هل ينجح «غاندي تركيا» في جعل «حزب أتاتورك» رمزاً حقيقياً للمعارضة؟

كليتشدار أوغلو يدخل ولايته الثالثة على رأس «الشعب الجمهوري» بشعار «إزاحة إردوغان»

هل ينجح «غاندي تركيا» في جعل «حزب أتاتورك» رمزاً حقيقياً للمعارضة؟
TT

هل ينجح «غاندي تركيا» في جعل «حزب أتاتورك» رمزاً حقيقياً للمعارضة؟

هل ينجح «غاندي تركيا» في جعل «حزب أتاتورك» رمزاً حقيقياً للمعارضة؟

يرى كثير من المراقبين أن كمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، قد يكون محقّاً في إشارته إلى أن تركيا تعيش «مناخاً من الخوف». ويسوق هؤلاء كأدلة الانتقادات المتتالية من الغرب وحلفاء تركيا والمنظمات الحقوقية الدولية والمنظمات المعنية بحرية الصحافة والتعبير لما تعيشه تركيا برئاسة رجب طيب إردوغان من تضييق منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو (تموز) 2016 وحتى الآن. وكانت السلطات قد فرضت حالة الطوارئ بعد المحاولة الانقلابية مباشرة، وهي منذ ذلك الحين تشهد أوسع حملة إعادة تصميم وهيكلة لمؤسساتها بدءاً من الجيش والقضاء إلى المؤسسات الأمنية والإعلامية والتعليمية، وهذا فضلاً عن «حملة التطهير» التي أطلقتها الحكومة بحجة التخلص من أنصار الداعية فتح الله غولن. والمعروف أن السلطات تتهم غولن بتدبير محاولة الانقلاب، لكنها توسّعت لتشمل المعارضين لحكومة حزب العدالة والتنمية، بما في ذلك حتى الآن، توقيف أكثر من 60 ألف شخص وإقالة أو إيقاف أكثر من 160 ألفاً آخرين عن العمل في مختلف هذه المؤسسات.
اختار حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي في تركيا زعيمه كمال كليتشدار أوغلو، وريث مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال (أتاتورك)، ليواصل رئاسته للحزب في فترة ثالثة حتى عام 2021. وجاء ذلك بعدما جدد انتخاب كليتشدار أوغلو رئيساً في الرابع من فبراير (شباط) الحالي خلال أعمال المؤتمر العام السادس والثلاثين للحزب، متغلباً على منافسه الوحيد و«التقليدي» النائب محرم إينجه بأصوات 790 عضواً مقابل 447 صوتاً لمنافسه الذي كان ترشح أمامه للمرة الثانية على التوالي. ولقد افتتح السياسي المخضرم، ولايته الثالثة على رأس حزب الشعب الجمهوري، بالتأكيد على «مواصلة النضال لحين إنهاء حكم الرئيس رجب طيب إردوغان» قائلاً: «اعتباراً من اليوم انطلقَتْ مسيرتنا للإطاحة بحكومة إردوغان».

