«حسم» و«لواء الثورة»... أذرع «الإخوان» تتآكل

أميركا تلحق ببريطانيا وتدرجهما على قوائم الإرهاب

«حسم» و«لواء الثورة»... أذرع «الإخوان» تتآكل
TT

«حسم» و«لواء الثورة»... أذرع «الإخوان» تتآكل

«حسم» و«لواء الثورة»... أذرع «الإخوان» تتآكل

بإدراج الولايات المتحدة الأميركية حركتي «حسم» و«لواء الثورة» اللتين تنتميان إلى جماعة «الإخوان»، على قائمة المنظمات الإرهابية. دخلت أذرع «الإخوان» التي تعتبرها السلطات المصرية تنظيماً «إرهابياً» مرحلة التآكل... خاصة أن القرار الأميركي سبقه قرار بريطاني في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بإدراج الحركتين على قائمة الإرهاب، وهو القرار الذي أرجعته بريطانيا لثبوت إدانتهما بالاعتداء على أفراد الأمن المصريين والشخصيات العامة.
خبراء أمنيون وبرلمانيون ومختصون في الحركات المتطرفة بمصر أكدوا، أن «إدراج الحركتين سوف يعزز قدرة حكومتي أميركا وبريطانيا على تعطيل أنشطة هذه المنظمات الإرهابية... وأن ذلك القرار هو بداية التعامل مع (الإخوان) بسيناريو الحظر». الخبراء قالوا لـ«الشرق الأوسط» إن إدراج «حسم» و«لواء الثورة» ضمن قوائم الإرهاب مهم فيما يتعلق بتعامل واشنطن مع الأصوليين الذين يتجهون للإرهاب.
وأعلنت «لواء الثورة» عن ظهورها الأول بمصر في أغسطس (آب) عام 2016، عقب تبنيها الهجوم على كمين العجيزي في مدينة السادات بمحافظة المنوفية بدلتا مصر، كما أعلنت مسؤوليتها عن مقتل أحد عمداء الشرطة المصرية... أما حركة «سواعد مصر... حسم» فلديها ماضٍ عنيف، فتسببت حتى نهاية العام الماضي في مقتل 9 شرطيين وإصابة مثلهم، بينما فشلت في اغتيال مسؤولين قضائيين، هما النائب العام المساعد زكريا عبد العزيز، ورئيس محكمة جنايات القاهرة أحمد أبو الفتوح، إضافة إلى المفتي الأسبق علي جمعة... وبشعار على هيئة «كلاشنيكوف» متبوعاً بعبارة «بسواعدنا نحمي ثورتنا»، أعلنت الحركة عن نفسها في يناير (كانون الثاني) عام 2014. وعلى الرغم من أن «حسم» وصفت نفسها في البداية أنها «حركة ثورية» تهدف إلى استعادة روح ثورة «25 يناير» عام 2011؛ فإنها تحولت لحركة دموية، وعدلت عن رؤيتها وتبنت أعمالاً تخريبية وعمليات اغتيال.
من جانبه، قال العميد خالد عكاشة، الخبير الأمني، عضو المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف التابع لمؤسسة الرئاسة في مصر، إن إدراج «حسم» و«لواء الثورة» خطوة مهمة لإدراج «الإخوان» على قوائم الإرهاب على المستوى الدولي في المستقبل. معتبراً تلك الخطوة بمثابة تطور إيجابي في إدراك شركاء مصر الدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، لخطورة جماعة «الإخوان» والتنظيمات المنبثقة عنها على أمن واستقرار مصر. مؤكداً أن المنظمات التي أدرجت على قوائم الإرهاب مؤخراً قامت بافتعال الكثير من العمليات الإرهابية لزعزعة استقرار الدول العربية... و«بكل المقاييس القرار جيد وإيجابي، وإن كان متأخراً، حيث كان من المفترض أنه بمجرد تحويل مصر عناصر الحركتين إلى القضايا، وإدراجهما على قائمة الإرهاب أن تقوم دول العالم بوضعهم أيضاً».
