السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم

«نحن نستطيع... أنا أستطيع» شعار حملة التوعية بمخاطره في يومه العالمي

السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم
TT

السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم

السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم

يصادف الرابع من فبراير (شباط) اليوم العالمي للسرطان الذي ينظمه سنوياً الاتحاد الدولي لمكافحة السرطان؛ بهدف رفع الوعي العالمي من مخاطر المرض عبر الوقاية وطرق الكشف المبكر للمرض والعلاج. ويتمثل الهدف الرئيسي في تقليل أعداد الإصابة والوفيات بالسرطان إلى أدنى حد بحلول عام 2020، وتحمل الحملة التي أطلقها الاتحاد الدولي لمكافحة السرطان، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية لأعوام 2016 - 2018 شعار (نحن نستطيع... أنا أستطيع).
تشير أحدث التقديرات إلى احتمال حدوث 23.6 مليون إصابة بالسرطان حول العالم بحلول عام 2030، ووفق الإحصاءات المتوافرة عن المرض، فقد أصيب به 14.1 مليون إنسان حول العالم عام 2012، كان 40 في المائة منها في دول العالم متوسطة وقليلة الدخل.
ويحتل سرطان الرئة المرتبة الأولى في أكثر 10 أنواع شائعة من السرطان حول العالم، ويليه سرطان الثدي، ثم سرطانا الأمعاء والبروستاتا. ويشيع سرطان الرئة أكثر بين الرجال في كل مكان في العالم؛ إذ تشخص به حالة واحدة من كل 10 حالات، وقد ظلت سرطانات الرئة والثدي والأمعاء (وضمنها سرطان الشرج)، والمعدة، والبروستاتا منذ عام 1975 من أكثر حالات التشخيص الشائعة بالمرض. ووفقاً للتقديرات، فإن 32.5 مليون مصاب بالسرطان ظل حياً في غضون 5 سنوات سبقت تسجيله عام 2012، وتحتل فرنسا الموقع الأول في عدد الإصابات بين الرجال بواقع 385 حالة لكل 100 ألف رجل، بينما تحتل الدنمارك الموقع الأول في عدد الإصابات بين النساء - 328 لكل 100 ألف، في حين حل لبنان أولاً عربياً بـ200 حالة.
ووفقاً لمقاييس العمر المعيارية، فإن معدلات حوادث الإصابة بالسرطان لدى الرجال تتفاوت بأربع مرات بين منطقة جغرافية وأخرى في العالم، وفي حين تبلغ أعداد الإصابات 79 حالة من كل 100 ألف شخص في أفريقيا الغربية، فإنها تزداد إلى 365 لكل 100 ألف رجل في أستراليا ونيوزيلندا. أما بين النساء، فإن معدلاتها تتفاوت بثلاث مرات، وتتراوح بين 103 حالات لكل 100 ألف منهن في جنوب ووسط آسيا، و295 لكل 100 ألف في أميركا الشمالية.
- إحصاءات عربية
وفقاً للإحصاءات المتوافرة، فإن معدلات الإصابة في الدول العربية تتفاوت بمقدار الضعف بين أقلها وأكثرها إصابة. وفي لبنان، سجلت 200 حالة سرطانية لكل 100 ألف نسمة، تبعتها مصر 152.04، ثم سوريا 145.91، ثم العراق 135.27 حالة لكل 100 ألف شخص. وتبلغ أعداد الإصابات في الأردن 155.4، وفي فلسطين 145.73 لكل 100 ألف شخص.
وفي دول الخليج سجلت 102.12 حالة في الكويت، و92.52 في الإمارات العربية، و91.06 حالة في السعودية، و82.05 في عمان لكل 100 ألف شخص، بينما سجلت في السودان 91.1 حالة، وفي اليمن 80.36 حالة لكل 100 ألف شخص. وسجلت في ليبيا 124.12، وفي الجزائر 123.49، وفي المغرب 117.84، وفي تونس 110.57 حالة لكل 100 ألف شخص.