مرحلة صعبة
قال كليتشدار أوغلو، الذي يلقبه أنصاره بـ«غاندي تركيا»، إن المرحلة المقبلة ليست مرحلة عادية، وإن محازبيه سيناضلون في ظل أجواء صعبة. وأشار إلى أن تركيا تمر بأحد أصعب مراحلها، إذ «إن الخوف يعم المجتمع التركي في ظل الحكم القمعي»، متعهداً بأنه سيكسر هذا الخوف. وتجدر الإشارة إلى أن حزب الشعب الجمهوري، من منطلق وضعيته كأكبر أحزاب المعارضة في البرلمان التركي، يرى أن الحملة التي تلت المحاولة الانقلابية «اختلط فيها الحابل بالنابل»، وعمقت من حالة الاستقطاب التي تعيشها تركيا في السنوات الخمس الأخيرة. وهو يعتبر أنها لا تخلو من ظلم، ولذلك كرس جهوده لاستعادة «العدالة» وسيادة القانون اللتين يرى أنهما انتُهِكتا بشدة في هذه الأجواء المشحونة، فضلاً عن رفضه للسياسة الخارجية لحكومة «العدالة والتنمية»، التي يدعي أنها قادت البلاد إلى عزلة، وأضاعت هيبتها وقذفت بها إلى «بحار الفوضى في مستنقع الشرق الأوسط».
بالعودة إلى بداية صعود كليتشدار أوغلو إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري، فإنها لم تكن بالبداية السهلة أيضاً. إذ إنه تقدم للمنصب بعد أكبر فضيحة سياسية عرفتها تركيا في مارس (آذار) عام 2010، وتمثلت بتسريب فيديو غير أخلاقي لرئيس السابق للحزب دنيز بايكال مع نائبة الحزب عن العاصمة أنقرة، نسرين بايتوك، نشره موقع صحيفة «وقت»، وانتشر بسرعة البرق على المواقع الإلكترونية.
في خضم هذه الأحداث تصدّى كليتشدار أوغلو لمهام قيادة حزبه الجريح، وهو الحزب الذي يقدم نفسه دوماً على أنه المدافع عن مبادئ أتاتورك. وزاد من صعوبة المهمة أن الفضيحة جاءت قبل 11 يوماً من الانتخابات العامة للحزب، وقبل موعد الانتخابات البرلمانية في يونيو (حزيران) 2011، وهو ما اعتبره بايكال تحدياً خطيراً يهدف للإطاحة به من الحزب الذي ظلَّ على رأسه منذ عام 1992. أما كليتشدار أوغلو فإنه بدأ حياته السياسية بعدما اختاره حزب الشّعب الجمهوري فعام 2002 ليكون مرشحه في الانتخابات العامة، لكنه لم ينجح. ثم ما لبث أن دخل البرلمان في عام 2007 عن الدائرة الثانية بإسطنبول، ثم ترشح في انتخابات المحليات عن بلدية إسطنبول الكبرى، وخسر المقعد لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية قدير توباش، الذي استقال من منصبه العام الماضي بسبب شبهات علاقة مع حركة غولن.
ومن ثم، استطاع كليتشدار أوغلو أن يحافظ على قوام الحزب. ومع أنه لم يتمكن من أن يحقق تغييراً كبيراً في قاعدته، فإنه استطاع إعادة تشكيل صورة الحزب رافعاً عنه الانتقادات الشديدة في نظرته إلى التدين والحجاب، وهما من القضايا الجدلية التي لازمت الحزب منذ ظهوره وحتى عهد قريب، إذ شجع على ضمِّ محجبات إلى صفوف الحزب وأنشأ مسجداً بداخله كما أرسل بعثة للحج.

صعود وهبوط
«أتاتورك» أسس حزب الشعب الجمهوري في 9 سبتمبر (أيلول) 1923، وكان زعيمه الأول. وبعد وفاته عام 1938 انتخب صديقه وساعده الأيمن عصمت إينونو رئيساً للحزب. وحتى عام 1946 احتكر حزب الشعب الجمهوري عملياً الساحة السياسية، قبل أن تنتقل تركيا إلى نظام التعددية الحزبية، وفي ذلك العام أُجرِيت أول انتخابات نيابية عامة في تاريخ البلاد وفاز الحزب بالسلطة بأغلبية ساحقة، لكنه خسر الانتخابات أمام الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندرس عام 1950، فبقي في المعارضة من عام 1950 حتى عام 1960.
وفي عام 1972 انتخب بولنت (بلند) أجاويد رئيساً للحزب، فكان الزعيم الثالث في تاريخه، وشكل الحزب بعد انتخابات 1973 حكومة ائتلافية مع حزب السلامة الوطني الذي كان يتزعمه الزعيم الإسلامي الدكتور نجم الدين أربكان، وفي عام 1978 تسلم مقاليد الحكم في حكومة ائتلافية أخرى.
وبعد الانقلاب العسكري الذي وقع في 12 سبتمبر 1980، أغلق القادة العسكريون الحزب إلى جانب الأحزاب السياسية الأخرى، ثم أعيد فتحه بعد 12 سنة في عام 1992 بقيادة دنيز بايكال. وحصل الحزب في انتخابات 1995 على نسبة 11 في المائة من الأصوات مكنته من تحقيق 49 مقعداً في البرلمان. غير أنه فشل في انتخابات 1999 ولم يستطع أن يتجاوز الحاجز الانتخابي (10 في المائة من الأصوات) حين حصل على 8.7 في المائة فقط من الأصوات مع أنه كان الفائز بأغلبية واسعة في بعض المحافظات، ولذا فقد بقي خارج البرلمان.
حزب الشعب الجمهوري حزب يساري الاتجاه، ويُعدّ في الوقت الراهن الحزب المنافس الوحيد للإسلاميين في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) في ظل تراجع شعبية حزب اليسار الديمقراطي، خصوصاً بعدما أعلن أجاويد قراره اعتزال السياسة بعد الانتخابات، وتشتت الأحزاب اليسارية الأخرى. وحقاً، الساحة مفتوحة على مصراعيها أمام دنيز بايكال، لا سيما، بعدما التحق كمال درويش وزير الشؤون الاقتصادية السابق بالحزب، كما قام بايكال خلال السنوات الأخيرة بتليين خطابه السياسي ووعد باحتضان مختلف شرائح المجتمع مهما كانت أفكارها وتوجهاتها.

