فاجأ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المراقبين، معلناً نهاية التوتر المصري الإثيوبي السوداني، عقب تجميد مفاوضات سد النهضة الإثيوبي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وجاء ذلك بعد قمة ثلاثية جمعته بنظيره السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين على هامش أعمال قمة الاتحاد الأفريقي، التي عقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بنهاية يناير (كانون الثاني) الفائت. وكانت مفاوضات البلدان الثلاثة على «سد النهضة الإثيوبي» قد وصلت إلى طريق مسدود ما أدى لتجميدها، إثر تحفظ سوداني إثيوبي على نقاط تضمّنها تقرير المكتب الاستشاري الفرنسي الاستهلالي لدراسة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للسد. وأعلن وزير الرّي المصري محمد عبد العاطي، بالنتيجة، تجميد المفاوضات بين البلدان الثلاثة في نوفمبر الماضي، وبذا بلغت الأمور حافة الهاوية.
في التاسع والعشرين من يناير الماضي، على هامش أعمال قمة الاتحاد الأفريقي التي استضافتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، عقد الرئيسان المصري عبد الفتاح السيسي والسوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلا ماريام ديسالين «قمة» استغرقت بضع ساعات في فندق «شيراتون أديس أبابا»، أفلحت في إزالة أجواء التوتر الذي شاب علاقة البلدان الثلاثة.
وبنهاية الاجتماع، خرج الرؤساء الثلاثة تعلو وجوههم ابتسامات غامضة، لكنهم بدّدوا الغموض برفع أيديهم متشابكة أمام الصحافيين وكاميرات التلفزيون، معلنين «الأزمة انتهت». ثم بادر الرئيس السيسي إلى القول للصحافيين «لدى مصر وإثيوبيا والسودان قادة مسؤولون التقوا وتكلموا واتفقوا». وأردف مشيراً إلى مخاوف بلاده من أضرار متوقعة تصيبها بإنشاء السد «ما فيش ضرر إن شاء الله، مصلحة إثيوبيا هي مصلحة مصر والسودان... ونحن نتكلم كدولة واحدة وليس كثلاث دول». وعلى الأثر طلب من الإعلاميين الذين كان يتحدث إليهم (أغلبهم من المصريين والسودانيين) لعب دور إيجابي في التهدئة، قائلا: «الدور عليكم كإعلاميين لتحافظوا على العلاقات مع الدول الثلاث... لا تقلقوا ولا ترسلوا رسائل تسيء للآخرين، فهناك آلية ولجان شغّالة»، وذلك على خلفية الحملات الإعلامية المتبادلة.
لجنة سياسية وأمنية
من جهة ثانية، وفقاً لتصريحات وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور في مطار الخرطوم، بعيد عودته من أديس أبابا الأسبوع الماضي، فإن الرؤساء الثلاثة اتفقوا على تكوين لجنة سياسية أمنية من وزراء الخارجية والأمن وأجهزة المخابرات في الدول الثلاث، وستجتمع اللجنة في غضون شهر لتقديم تقريرها للرؤساء. واتفقوا أيضاً على ربط الدول الثلاث بشبكة طرق حديدية وبرية، وإنشاء صندوق مالي مشترك بأنصبة متساوية لتمويل هذه المشروعات المشتركة.
في أي حال، التصريحات التي خرجت من القمة الثلاثية أثارت دهشة المراقبين وتكهناتهم، لأنها انتقلت بالأوضاع فجأة من حافة الهاوية التي وصلتها في نوفمبر الماضي بتجميد المفاوضات، إلى وضع يتيح الالتقاء والتفاهم، وهو لم يكن متوقعاً التوصل إليه بهذه السهولة. وتعليقاً على هذه التصريحات، علّق المستشار بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية المصري هاني رسلان عبر حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» فقال: «القمة الثلاثية لسد النهضة في أديس أبابا، خطوتان إلى الوراء». كذلك اعتبر في حديث للفضائية الروسية أن ما صدر من معلومات «غير واضح المعالم»، ووصف ما خرجت به القمة الرئاسية بأنها «صيغ عامة فضفاضة». وانتقد رسلان في حديثه أيضاً زيارة الرئيس ديسالين إلى القاهرة 19 يناير الماضي، قائلا: «شاهدنا من قبل زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي للقاهرة، ولم ينتج عنها شيء يذكر فيما يتعلق بملف سد النهضة... ديسالين تعلل حينها بأن هذا ملف ثلاثي الأبعاد». ومن جانب، شكك الخبير المائي المصري نور أحمد نور - وفق وسائل إعلام مصرية - بـ«الطمأنة» إلى أنه لا إضرار بأمن مصر المائي.