ووفقاً للعلماء، يوجد نحو 200 شكل متنوع من السرطان، وهو مجموعة من الأمراض التي تتميز خلاياها بالنشاط العدائي المتمثل في تكاثر خلاياه وانقسامها، ثم قدرتها على الانتشار، وغزوها مناطق أخرى من الجسم؛ ولهذا تسمى الأورام الخبيثة تمييزاً لها عن الأورام الحميدة التي تنمو في إطار محدود ولا تقوم بغزو الأنسجة المجاورة.
ولا يزال السرطان من أكثر الأمراض المستعصية التي لم ينجح الأطباء في علاجها نهائياً، رغم الأبحاث الرائدة في هذا المجال. وتشير الإحصاءات إلى أن معدل الوفيات بسبب السرطان انخفض في الولايات المتحدة بـ26 في المائة منذ عام 1991، ويعزى هذا إلى الاختبارات والعلاجات التي طبقت على السرطانات الرئيسية: الرئة والثدي والبروستاتا والقولون. إلا أن معدل الوفيات ارتفع بـ2.7 في المائة سنوياً عند النساء وبـ1.6 في المائة عند الرجال نتيجة إصابات سرطان الكبد بين عامي 2011 – 2015. وعزت جمعية السرطان الأميركية هذا إلى ارتفاع معدل مرض التهاب الكبد «سي».
وتتعدد عوامل الخطر التي تقود إلى الإصابة بالسرطان؛ إذ يزداد خطر الإصابة مع التقدم في العمر ونتيجة التركيبة الجينية، والتعرض لعدد من العوامل الأخرى، منها عوامل ترتبط بأساليب الحياة الغذائية والمعيشية. وتتشابه عوامل الخطر في كل أنحاء العالم، ومنها: التدخين، وتناول الكحول، وحياة الكسل، والنظام الغذائي، والبدانة والسمنة، إضافة إلى العدوى. ويمارس التدخين حالياً نحو مليار شخص في العالم، وهو يتسبب في 33 في المائة من حالات الإصابة، وهو عامل الخطر الأكبر الذي يمكن التخلص منه، بينما يتسبب تناول الكحول في حدوث 12 في المائة من حالات الإصابة بالسرطان.
وأشارت أكبر دراسات لاحتمالات النجاة من السرطان نشرت على موقع مجلة «لانست» الطبية حديثاً، واعتمدت على بيانات من سجلات أمراض السرطان في 71 دولة تغطي 67 في المائة من سكان العالم بين الفترة 2000 و2014، إلى أن النجاة من السرطان تتوسع في دول عدة حتى بالنسبة لأكثر السرطانات خطراً، مثل سرطان الكبد والرئة. وبينما تحسنت معدلات تعافي الأطفال من أورام المخ في الكثير من الدول، وأظهرت الدراسة أن نسبة التعافي وصلت حتى عام 2014 إلى نحو 80 في المائة في السويد والدنمارك، بينما كانت النسبة أقل من 40 في المائة في المكسيك والبرازيل. وقال الباحثون: إن «هذه الفجوة ترجع على الأرجح إلى التفاوت في توفر خدمات تشخيص وعلاج المرض وجودتها».
- السعودية... سرطان الثدي أولاً بين النساء... واللوكيميا لدى الأطفال
ويحتل سرطان الثدي المرتبة الأولى والأكثر شيوعاً بين البالغين السعوديين من الإناث يليه الغدة الدرقية، بينما يحتل سرطان القولون والمستقيم المرتبة الأولى بين الذكور يليه اللمفاوي، ويحتل سرطان ابيضاض الدم (اللوكيميا) المرتبة الأولى بين السرطانات العشرة الأكثر شيوعاً بين الأطفال السعوديين، يليه سرطان الدماغ والجهاز العصبي للذكور والإناث.