الصدام القوي
بدأت مرحلة الصدام القوي بين كليتشدار أوغلو والرئيس رجب طيب إردوغان منذ عام 2013، الذي شهدت نهايته فضائح فساد ورشوة طالت وزراء في الحكومة التي كان يرأسها إردوغان ومقربون منها. وكانت تلك فرصة لحزب الشعب الجمهوري للضغط على حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وفي الانتخابات الرئاسية عام 2014 سعى كليتشدار أوغلو إلى توحيد المعارضة في مواجهة إردوغان، فاتفق مع حزب الحركة القومية وعدد من الأحزاب الأخرى على مرشح واحد للرئاسة هو الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو، الرئيس الأسبق لمنظمة التعاون الإسلامي والنائب عن حزب الحركة القومية.
وأعيد انتخاب كليتشدار أوغلو عام 2014 رئيساً لحزب الشعب الجمهوري وفي الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015 خاض حزبه الانتخابات بشعارات تُهدِّد بالإطاحة بالحزب الحاكم وانتزاع السلطة منه، إلا أن الانتخابات لم تؤهِّل أي حزب لتشكيل حكومة بشكل منفرد وكانت تلك هي المرة الأولى التي يخفق فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم في أن يشكل حكومة بمفرده منذ ظهوره على الساحة السياسية عام 2002.
بعدها، رفض كليتشدار أوغلو انضمام حزبه إلى حكومة ائتلافية بقيادة أحمد داود أوغلو، وهو ما دفع إلى الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة في أول نوفمبر (تشربن الثاني) 2015، وحصل فيها الحزب كالمعتاد على المرتبة الثانية. عقب إخفاق حزبه عن الحصول على نسبة معقولة وجَّه له الصحافيون سؤالاً «هل ستقدم استقالتك؟»، إلا أنه أجاب «أنا مسرور بنتائج الانتخابات ولن أستقيل».

