«الشرق الأوسط» في ترشيحات الأوسكار (1): خريطة طريق بين عشرة سيناريوهات قوية

بينها أعمال بيوغرافية وأخرى عن العنصرية

TT

«الشرق الأوسط» في ترشيحات الأوسكار (1): خريطة طريق بين عشرة سيناريوهات قوية

خلال الأيام القليلة الفاصلة بيننا الآن وبين إعلان نتائج الدورة التسعين للأوسكار، ستُخصّص «الشرق الأوسط» حلقات تتناول كل واحدة خصائص الأفلام أو الأشخاص المرشحين لكل جائزة على حدة. البداية من حيث تبدأ كل الأفلام: السيناريو‪.‬
حين يبدأ فيلم «أخرج» (Get Out) على الورق، تطالعنا من المشهد الأول قرة الكاتب - المخرج جوردان بيل على منح المادة حضورها المدهم. وكونه حوّل السيناريو الذي كتبه بنفسه إلى فيلم، فإنّه حافظ على ذلك الحضور الذي يتماوج بين الإطار الواقعي المتمثل بالعنصرية وبين ذلك الفانتازي الذي تقترحه أحداث الفيلم في ثلثه الأخير.
السيناريو الذي تمت قراءته بين السيناريوهات العشرة الموزعة بين مسابقة أفضل سيناريو أصلي وأفضل سيناريو مقتبس (بعضها أُرسل إلى أعضاء «جمعية صحافة هوليوود الأجنبية» إبان مسابقتها المعروفة بالغولدن غلوبس)، يضع القارئ سريعاً أمام الخطر الماثل بسبب العنصرية المتفشية: أندريه شاب يمشي في أحد الشوارع في ساعة متأخرة من الليل في حي سكانه من البيض. لا نرى أيا منهم، لكن هذا ما يقوله الرجل على الهاتف وهو يمشي بخطى حثيثة باحثاً عن عنوان المنزل الذي يقصده بعدما دخل الشارع الخطأ.
ندرك من خلال الحوار بينه وبين صديقه على الهاتف، أنّ الرجل في هذا الزمن الحاضر: السير في حي غير الحي الذي تقطن فيه، إذا ما كنت أسود البشرة في حي أبيض أو أبيض البشرة في حي أسود، محفوف بالخطر. ونحن حين نتابع كلمات جوردان بيل بتقطيعه النص إلى مشاهد قصيرة ندرك ما يشعر به الشاب، بل من حسن الكتابة أنّها تعكس أن الشاب على قلقه لا يتصوّر أنّ ما سيحدث معه بعد قليل سيحدث فعلاً. ولكن ها هي سيارة تتبعه بعد قليل. لا نرى وجه السائق، ها هو يخرج من سيارته ويعالج الشاب فاقد الوعي، ثم يسحبه إلى صندوق السيارة الخلفي ويضعه فيه.
- أبيض - أسود
براعة ما سبق تتجلّى لاحقاً عندما نرى أندريه، بعد أن قدّم نفسه باسم جديد هو لوغان، كأحد وجوه البيت الكبير الذي تقع في أرجائه معظم الأحداث. إنه منزل والدي روز، الفتاة البيضاء التي جاءت لزيارة والديها الثريين الساكنين خارج المدينة بصحبة صديقها كريس الذي تنوي الزواج به.
عندما يقدّم السيناريو كريس لوالدي روز ينقل بشفافية الشعور التحتي الخفي غير المريح، لكنّه الواثق كثقة أندريه قبيل خطفه، من أنّ كل شيء سيكون على ما يرام ولا تتجمع تلك الشكوك إلّا عندما يلتقي مع أندريه- لوغان (في الصفحة 49) في الحفلة التي تقام في الحديقة. لكنّ لوغان لم يعد أندريه الذي تعرفنا عليه. فقد دُجّن ليكون شخصاً أفرو - أميركياً طيعاً يبتسم ابتسامة بلاستيكية لا تحمل أي معنى بوجه لا يحمل أي ردود فعل أو تعابير معينة. يلتقيه كريس فيتقدم صوبه ويقول: «من الجيد أن أرى أخاً هنا» (بكلمة أخ قصد شخصاً من ذات البشرة).
