رواية «اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو... مسرحياً للمرة الأولى

حبكة بوليسية تنتمي إلينا وليس للقرون الوسطى

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

رواية «اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو... مسرحياً للمرة الأولى

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

رواية «اسم الوردة» ليست مجرد رموز وليست لغة وحسب، إنها طاقة الخيال وإعادة التذكر، وبمقدار تنوع هذه الطاقة وامتلاكها دلالات لا حصر لها، تكمن علاقة أحداث الرواية بالشخوص الذين تجمعهم خشبة المسرح، باعتباره ترجمة للنص أمام المشاهدين باستخدام الحركة والإيماءة والكلام والموسيقى والصوت. إنها محاولة لتجسيد ذلك التنوع من العلاقة بين الأحداث كأشكال ورموز ودلالة، تتوالد مساراتها ضمن أشكال وعلاقات حية لم تفلح السينما في تجسيدها بمثل هذه الحيوية. ففيلم «اسم الوردة» الذي عرضته دور العروض العالمية سنة 1986 بطولة الممثل البريطاني الشهير شين كونري، والذي جهد مخرجه الفرنسي جان جاك أنّو في إضفاء مصداقية مسبقة على أحداث الرواية، واستغلال إمكانية الإيهام بالحقيقة من أجل زيادة عناصر التأثير على المتفرجين، لم يرتقِ إلى العمل المسرحي الذي يعد مطابقة للأصل عملياً والالتزام بتفاصيله بدقة، على الرغم من كل الامتيازات التي تتمتع بها السينما سواء من حيث التمويل أو من حيث الانتشار الجماهيري، والقدرة على التأثير في الناس. في حين يسعى المسرحيون إلى التقريب بين لغة الرواية وتحويلها إلى نص محكي، مدركين طبيعة اللغتين المقروءة والمحكية واختلافهما. ولا يزال المدافعون عن المسرح إلى يومنا هذا يعتبرونه المعبّر الحقيقي عن الجوهر المشهدي الذي يعكس الواقع بموضوعية، ويتهمون السينما الروائية بأنها لا تقدم ولا تعرض إلا واقعاً مزيفاً مصطنعاً.
على خشبة مسرح الأرجنتين التاريخي الذي يقع في قلب مدينة روما، والذي بني في الموقع الذي شهد حادث قتل القيصر عام 44 قبل الميلاد، وتم افتتاحه عام 1732، بدأت هذه الأيام، ولأول مرة عروض مسرحية «اسم الوردة»، وهي الصيغة المسرحية الإيطالية الأولى لأهم أعمال الروائي الراحل أومبيرتو إيكو (1932 - 2016) الذي شغل في العشر سنوات الأخيرة من حياته كرسي السيميائيات (علم العلامات والأدلة والرموز وتدخل فيها اللسانيّات) في جامعة بولونيا الإيطالية. عندما شارف أومبيرتو إيكو على الخمسين، أصدر باكورته الروائية «اسم الوردة» عام 1980، التي تعتبر إحدى روائعه التي لاقت رواجاً قلّ نظيره في العالم، وبيع منها أكثر من 25 مليون نسخة، وترجمت إلى 47 لغة، وأخرجت فيلماً سينمائياً نال شهرة تعادل شهرة الرواية. المسرحية بإمضاء كاتب السيناريو القدير إستيفانو مسّيني، وهو كاتب مختص في العمل الدرامي ويعتبر من الكتاب المسرحيين الأكثر صيتاً في إيطاليا وفي العالم في الوقت الحاضر. وتولى عملية الإخراج لايو مُسكاتو، الذي اختار لهذه المسرحية نجوماً من كبار الممثلين المسرحيين والسينمائيين. يقول المخرج: «وراء سردية شادة ومتماسكة، فإن رواية أومبيرتو إيكو تخفي قصة ذات مستويات لا متناهية من القراءة، رموز تتقاطع حيث كل رمز يخفي رمزاً آخر. بنية الرواية ذاتها تتوفر على رحم مسرحي قوي. لقد كان أومبيرتو إيكو يملأ وقته في فترة الاختمار الأدبي في جمع الوثائق، وزيارة الأماكن، ورسم الخرائط، وتدوين تصاميم البنايات. بل قام بتصميم البواخر كما حدث ذلك في رواية (جزيرة اليوم السابق)، وقضى ليالي كثيرة يتجوّل بين الثانية والثالثة صباحاً في باريس بين معهد الفنون وساحة ليفوج، حيث كان بطل الرواية كاسوبون يتجوّل».
لقد تم تقديم كل فصل بعنوان فرعي أهميته تكمن في توجيهه للمتلقي الذي لا يعرف بعد ما الذي يحدث قبل أن يشاهده، وبالتالي فإن انتباهه لن يتركز حول ما سيحدث بل حول كيفية حدوثه.