مواقف ثابتة
ورغم معارضة الحكومة والانتقاد المتكرر لسياسات إردوغان يحافظ كليتشدار أوغلو على ثوابت تنبع من مبادئ أتاتورك ويقدم مصلحة تركيا على الخلافات الحزبية. ولذا وقف حزبه منذ البداية في صف رفض محاولة الانقلاب الفاشلة التي هزت تركيا يوم 15 يوليو 2016، كما أيد مواقف الحكومة وفرض حالة الطوارئ. لكنه تمسك بالرجوع للبرلمان، وعاد بعد ذلك ليطالب بضبط حملة التطهير التي أطلقتها الحكومة في ظل حالة الطوارئ، معتبرا أن إردوغان يستخدم محاولة الانقلاب الفاشلة كذريعة للقضاء على الديمقراطية ودولة القانون.
وإبان فترة إعداد التعديلات الدستورية للانتقال إلى النظام الرئاسي، أبدى حزب الشعب الجمهوري موقفاً صلباً بعدما تحوّل حزب الحركة القومية المعارض إلى صف حزب العدالة والتنمية الحاكم وأيده في حملة تغيير النظام البرلماني إلى رئاسي. وبعدها، خاض إردوغان خلال فترة حملة الاستفتاء على التعديلات الدستورية معارك مع خصومه في الداخل مُركِّزاً حملته بصفة أساسية على حزب الشعب الجمهوري، مستخدماً في ذلك أسلوب الطعن في كفاءة كليتشدار أوغلو تارة واتهامه بدعم المحاولة الانقلابية التي وقعت في منتصف يوليو 2016 ومنفذيها تارة أخرى. وهذا على الرغم من موقف حزب الشعب الجمهوري الصريح ضدها.
ولاحقاً، شكل حزب الشعب الجمهوري تكتلاً مع حزب الشعوب الديمقراطي (المؤيد للأكراد) إلى جانب مجموعات مدافعة عن حقوق الإنسان وحركات ديمقراطية في حملة للتصويت ضد التعديلات، وهو ما أدى إلى أن تخرج نتيجة استفتاء 16 أبريل (نيسان) 2017 على تعديل الدستور متقاربة بين المعسكرين. إذ صوّت بـ«نعم» 51.4 في المائة مقابل 48.6 في المائة صوتوا بـ«لا». وقاد حزب الشعب الجمهوري حملة رفض نتائج الاستفتاء بسبب التقارب الشديد في الأصوات واعترض، ومعه مراقبون أوروبيون على قرار اللجنة العليا للانتخابات بقبول أوراق تصويت غير مختومة، وهو ما أزال ضمانة مهمة ضد التزوير.
وشهد كليتشدار أوغلو، حملةً من الضغط المكثَّف بعد تصاعد الأصوات داخل الحزب تطالبه بالاستقالة من منصبه إذا لم يكن ينوي الترشح لمنصب رئيس الجمهورية عام 2019. كذلك أشعل رئيس الحزب السابق بيكال حالة من الغضب بطرحه أسماء لمن يمكنهم قيادة الحملة القادمة للفوز بالانتخابات البرلمانية في 2019، طارحاً اسم الرئيس التركي السابق عبد الله غل - أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم - وميرال إكشنار نائبة رئيس حزب الحركة القومية السابقة التي فُصلت من الحزب بعد قيادة جبهة معارضة ضد رئيس الحزب دولت بهشلي والتي أطلقت لاحقا في 26 أكتوبر (تشرين الأول) حزباً جديداً برئاستها باسم «الحزب الجيد».

من أجل الديمقراطية
لقد قرر حزب الشعب الجمهوري تكريس جهوده بعد الاستفتاء على تعديل الدستور للمطالبة بالديمقراطية وعودة سيادة القانون من خلال الضغط على الرئيس إردوغان، واستغلال الفارق الضئيل بين معسكري «نعم» و«لا» ورفض تحويل الجمهورية التركية عن مسارها ونظامها الذي وضعه مؤسسها «أتاتورك». وأطلق الحزب مسيرة من أنقرة إلى إسطنبول في منتصف يونيو 2017 تحت شعار «العدالة» بعد صدور حكم بسجن النائب عن حزب الشعب الجمهوري أنيس بربرأوغلو لمدة 25 سنة، لإدانته بكشف أسرار دولة وتسليمه صحيفة «جمهوريت» صوراً لنقل أجهزة الاستخبارات التركية أسلحة لمسلحين في سوريا. وحققت المسيرة إقبالاً وتجاوباً شعبياً فاق توقّعات كيلتشدار أوغلو نفسه الذي أقرّ بأنه اتخذ قراره بالسير على طريقة الزعيم الهندي المهاتما غاندي، من دون أن يفكّر في الخطوة التالية ولا ترتيب أمور الرحلة.
في المقابل، فشلت تهديدات إردوغان، الذي اعتبر المشاركين في المسيرة داعمين للإرهاب وللانقلابيين، في دفع المواطنين إلى الامتناع عن المشاركة فيها، إذ بلغت المشاركة في أيام 30 ألفاً. وساهم في المشاركة الشعبية الامتناع عن رفع شعارات حزبية. ولقد اعتبر كليتشدار أوغلو أن العدالة واستقلال القضاء باتا مطلباً لكل الأطياف في تركيا، حتى لدى الحزب الحاكم، بعدما تحوّلت المحاكم إلى «عصا تأديب وعقاب في يد إردوغان».
وكانت المفاجأة الحقيقية ليست فقط في نجاح «غاندي تركيا» في إنهاء مسيرة طويلة مشابهة لحراك «مسيرة الملح» الشهيرة التي نظمها غاندي في الهند عام 1930 ضد الاستعمار البريطاني، بل في ختامها في 9 يوليو، بعد 25 يوماً قطع والمشاركون فيها أكثر من 450 كلم سيراً على الأقدام، بتجمع مليوني. وخلال التجمع قرأ بياناً من 10 نقاط حددها كاستراتيجية لحزبه في المرحلة المقبلة، ودعا الأتراك لتبنّيها والدفاع عنها وكان أهمها إلغاء حالة الطوارئ، ودعم استقلالية القضاء، والإفراج عن الصحافيين المعتقلين، وضمان حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير في الجامعات، وعدم الاعتراف بالتعديلات الدستورية التي أُقِرّت في الاستفتاء الأخير بطريقة غير مشروعة وبقاء النظام البرلماني.
وفي هذا السياق، يواصل حزب الشعب الجمهوري ضغطه على إردوغان بملف استقلال القضاء وانتهاك الحقوق والحريات، منتقداً صمت الرئيس عن رجل الأعمال رضا ضراب الذي يُحاكَم في نيويورك، والذي كان قد ادعى تورط الرئيس التركي بغسل أموال لصالح إيران. وردّاً على هجوم من قبل إردوغان اتهمه فيه بأنه يستهدف رجال الأعمال، قال كليتشدار أوغلو: «لا أنا ولا الدائرة القريبة مني أسسنا شركة في جزيرة مان أو مالطة للتهرب من الضرائب في تركيا».