وعن الآثار المترتبة على القرار الأميركي، رأى عكاشة، أن «الأمن المصري يتواصل مع أميركا، وإن كان هناك بعض الهاربين بواشنطن في قضايا أو بعض المطلوبين للتحقيق أمام النيابة، فالقرار الأميركي يسمح لمصر بطلب توقيفهم».
واعتبرت مصر أن «القرار الأميركي ترجمة عملية للتضامن مع القاهرة ضد الإرهاب، وتقديراً لما تواجهه من محاولات خسيسة تستهدف إعاقة مسارها التنموي وانطلاقها الاقتصادي... وهو الأمر الذي عبر عنه المسؤولون الأميركيون على أعلى المستويات خلال الفترة الأخيرة، ويمثل خطوة مهمة إلى الأمام على مسار تبنى المجتمع الدولي لاستراتيجية شاملة وفعالة في القضاء على الإرهاب واجتثاثه من جذوره».
من جانبه، قال الدكتور خالد الزعفراني، المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة في مصر، إن قرار الإدراج سوف يحجم الحركتين ويمنع التمويل والأسلحة عنهما، وهو ما يساعد على تجفيف منافذ تمويلهما، لافتاً إلى أن إدراج «حسم ولواء الثورة» في قوائم التنظيمات الإرهابية رسالة موجهة لـ«الإخوان» بشكل أكبر مما هي موجهة لأي طرف آخر. في الوقت نفسه أوضح الزعفراني أن تصنيف الحركتين كمنظمات إرهابية، لن يكون له تأثير عملي حقيقي على أرض الواقع؛ لأن نشاطهما في مصر فقط، وليس لهما امتدادات خارجها، وليس من بين أعضائهما شخصيات أو رموز بارزة. إلا أنه قال إن إدراج «حسم» و«لواء الثورة» ضمن قوائم الإرهاب، مهم فيما يتعلق بتعامل واشنطن مع الأصوليين الذين يتجهون للإرهاب.
ويتفق خبراء الأمن، والمختصون في شؤون الحركات الإسلامية، أن «حسم» أحد إفرازات جماعة «الإخوان»، التي أزيحت عن السلطة عبر مظاهرات شعبية حاشدة في يونيو (حزيران) عام 2013. وأنه عقب وصول «الإخوان» للحكم وخروجها منه، كانت هناك أجنحة لم تقبل هذا الخروج، وبدأ ظهور مجموعة «العمليات النوعية» بقيادة القيادي الإخواني محمد كمال (مؤسس الجناح المسلح لـ«الإخوان» ولجانها النوعية)، وظهرت في ذلك الحين «حسم».
وسبق أن رفع شعار «حسم» مجموعات تابعة للجان نوعية تشكلت من شباب جماعة «الإخوان» بعد فض اعتصامين لأنصار الجماعة في ميداني «رابعة العدوية» بضاحية مدينة نصر شرق القاهرة، وميدان «النهضة» بالجيزة في أغسطس عام 2013.
ويشار إلى أن التحقيقات مع عناصر «حسم» أمام النيابة العامة في مصر، أشارت إلى اعترافهم بالاتفاق مع قيادات من «الإخوان» في الخارج «لإخضاعهم لتدريبات عسكرية متقدمة على استعمال الأسلحة النارية المتطورة وتصنيع العبوات المتفجرة شديدة الانفجار».
أما بداية فضح العلاقة بين «الإخوان» و«لواء الثورة» جاءت عن طريق بيان صادر عن وزارة الداخلية المصرية في مارس (آذار) عام 2016 أعلنت فيه مقتل أحد عناصر حركة «لواء الثورة» التابعة لـ«الإخوان» في الإسماعيلية عقب تبادل لإطلاق النيران معه... وسبق أن أعلن المتحدث باسم «لواء الثورة»، ويدعى صلاح الدين يوسف، انتساب الحركة لجماعة «الإخوان»، وأنهم يستقون فكرهم من سيد قطب (الأب الروحي لـ«الإخوان»)، وحسن البنا (مؤسس الجماعة)، وأبو مصعب السوري (أحد القادة المحسوبين على تنظيم القاعدة)... كما أشارت «لواء الثورة» في بيان آخر إلى ارتباطها بـ«حسم».