حتى الصفحة 62 لا يزال كريس يعتقد أنّه لا شيء في الأجواء التي حوله مع ضيوف جلهم من البيض باستثناء أندريه- لوغان يدعو للحذر. بعد ذلك ينقلب الوضع رأساً على عقب. يكتشف أنّ الفتاة التي يكاد يرتبط بها هي جزء من الخطة لاستدراجه لتدجينه ليصبح شخصاً لا عمق فيه ولا هوية. نسخة مشابهة لأندريه.
الموضوع العنصري مطروح في سيناريوهين آخرين. الأول هو السيناريو الذي وضعته المخرجة دي ريز وفيرجل ويليامز عن رواية هيلاري جوردان «مَدباوند» (نشر سنة 2008 وباع أكثر من 250 ألف نسخة حول العالم)، والثاني هو السيناريو غير المقتبس الذي كتبه مارتن مكدوناف لفيلم «ثلاثة إعلانات خارج إيبينغ، ميسوري».
هذا الثاني، ينافس «أخرج» في فئة السيناريوهات غير المقتبسة، لكن لأسباب مختلفة، فالعنصرية التي يتحدث عنها مبطّنة ومستخدمة في السيناريو ذاته كإشارات لوضع بعض الشخصيات وليس للتوغل في وضع العنصرية ذاتها. لكن «مدباوند» مكتوب في الأساس لكي يتعامل مع الموضوع العنصري، كما كان سائداً في الأربعينات من خلال شخصيات بيضاء وأخرى سوداء تعيش على تقارب غير مريح. السيناريو (من 118 تحوّلت إلى 136 دقيقة) يؤسس للمكان. ريف مترب وكئيب والعنوان يعود إلى حفرة طينية لا يستطيع جيمس (أبيض) الخروج منها إلّا بسلم. هذا الممر الرمزي يحيط بالحكاية التي لا تروي حكاية جيمس (غارت هدلاند) المقبلة مع البيئة الأفرو أميركية التي يجاورها فقط، بل شخصيات أفرو - أميركية ووقع العنصرية عليها. تحديداً شخصية رونسل (جاسون ميتشل) الذي يعود من الحرب العالمية الثانية، وقد خدم بلاده ليدخل حرباً من نوع آخر في محيطه وبيئته.
على عكس سيناريو «أخرج» يعمد سيناريو «مَدباوند» إلى معالجة كلاسيكية. تقرّب هادئ لموضوعه. الفكرة في الفيلم الأول قد تتيح له الفوز في سباق الأوسكار المقتبس. جودة الكتابة لسيناريو الفيلم الثاني تتيح له الفوز في المقابل. الاختيار غير واضح حتى الآن.
- شخصيات حقيقية
باقي السيناريوهات الأخرى التي استخلصت من مصادر سابقة لها مشاغلها الخاصّة. «لعبة مولي» من كتاب بيوغرافي وضعته مولي بلوم بعد سنوات من توجيه الـ«إف بي آي» تهمة قيامها بإدارة نوادي قمار غير مرخصة. ارون سوركين الذي كان بدأ مهنته في كتابة السيناريوهات بفيلم ناجح عنوانه «رجال جيدون قلّـة» (A Few Good Men) مجيّـر جزئياً لخدمة فكرة اليهودي المضطهد، هو من آل إليه فعل كتابة «لعبة مولي» الذي حقّق، كحال المخرجة دي ريز والمخرج جوليان بيل، بنفسه محتلاً دور المخرج لأول مرّة.
