة الحكم»، فلم يكن هذا ما حدث حقاً. لم يكن الخميني يوماً واحداً من «كبار آيات الله الأربعة في عصره» كما يشير أمانت، بل كان الخميني حتى توليه السلطة يشغل الطبقة الثالثة في هرمية الشيعة، وحتى يخرج من الهرمية التقليدية استحدث لقب الإمام ومنحه لنفسه. كذلك لم تشارك سوى نسبة صغيرة من رجال الدين الشيعة البالغ عددهم نحو 250 ألف في ثورة 1978، حتى في يومنا هذا لا يمكن اعتبار أي من الملالي، الذين يشغلون مواقع أو مناصب قيادية في النظام، من بين الذين ينتمون إلى الصفوف العليا في هرمية رجال الدين.
يمثل كتاب أمانت عن التاريخ المتأثر بالمواقف بالتوجه إسهاماً مرحباً به رغم أن تغيير المواقف في بعض الأحوال قد يحسّن الأمور.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».