وعن الفرق بين الحركتين، قال عمرو عبد المنعم، المتخصص في شؤون الحركات المتشددة، إن هناك فرقاً بين «لواء الثورة» و«حسم»... فـ«لواء الثورة» تستهدف رجال السلطة القضائية كرد فعل على الأحكام التي تصدر بحق قيادات جماعة «الإخوان» خصوصا الهاربين في الخارج، فضلا عن قيامها بعمليات انتقامية من بعض أمناء الشرطة.
وقال مراقبون إن «الإخوان» اعتمدت منذ نشأتها على التنظيمات السرية للتخلص من خصومها... و«حسم» و«لواء الثورة» محاولة من «التنظيم الخاص» لـ«الإخوان» لمحاربة مؤسسات الدولة في مصر وضباط الشرطة والجيش.
وأوضح عبد المنعم، أن «الإخوان» تنفي دائماً وجود صلة لها بـ«لواء الثورة»، وتقول إن خطابها «ثوري ليبرالي»؛ لكن «لواء الثورة» تستخدم مصطلحات دينية مثل «رد العدوان»، وتصحب إصدارات الحركة على الإنترنت موسيقى كنوع من أنواع التمويه لعمل إرباك لأجهزة الأمن.
وعن عناصر «لواء الثورة»، قال عبد المنعم، درسوا كتاب «دليل المقاومة»، والحركة منذ ما يقرب من عامين استطاعت أن تصنع مجموعة من العمليات التي تعتمد على «البلاغات الكاذبة» مثل توعد بعض قيادات الداخلية أو القضاة أو الإعلاميين بالاستهداف، وأطلق على هذه الطريقة «الإرهاب... السلاح المعطل»، لعمل إرباك للسلطات ولإثارة الانفلات الأمني، موضحا أن الحركة تعتمد على النكاية، ثم الإنهاك، ثم إدارة الانفلات الأمني، وتحصل على الدعم عن طريق التبرعات من الداخل، فضلا عن أموال من قيادات «الإخوان» في الخارج.
وأكد عبد المنعم أن الإدراج على قوائم الإرهاب سوف يعزز قدرة حكومتي أميركا وبريطانيا على تعطيل أنشطة هذه الحركتين، وأن ذلك هو بداية التعامل مع «الإخوان» بالمثل.
أما عن «حسم»، فقال أحمد بان، الباحث المتخصص في شؤون جماعات الإسلام السياسي، إنه بالنظر إلى المفردات التي استخدمتها «حسم» في بدايتها، لم تخرج عن نطاق تعبيرات مثل «الثورة والثأر»، وكان يبدو أنها لا تنتمي للتنظيمات المتشددة الأخرى التي تنادي بتطبيق الشريعة كـ«أنصار بيت المقدس سابقاً» أو «ولاية سيناء» مثلاً، فخطابها يتطابق منذ البداية مع خطاب «الإخوان». مضيفاً: أن «حسم» حاولت أن تُقدم نفسها كحركة تحرر وطني في البداية، واختارت أهدافا رخوة مثل استهداف كمين أو مرتكز أمني، لكن أبرز عملياتها تمثلت في محاولتي اغتيال النائب العام المساعد ومفتي مصر السابق.
في السياق ذاته، أكد عصام أبو المجد، عضو لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب (البرلمان)، أن «إدراج الحركتين على قائمة المنظمات الإرهابية، سيضع جماعة الإخوان على القائمة قريباً، ودليل على أن أذرع الجماعة تتهاوى»، فـ«حسم» و«لواء الثورة» يتبعان مباشرة لـ«الإخوان» وهما الجناحان العسكريان للجماعة وذراعاها المسلحان للانتقام من الدولة المصرية، وقرار الإدراج انعكاس لجهود بذلت بين الدول الغربية، وأثمرت توثيقا معلوماتيا تجاه تلك الحركات، وأسفرت عن القرار الأميركي وقبله البريطاني.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.