حملات عنيفة
جدير بالذكر أنه قبل انعقاد قمة أديس أبابا الثلاثية خاض إعلام الدول الثلاث حملات إعلامية عنيفة. وسرّبت وسائل إعلام إثيوبية - بل يتردد أن إثيوبيا أبلغت الخرطوم رسمياً - بأنها رفضت طلباً مصرياً بإجراء مباحثات ثنائية تستبعد السودان. ومن ثم، توترت العلاقات المصرية السودانية بشكل لافت، واتهمت الخرطوم القاهرة بـ«التآمر عليها» عبر حدودها الشرقية بالتعاون مع جارتها إريتريا، ونقلت قوات عسكرية كبيرة إلى الحدود التي أغلقتها تماماً. ونقلت عن مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود أن مصر وإريتريا حشدتا قوات عسكرية كبيرة في معسكر ساوا القريب من الحدود السودانية، وهو ما دفع الخرطوم لإغلاق الحدود التي لا تزال مغلقة حتى الآن. كذلك نقل في نوفمبر الماضي عن وزير الخارجية السوداني غندور أن بلاده «ستستعيد حصتها الكاملة من مياه النيل بفضل سد النهضة، بما يمكنه من استخدامها كاملة بعد أن كانت تذهب إلى مصر على سبيل الدين»، وأن «التخوفات المصرية من السد الإثيوبي، تتمثل في خسارتها لنصيب السودان من مياه النيل الذي كان يذهب إليه خارج اتفاقية 1959».
وسارع وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى الرد بالقول إن ما طرحه وزير الخارجية السودانية بخصوص حصص مياه النيل «غير دقيق»، وأن مصر منزعجة لأنها ستخسر ما يصلها من فائض حصة السودان، وأضاف: «السودان يستخدم كامل حصته من مياه النيل والمقدّرة بـ18.5 مليار متر مكعب سنوياً منذ فترة طويلة». وأوضح شكري أن ما كان يفيض من المياه السودانية في سنوات سابقة بسبب عدم اكتمال القدرة الاستيعابية للسودان كان يذهب إلى مجرى النهر في مصر بغير إرادتها وبموافقة السودان، ويشكل خطراً على السد العالي نتيجة الزيادة غير المتوقعة في السعة التخزينية له، خاصة، في وقت الفيضان المرتفع.
مفاوضات السد
تبعاً لارتفاع معدلات التوتر بين البلدان الثلاثة، اقترحت مصر إشراك «البنك الدولي» طرفاً رابعاً في مفاوضات سد النهضة، لكن المقترح المصري لقي رفضاً قاطعاً من كل من إثيوبيا والسودان، اللتين اعتبرتاه محاولة مصرية للالتفاف على اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين رؤساء الدول الثلاث في الخرطوم خلال مارس (آذار) 2015، المتسق مع المبادئ الرئيسية للقانون الدولي الحاكمة للأنهار الدولية. والسودان من جهته، رأى في قيام سد النهضة فائدة عظيمة له، فهو يحفظ له حصته غير المستغلة من مياه النيل، ويزوّده بطاقة كهربائية رخيصة، ويحميه شر الفيضانات، وينظم تدفق المياه إلى سدوده الكهرومائية. وفي هذا الشأن يقول المحلل السياسي محمد لطيف، مدير مؤسسة «طيبة برس للإعلام»، في برنامج بثته فضائية (سودانية إس 24) الأسبوع الماضي، إن «سد النهضة قضية مركزية بالنسبة للسودان، ويحفظ أمنه المائي». وأردف: «60 في المائة من الإنتاج في السودان متعطل لنقص الطاقة الكهربائية، فإذا كانت واحدة من فوائد سد النهضة للسودان إمداده بكهرباء مستقرة ورخيصة، فهذا أنجع سبيل لمعالجة أوضاع الاقتصاد السوداني». وحسب لطيف: «هناك تخوف من أن يؤدي تنظيم السد لتدفقات المياه إلى فقدان نصف مليون فدان تروى فيضياً، لكن في الوقت ذاته فإن السيطرة على حصة السودان من مياه النيل تمكنه من زراعة 3.5 مليون فدان... نحن اليوم نخسر مليون فدان مقابل ثلاثة ونصف».