وأوضح الدكتور عمر الشريف، استشاري أمراض الدم والسرطان والأورام لدى الأطفال ورئيس قسم أورام الأطفال في مدينة الأمير سلطان الطبية العسكرية، لـ«الشرق الأوسط»، أن الإصابة بالسرطان في ازدياد، ولا يوجد للإصابة به سبب معروف، لكن توجد بعض المسببات التي تؤدي إلى الإصابة به، وهي: المواد والمسرطنات الكيميائية، والإشعاع، والخلل الهرموني والطفرات الجينية، إضافة إلى العامل الوراثي. وأوضح الشريف، أن تناول الأكل غير الصحي واستخدام الأجهزة الإلكترونية لوقت طويل بشكل عام وللأطفال بشكل خاص أحد أهم الأسباب التي أكدت النظريات العلمية أنها مسببه للإصابة بالسرطان، مشدداً على ضرورة منع الأطفال دون سن الثالثة من استخدام الأجهزة الإلكترونية وتقنين استخدامها للأطفال حتى سن 14 سنة.
وتروي لـ«الشرق الأوسط» الدكتورة سامية العمودي، مؤسس ورئيس وحدة التمكين الصحي والحقوق الصحية في كلية الطب في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، تجربتها مع المرض التي حفزتها لإصدار سلسلة من الكتيبات لنشر الوعي وافتتاح عيادة عن الحقوق الصحية الإنجابية لمرضى السرطان، وقالت: «دخلت عالم السرطان في 2006، وتحولت مناحي حياتي الصحية والمجتمعية والنفسية وحتى الاقتصادية، وأصبت به مرة أخرى في عام 2015». وتضيف: «اكتشفت في هذه الفترة أن عالم السرطان مثل المغارة التي بها الكثير من السراديب التي أجهلها، ساقتني لتعلم معنى منظومة العمل المتكامل، ودخلت عالم التمكين الصحي والحقوق الصحية».
وأوضحت استشاري الأشعة التشخيصية الدكتورة فاطمة زينهم، أن سرطان الثدي أكثر إصابة بين النساء في السعودية عن سرطان عنق الرحم، وأن نسبة انتشاره في تصاعد عالمياً، مبينة أن اكتشافه مبكراً يؤدي إلى الشفاء الكامل منه، بينما مراحله المتقدمة تتطلب التدخل الجراحي. وقالت: «السرطان مرض عائلة لا مرض فرد، فأبعاده ليست فقط صحية، بل اجتماعية ونفسية، وأيضاً اقتصادية».
- لبنان: التلوث وسوء إدارة الملفات الصحية يرفعان إصابات السرطان
وتتزايد في لبنان، على نحو مقلق، معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية، في طفرة يردها المختصون أولاً إلى نسب التلوث العالية التي تضرب لبنان، إضافة إلى مخاطر أخرى تتعلق بسلامة الغذاء. وما يزيد من قلة الهيئات المتابعة للمرض في لبنان، هو إصابة فئات عمرية أصغر من المعدل الطبيعي المعتاد. وتطغى في لبنان، ملفات عدة يحذر المختصون من أنها مسؤولة عن ارتفاع احتمالات الإصابة بالمرض، أولها ملف النفايات الذي يشغل اللبنانيين منذ 3 أعوام، وسياسيات الحكومات في التعاطي معها. فالنفايات التي غزت شوارع لبنان، حينها، لم تختف من طبيعته، وكانت العاصفة الطبيعية الأخيرة التي ضربت لبنان الشهر الماضي قد فضحت علنية رمي منظم للنفايات في مجاري الأنهر التي رمتها في البحر، ليستيقظ اللبنانيون على مشهد غريب للنفايات تغزو الشاطئ شمال بيروت. أما تلوث نهر الليطاني، فهو مسؤول بدوره عن زيادة الحالات السرطانية على طول مجرى النهر الأطول في لبنان، في حين تتكفل المبيدات الزراعية بمزيد من الحالات مع تقارير تحدثت عن مبيدات محرمة دولياً تم تهريبها إلى لبنان.