طبيعي له، إذن، أن يبدأ فيلمه بالنص الذي بدأ به السيناريو: مزيج من مشاهد تبدأ بجبال التسلق ثم يدخل الصورة بعض اللاعبين واللاعبات. بصاحب كل هذا تعليق صوتي خارج الصورة تؤديه شخصية مولي ذاتها (بصوت الممثلة جسيكا شستين التي صرّحت بأن السيناريو فتنها)، وتعليقها هذا يمتد ليشمل الثلاث الأولى قبل أن يدلف إلى شخصيتها وهي في سن الثانية عشرة من العمر.
البداية تقليدية على الرغم من جماليات الصورة لاحقاً. لكنّ دخول الفيلم زمناً سابقاً تسترجع فيه مولي بلوم ذكرياتها، لن يعفينا من استمرار تعليقها الصوتي وقد بات الآن ممزوجاً بحوار بينها وبين والدها وبينهما والطبيب الذي يعالجه. وتعليقها هذا يستمر للدقائق الأربع عشرة الأولى (للصفحة 9 من السيناريو)، قبل أن يدخل عنوان الفيلم وتطالعنا الممثلة مباشرة بدورها.
تبعات قيام سوركين بتناول كتاب مولي بلوم عن نفسها مهمّـة من حيث إن الغاية لا يمكن لها أن تبقى محايدة. كسيناريوهات أفلام أخرى مشابهة من بينها مثلاً سيناريو «ذئب وول ستريت» الذي وضعه ترنس وينتر عن كتاب جوردان بلفورت (وأخرجه سنة 2014 مارتن سكورسيزي)، لا يرغب سوركين بتقديم بطلته بصورة داكنة، بل هي في أفضل الحالات تميل إلى الرمادي الفاتح. غير معروف إذا ما كان أعضاء الأوسكار سيسمحون لسوركين بتمرير امرأة آثمة وخارجة عن القانون كبطلة متوهجة، لكن من النافع هنا التذكير أنّ «ذئب وول ستريت» رشّح لخمس أوسكارات بينها أوسكار أفضل سيناريو مقتبس، لكنّه لم ينل أي منها.
الحظ المتاح للكاتب جيمس أيفوري عن السيناريو الذي وضعه عن قصة أندريه أسيمان «نادني باسمك»، سيكون بدوره محدود الاحتمالات بسبب موضوعه حول علاقة مثلية بين بطليه الشاب إليو (تيموثي شالأمت) وضيف والده أوليفر (أرمي هامر).
هو أكثر السيناريوهات التي قرأتها تمسكاً بالأسلوب الكلاسيكي في الوصف وتقنيات الكتابة. هذا ليس غريباً على جيمس إيفوري فهو السينمائي الوحيد الباقي من أيام الثلاثي الشهير المنتج إسماعيل مرشنت، والكاتبة روث براور جابفالا، وهو كمخرج، إذ اتجه للكتابة بعد رحيل رفيقي دربه، توقف عن الإخراج منذ أن قام بتحقيق «مدينة وجهتك النهائية» قبل تسع سنوات.
لصالح السيناريو أن فيه محطات خفيفة التناول، لكنّها مكتوبة جيداً (مثل المشهد الذي يشرح فيه الضيف أصل كلمة «خوخ» وكيف أنّ التعريف المصري لها، وهو «برقوق» مأخوذ عن اللاتينية)، لكنّ المشكلة تقع في المعالجة الكلية فهي مسوقة بنفس الخفة لكي تقرّب موضوعاً غير رائج (والفيلم لم يحقق أي نجاح يذكر) من هامش عريض من المشاهدين.
لجانب «مَدباوند» و«لعبة مولي» و«نادني باسمك» في فئة السيناريوهات المقتبسة يبقى فيلمان أحدهما كان وجوده مفاجئاً إلى حد، وهو «لوغان»، والسبب في ذلك أنّه فيلم أكشن يتبع سلسلة «وولفرين» المنشقة عن سلسلة «رجال إكس». لكنّ أكشن أو لا، هو سيناريو مكتوب جيداً ربما أفضل قليلاً من النتيجة الماثلة على الشاشة.
