قبل أكثر من ثلاثين عاماً وقعت طبيبة الأطفال المصرية الراحلة الدكتورة فوزية حلمي، في غرام دراسة تاريخ الأمراض عند القدماء المصريين بعد دراستها تخصص الأنثربولوجيا البيولوجية لأكثر من عامين في دولة التشيك، وبعد عودتها إلى مصر قررت نقل شغفها إلى مجموعة من الباحثين الشباب الذين انخرطوا في هذا التخصص من خلال قسم الوراثة البشرية بالمركز القومي للبحوث، قبل أن تنشئ إدارة المركز في عام 2002 قسماً متخصصاً لدراسة أمراض الفراعنة. ويبحث علم الأنثربولوجيا البيولوجية في دراسة الإنسان من الناحية الطبية، ويُعنى بدراسة الأمراض التي يعاني منها الإنسان القديم والمعاصر.
لعنة الفراعنة
ويُفضل أغلب الباحثين دراسة الأمراض عند الإنسان المعاصر، بينما تستهوي دراسة تاريخ الأمراض عند القدماء قلة، من بينهم الباحث الدكتور محمد التهامي، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «التحق بالمركز القومي للبحوث في عام 1986 باحثاً في قسم الوراثة البشرية، لكنه انتقل لتخصص دراسة أمراض الفراعنة، مدفوعاً بالتشجيع من مؤسسي القسم، وكذلك حبه القراءات التاريخية».
ويقول التهامي إن ما يُعرف بـ«لعنة الفراعنة» التي يقال إنها تصيب كل من يفتح مقبرة فرعونية: «خرافة لا تخيف إلا الجهلاء»، لكن الأخطار المحيطة بعمله وزملائه، منها احتمالات وجود ثعابين داخل المقابر.
ويشرح التهامي التفسير العلمي لوفاة بعض من يقومون بفتح مقابر الفراعنة للمرة الأولى، بالقول إنه «بمجرد فتح أي مقبرة لأول مرة يدخل الهواء إلى نشاط ميكروبات كامنة منذ آلاف السنين، ويؤدي استنشاق هذا الهواء إلى أمراض تنفسية قد لا يتحملها البعض ممن لديهم تاريخ مرضي؛ وهذا هو سبب الوفاة لبعض من شاركوا في اكتشاف مقابر فرعونية، وليس ما يسمى اللعنة».
وعن أبرز الاكتشافات التي تمكنوا من التوصل إليها من خلال تخصص دراسة أمراض الفراعنة النادر، يقول التهامي «شاركت في دراسة دولية حول مرض تصلب الشرايين عبر 4000 عام من تاريخ البشرية، بالتطبيق على أربعة من المجتمعات السكانية القديمة، وشملت الدراسة حينها 137 من المومياوات التي تم الحصول عليها من أربع مناطق جغرافية مختلفة ممثلة لأربعة مجتمعات سكانية مختلفة هي: مصر القديمة، بيرو القديمة، أسلاف البيوبلونز (بجنوب غربي أميركا)، والأونانجان (بجزر الأليوشيان).
ويضيف متحدثاً عن أبرز نتائج الدراسة «اكتشفنا وجود هذا المرض في عدد كبير من المومياوات التي تم فحصها، بما يؤكد أنه ليس مرضاً مستحدثاً، وكانت نسبة وجوده بتلك المومياوات 38 في المائة من إجمالي مومياوات المصريين القدماء، و25 في المائة في بيرو القديمة، و40 في المائة في أسلاف البيوبلونز، و60 في المائة في مومياوات الصيادين وجامعي الثمار من الأونانجان».
وعن كيفية التوصل لوجود هذه الإصابات رغم مرور آلاف السنوات على وفاة أصحاب المومياوات، يوضح أنه «لولا التحنيط الجيد للجثث ما تمكنا من الكشف عن أسرار الأمراض، ولظلت حبيسة جدران المقابر الفرعونية».
وتوضح الرئيس الأسبق لقسم الأنثربولوجيا البيولوجية الدكتورة مشيرة عرفان، أنه وبفضل التحنيط «تمكنا الآن عبر هذا العلم من معرفة أصل ونشأة الأمراض، ووضع وصف كامل للمجتمعات القديمة من حيث طريقة المعيشة والتغذية وكأننا نعيش بينهم».
وتلفت عرفان إلى إشرافها على دراسات كشفت «إصابتين بمرض السرطان، وكانت الأولى إصابة بالمرض في عظم جمجمة مومياء، وتم تشخيصه على أنه أورام ثانوية جاءت نتيجة إصابة في مصدر آخر قد يكون الكبد، وعثر في مومياء أخرى على أورام بالعظام، وتم تشخيصها على أن العظام مصدرها الأساسي، ولم تأتِ لها من أي عضو آخر»، كما تمكن الباحثون في دراسة أخرى من «رصد تأثير الطبقة الاجتماعية والتغذية على الإصابة بمرض هشاشة العظام».
وتوضح أن الباحثين لاحظوا أن «الحركة والجهد لدى فئة العمال ساعدتهم على تجنب الإصابة بمرض هشاشة العظام، بينما كان المرض موجوداً في فئة كبار الموظفين، ولا سيما السيدات، بسبب عدم الحركة».
وتعتبر الرئيسة الأسبق لقسم الأنثربولوجيا البيولوجية هذه الدراسات من أبرز ما عملت عليه منذ نشأة القسم، مضيفة «مع نشأته في 2002 مارسنا هذا التخصص بصفتنا محترفين، وانعكس ذلك على نوعية الأبحاث التي عملنا عليها، بينما كنا نعمل في الفترة السابقة لنشأته كهواه».
متخصصة أخرى في طب الفراعنة، هي الدكتورة رقية عبد الشافي تعترف بأنها ظلت في بداية علمها متوجسة من «لعنة الفراعنة»، لكنها تقول «ما أن انخرطت في هذا العمل وقعت في شغف الاكتشافات الجديدة وزالت كل المخاوف، وكلما نجحت في اكتشاف شيء جديد، يزداد الارتباط أكثر وأكثر».
وعن أبرز مشاركاتها البحثية تقول الدكتورة عبد الشافي «كنت ضمن فريق اكتشاف حالة امرأة من الأقزام في مقابر منطقة الأهرامات، وكان هذا محل اهتمام دولي واسع؛ إذ كان يلقي الضوء على التقزم، ويفتح باباً واسعاً أمام المزيد من فهم أسبابه وتطوره المرضي، وكان محور تغطية إعلامية مكثفة من وسائل إعلام فرنسية على وجه الخصوص».