وقد أطلق وزير الصحة العامة غسان حاصباني، الأسبوع الماضي البروتوكولات الطبية للأمراض السرطانية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وتحدث حاصباني عن «التطور الكمي للأمراض السرطانية»، موضحاً أن احتمالات الإصابة بالسرطان انتقلت من 100 إصابة لكل 100 ألف مواطن عام 2006 إلى 200 إصابة، وحالياً إلى نحو 300 إصابة، وفي عام 2016 سجل 13 ألف إصابة جديدة، ويتزامن ذلك مع تطور الكلفة.
وقد كشف السجل الوطني لداء السرطان في وزارة الصحة في لبنان ارتفاعاً مضطرداً في نسبة إصابة اللبنانيات بسرطان الثدي. فاستناداً إلى الإحصاءات الأخيرة التي تم إجراؤها في عام 2015، تم تسجيل 2473 إصابة بسرطان الثدي في لبنان، في مقابل 1993 إصابة في العام 2010.
أما الخطير، فهو أن هذا السرطان الذي يصيب عادة سيدات في عقدهن الرابع وما فوق، يصيب في لبنان فتيات وسيدات في عقديهن الثاني والثالث. وتقول مديرة برنامج مكافحة السرطان في وزارة الصحة العامة الدكتورة فاديا إلياس: إن «النسبة المصابة من العمر الشاب في لبنان هي أعلى بكثير من النسبة المصابة من العمر الشاب في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.» وتبقى هذه الأرقام للأشخاص الذين يعالَجون على نفقة وزارة الصحة في حين أن البعض الآخر يتلقى العلاج على نفقته الخاصة.
- مصر: الاكتشاف المتأخر يزيد الوفيات
ولا يدرك أغلب المصريين إصابتهم بالمرض إلا في المراحل المتأخرة، التي يصعب معها الشفاء؛ وهو ما يفسر الانطباع السائد بأن نسب الإصابة بالسرطان منتشرة في مصر، رغم أنها أقل من الدول المتقدمة، كما يقول الدكتور حسين خالد، عضو اللجنة القومية للأورام بمصر والعميد الأسبق لمعهد الأورام القومي. ويوضح خالد لـ«الشرق الأوسط»، أن «أرقام السجل القومي تسجل 113 حالة جديدة مصابة بالمرض لكل 100 ألف نسمة سنوياً، وهو معدل طبيعي قياساً بالبلدان الأخرى النامية، التي تراوح معدلات الإصابة بها وفق أرقام منظمة الصحة العالمية ما بين 100 و300 حالة لكل 100 ألف نسمة، في حين أن المعدلات تراوح في الدول المتقدمة ما بين 300 و500 حالة لكل 100 ألف».
ويخلص خالد إلى القول: إن «معدلات الإصابة بالمرض لا تزال في المنطقة الخضراء الآمنة»، لكنه يخشى في الوقت ذاته من «ازديادها مستقبلاً إذا لم ننجح في السيطرة على مسبباته». ويضيف: إنه «مع التقدم الكبير الذي حدث في علاج فيروس (سي) بمصر، من المتوقع أن تنخفض معدلات الإصابة بسرطان الكبد الذي يحتل حالياً المرتبة الأولى في معدلات الإصابة بالسرطان في الرجال (39 حالة تقريباً لكل 100 ألف من الرجال)، وما نأمله هو أن ننجح في السيطرة على المسببات الأخرى للمرض».


مقالات ذات صلة

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

صحتك صورة توضيحية تُظهر ورماً في المخ (أرشيفية)

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

يفترض الباحثون أن شبكة الذكاء الاصطناعي التي تم تدريبها على اكتشاف الحيوانات المتخفية يمكن إعادة توظيفها بشكل فعال للكشف عن أورام المخ من صور الرنين المغناطيسي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)