حملة علاقات عامة؟
هذا، وفي حين رأى محللون ومراقبون، بينهم هاني رسلان، في القمة حملة علاقات عامة، ذكر رئيس تحرير صحيفة «السوداني» ضياء الدين بلال الذي شهد القمة، في برنامج الفضائية السودانية نفسه أن الجانب المصري بدا حريصاً على تجاوز ما سماه «الاختناق». ودلل على ذلك بزيارة الرئيس السيسي للرئيس البشير في مقر إقامته. وأوضح بلال أن «ما تم التوصل إليه في القمة كان متوقعاً، وأن حديث الرئيس المصري لم يخاطب التفاصيل لكنه أرسل تطمينات». وأوضح أن رفع الرؤساء أياديهم متشابكة ليس جديداً، فقد حدث من قبل بعد توقيع اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة في مارس 2015 بالخرطوم، ومع ذلك أعقبه تدهور في العلاقات. ولكن «مع ذلك - يقول بلال - جاءت هذه المرة جرعة تحاول تخفيف من حالة الاحتقان والتوتر، لأن التوتر يفتح سقف المزايدات». وقطع بلال بأن ما تحقق في أديس أبابا يسمح بالسيطرة على توتر علاقات البلدان الثلاث الذي بلغ مرحلة خطيرة، وأبدى أمله في أن يسهم اللقاء في تهدئة هذه التعقيدات لفترة طويلة، أو أن ينهيها تماماً.
غير أن لطيف يعتقد أن اللقاء الثلاثي «أغلق ملفات الخلاف والتوتر، وفتح صفحة جديدة»، وفتح الطريق لمواجهة أزمة توصيف الصحافة المصرية والرئيس السيسي لقضية سد النهضة بأنها «قضية حياة أو موت بالنسبة للمواطن المصري البسيط». إلا أنه يرى أيضاً بأن مصر مطالبة بـ«موقف موضوعي من الأزمة» حسب تعبيره، متابعاً «لا خيار من تعاملها بموضوعية مع تطورات الأحداث، بإعطاء شعبها الحقائق، خاصة أن الإقليم يواجه تعقيدات وتقاطع مصالح دولية». وأضاف: «إذا كنا حريصين على استقرار الإقليم، فسنبدأ باستقرار العلاقة بين أطرافه الثلاثة، الدول الثلاث».
من جهة أخرى، يعتبر بلال اللقاء تحريكاً لما سماه «الساكن»، نتج عنه تكوين لجنة سياسية أمنية، تضم وزيري الخارجية الري، وأضيف لها طرف آخر هو المخابرات لمعالجة التعقيدات المخابراتية التي تواجه الملف. ويضيف: «صحيح هناك تحفظات على نفي الأزمة، لكن هناك خطوات عملية اتخذت تمثلت في تشكيل اللجنة السياسية الأمنية، وتحريك المفاوضات الفنية، وإنشاء الصندوق المالي، والمقاربات الاقتصادية بتمويل شبكة طرق برية وحديدية... في نظري هذا أقصى ما يمكن أن تخرج به قمة رئاسية لأنها لا يمكن أن تناقش التفاصيل». وهنا لا يجزم بلال بأن القمة تجاوزت الأزمة، لكنه يرى أنها وضعت مؤشرات تمكن من تجاوزها، وبـ«أن مصر تجاوزت نقطة مهمة جداً، فهي بعد أن كانت ترفض السد من حيث الوجود، فهي الآن تناقش في التفاصيل، وإدارته التخزينية وغيره».
تكتيكات لحظية
أيضاً يرى محللّون سودانيون أن ما خرجت به القمة الثلاثية مجرد «تكتيكات لحظية»، تتعلق بالأوضاع الحرجة التي تعيشها البلدان الثلاثة. إذ بينما تواجه إثيوبيا مشكلات في تمويل السد، يواجه السودان مشكلات اقتصادية لا تسمح له بالدخول في نزاعات جديدة، وتنظر مصر إلى الانتخابات الرئاسية المزمعة، مستعينة بتطمينات بشأن موضوع المياه الحساس للناخب المصري. بيد أن محمد لطيف لا يوافق هذا الرأي، ويقول إن إثيوبيا أنجزت من السد ما يقارب 70 في المائة وما يتبقى منه ليس صعباً، أما الانتخابات المصرية فلا يتوقع فيها ما يقلب الموازين ويؤثّر جذرياً على أصوات الناخبين. ويجزم لطيف بأن مصر كسبت بعودتها لما أطلق عليه «الموقف الموضوعي» ما يمكنها الانطلاق للأمام. ويعتقد أن اللجنة الأمنية السياسية أتاحت لغة جديدة، الأطراف بحاجة لها، وهو ما اعتبره ضياء الدين بلال «عودة الوعي بالشروط الطبيعية للصراع».
هل ستتغير الأوضاع بين الدول الثلاث بفضل المقاربة الاقتصادية المجملة التي توصل إليها الرؤساء، أم ستقف في حدود كونها تهدئة لحظية تعود بعده الأوضاع لمربع «التوتر المحموم مجدداً»؟
هذا ما لا يمكن الإجابة عليه إلاّ بعد بدء أعمال اللجنة السياسية الأمنية المكوّنة حديثاً، والشروع في إنفاذ المقاربة الاقتصادية التي وضع الرؤساء خطوطها العامة التي تبدأ بربط البلدان الثلاث بطرق برية وحديدية ونهرية، وإنشاء صندوق مالي مشترك لتمويلها.