الفيلم الخامس والأخير هو «فنان الكارثة» المأخوذ بدوره عن شخصية حقيقية (كما حال «لعبة مولي»). بل شخصيتان في الواقع شخصية الممثل كريغ سستيرو وشخصية المخرج تومي وايويو، وكلاهما لم يحقّق أي نجاح يذكر، لكن الثاني وضع كتاباً حول تجربتهما في العمل بهوليوود بنى الكتاب الثلاثة الذي قاموا بتطوير أحداث الفيلم عليه.
صعوبة
من البداية هنا، يخرج الفيلم عن النص المكتوب، لكن النتيجة واحدة: السيناريو خفيف المعالجة مكتوب بلغة العناوين الكبيرة والفيلم الذي أخرجه جيمس فرانكو بنفسه، كذلك.
على الجانب الآخر، وفي فئة السيناريوهات المكتوبة خصيصاً (لجانب «أخرج» أعلاه) سيناريو يماثل «فنان الكارثة» في هذه المعالجة وهو «المريض الكبير». هو سيناريو آت من تجربة خاضها الباكستاني - الأميركي، كوميل نانجياني بنفس، بسبب ثقافته الإسلامية ولون بشرته. بذلك يمكن أن يُضمّ إلى تلك السيناريوهات التي تعالج موضوع العنصرية، لكنّ السيناريو خفيف الشأن حتى مع الاعتراف بأنّه محاولة كوميدية وليست درامية.
«ليدي بيرد» بدوره يبقى في نطاق الرغبة في التعايش مع الهامش العريض من المشاهدين، لكنّه مكتوب جيداً خصوصاً مع التوغل في فصله الثاني الذي يواصل ارتفاعه لذروة غير متوقعة سارداً حكاية الفتاة التي تريد الخلاص من ملكية أمها والبحث عن حياتها الخاصة كما تعد بها نفسها. في أحد مشاهد (الصفحة 74)، تعلن عن ذلك الوعد في مشاجرة بينها وبين أمها عندما تقول لها أنّها ستكبر وستحقق الكثير من المال، وتكتب لها حوالة مصرفية بالمبلغ الذي صرفته والدتها عليها خلال تربيتها لها.
حقيقة أنّ «ليدي بيرد» مرشح في أربع مسابقات أخرى هي أفضل فيلم، أفضل تمثيل نسائي أول (سواريس رونان) وأفضل إخراج (لغريتا غرويغ)، كما أفضل تمثيل نسائي مساند (لوري متكالف) يؤكد أنّ مستوى الفيلم في خاماته جميعاً أهله لذلك ويضعه بين الترشيحات القوية في فئة أفضل سيناريو أصلي. لكن المنافسة هنا صعبة جداً لأنّ هناك نصين جيدين آخرين في الفئة ذاتها هما «ثلاثة لوحات خارج إيبينغ، ميسوري» كتابة مارتن مكوناف و«شكل الماء» كتابة غويلرمو دل تورو وفانيسا تايلور.
مأخذي على سيناريو مكدوناف هو جنوحه كحكاية وتعدد غاياته من دون أن يصيب غاية واحدة بكاملها. لكنّ مركز قوّته في موضوعه الشامل واختياره شخصية نسائية تقود الحملة ضد البوليس الذي فشل في الكشف عن قاتل ابنها، هذا سيجلب له أصواتا كثيرة ربما أكثر من أصوات «شكل الماء» المكتوب جيداً، لكنّه غاطس كنتيجة في تأثيرات كتابات سابقة لمخرج شاهد وأحب الكثير من الأفلام التي شاهدها صغيراً وأودعها السيناريو ومن ثم الفيلم.


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».