مواقف تجاه المنطقة العربية
على صعيد السياسة الخارجية، أظهر حزب الشعب الجمهوري معارضة قوية لسياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم التي تدير ظهر تركيا للغرب وتتجه شرقاً. ويعتبر حزب الشعب الجمهوري أن سياسة تركيا الخارجية «عاجزة تماماً في سوريا العراق» و«جرت تركيا إلى مستنقع الشرق الأوسط بعد الربيع العربي»، وهو يرفض تدخلات إردوغان في شؤون الدول الأخرى كما فعل في مصر والعراق وسوريا.
وبالنسبة للأزمة السورية، بالذات، فإن حزب الشعب الجمهوري وعلى الرغم من تأييده لعمليتي «درع الفرات» و«غصن الزيتون» العسكريتين في شمال سوريا، فإنه يرفض تعاون تركيا مع «الجيش السوري الحر» بزعم أنه يحوي فصائل تتبع تنظيم القاعدة وداعش. وبالعكس، يطالب بالتعامل مع نظام بشار الأسد «إذا كانت تركيا ترغب في حماية حدودها والقضاء على خطر الإرهاب القادم من سوريا». وحقاً، يوصف كليتشدار أوغلو بأنه صديق للنظام السوري بسبب خلفيته الطائفية العلوية الشيعية، وكون حزبه محسوباً، عموماً، على هذه الطائفة، كما تجمعه علاقة قوية بنظامي الحكم في العراق وإيران.
أكثر من هذا، يرى الحزب أن السياسة التركية الخارجية إجمالاً «فاشلة»، وأدت إلى «عزلة تركيا» وانقطاع الصلة مع محيطها ومع بعض الدول المهمة في المنطقة مثل مصر، بسبب تأييد إردوغان لجماعة الإخوان المسلمين. وكان وفد من الحزب قد زار مصر، كما فعل مع العراق، وأعلن أخيراً أنه سيرسل وفداً إلى سوريا.
ختاماً، يرى كثيرون من المراقبين على أن مهمة كيليشدار أوغلو تبدو مستحيلة في المرحلة المقبلة. إذ عليه إبقاء المعارضة موحدة وتجهيزها لمعركة الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية في 2019 بوجه حزب العدالة والتنمية الذي بات يحظى بدعم حزب الحركة القومية اليميني. ولكن يرى البعض أنه مع ذلك نجح إلى حد بعيد في إيصال رسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن تركيا ليست عبارة عن حزب واحد أو رجل واحد.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.