وعن ذلك، يقول المخرج: «لا بأس بالإشارة إلى الحبكة الرئيسية في الرواية، وهي أن جريمة حصلت في أحد الأديرة، أوائل القرن الرابع عشر، في إحدى المقاطعات الفرنسية، وسط صراعٍ متمادٍ بين البابا المقيم في أفينيون الفرنسية، وإمبراطور ألمانيا الذي راح يبسط سلطانه على عدة مقاطعات في إيطاليا. وتتوالى أحداث الرواية، في إطار من التشويق والرعب في آن، ما دام أنّ دعاة التزمّت، من الرهبان الفرنسيسكان، لم يتورّعوا عن تسميم صفحات كتاب أرسطو عن الضحك، وإزهاق أرواح الرهبان، إخوانهم في الرهبنة، في خلال حضور المرسل من قبَل البابا للتحقيق في الجريمة الأولى، الراهب إدسو مِلك. ولا تنقضي الأيام السبعة، وهي الإطار الزمني ليوميات التحقيق التي يسجّلها الراهب إدسو مِلك، إلاّ وتتكشّف الوقائع عن مقتل 7 رهبان، انتحاراً وتسميماً وخنقاً وغير ذلك، ويتّضح إثرها أن الصراع الآيديولوجي والتزمّت الشديد، يضاف إليهما الجهل والغرائز العدوانية الكامنة في الإنسان، كفيلة بتوليد الصراع المميت بين البشر، ولو بين الرهبان».
يفتتح المشهد في نهاية القرن 14. شيخ متعبد (الأخ) من فرقة البندكتيين المسيحية، إدسو مِلك، ينوي كتابة مذكرات يقص فيها بعض الأحداث القاسية التي كان شاهد عيان عليها في شبابه. وفيما تقدمه المسرحية من المشاهد فإن هذا «الأنا» الراوي، يصبح تقريباً دائم الحضور فيها، في آصرة مع وقائع يقصها هو نفسه، كانت قد حصلت من قبل ومنذ سنين في كنيسة منعزلة في إيطاليا الشمالية. وتحت أنظاره (وأنظارنا) يتجسد هو نفسه شاباً، في بداية مراهقته عازماً على اتباع تعاليم عالم فرنسيسكاني كان في الماضي من قضاة محكمة التفتيش، الذي يطلق عليه اسم غُلْيَلْمُو البسكري.
ها نحن إذن في أوج لحظة الصراع بين الكنيسة والإمبراطورية الذي أضنى أوروبا منذ قرون متعددة، وغُلْيَلْمُو البسكري استدعي لأداء مهمة تبدو غايتها القصوى مجهولة حتى بالنسبة إليه. وتحت عمق تاريخي - سياسي - لاهوتي تتشكل حبكة رواية ذات إيقاع سريع يبدو أن العمل الأساسي فيها هو فك لغز ميتة أكثر من واحد، ميتة هي أقرب إلى جريمة قتل منها إلى موت طبيعي. يقول المخرج: «بالنسبة إلى إيكو لم يكن خوضه الكتابة الروائية منذ البداية سوى نوع من تزجية الوقت، نوع من المزاح. بل لنقل إن معظم ما كتبه في هذا السياق يبدو أقرب إلى الفكر منه إلى العمل الروائي. هو استخدم السرد الروائي، غالباً، لإيصال أفكار، أو لدحض أفكار، وليس للتوغل في حيوات شخصيات أو تصوير علاقات. بدا غالباً كأنه يحوّل التاريخ - نوع خاص من التاريخ - إلى سرد روائي وليس العكس. كان ذلك دأبه منذ رواية «اسم الوردة» - التي زاد تحويلها فيلماً من شعبيتها، وأنقص من قيمتها الفكرية، فهو في هذه الرواية إنما أراد أن يقدم أطروحة ضد الجمود الفكري وضد غلبة التزمت الديني على متعة الفكر والحياة. وهو وإن وضع روايته الأولى تلك في العصور الوسطى وفي دير يحرّم رؤساؤه قراءة ما كتبه أرسطو عن الشعر ووصل إلى هناك من طريق ابن رشد وغيره من المفكرين والمترجمين العرب، فإنه من الواضح أن قراءه أدركوا - وقراؤه دائماً من الصنف الذكي - أن مرافعته في الرواية معاصرة وحديثة، وأن حبكتها البوليسية تنتمي إلى أيامنا وليس إلى العصور الوسطى. وواضح أن النجاح الساحق وغير المتوقع لـ«اسم الوردة» راق لإيكو، جعله يعيد الكرة مرات ومرات، وإنما بشكل متنوع بلجوئه الدائم إلى تاريخ ما، والتنويع على فكرة «المؤامرة»، ليس لتعزيزها أو رفضها، وإنما لاستخدامها قاعدة لموضوعه.
يذكر أن أومبيرتو إيكو كان في الخمسين من عمره عندما هبطت عليه الشهرة فجأة، لتضعه في الصفوف الأولى من كتّاب العالم. وهو يتذكر أن ناشر كتبه طلب منه ذات يوم أن يجرب حظه في الرواية، فالكتب التي يكتبها على الرغم من أهميتها العلمية فإنها لا تجلب سوى قليل من المال. وجد الأمر ممتعاً، فقد كان يحلم منذ أن كان صبياً أن يقلد ألكسندر دوماس وفرسانه الثلاثة. وقد ظلّ على هذه الحال حتى بلغ الثامنة والأربعين من عمره، حيث تفرغ لمدة سنتين ليكتب رواية بوليسية بطلها صورة مستنسخة من شاعره المفضل خورخي بورخيس، الراهب الأعمى الذي يحتفظ بمخطوطة أرسطو في مكان سري بعيداً عن أعين الفضوليين. وصدرت الرواية لتنقل صاحبها من عالم الألسنيات الهادئ المنعزل إلى عالم ضاج وصاخب تلاحقه فيه كاميرات النجوم.


مقالات ذات صلة

«ميديا» الأسطورة الإغريقية بنسخة لبنانية على «مسرح مونو»

يوميات الشرق «ميديا» المأساة اليونانية الأكثر شيوعاً في القرن الـ20 (صور المخرج)

«ميديا» الأسطورة الإغريقية بنسخة لبنانية على «مسرح مونو»

تروي «ميديا» قصة امرأة وهبت حياتها وحبّها لزوجها ياسون، لكنه يخذلها ويتخلّى عنها من أجل امرأة أصغر سناً، فتُواجه صدمة الخيانة والعزلة...

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق بليبل والشعّار يشكلان ثنائياً متناغماً في «كاستينغ أمني» (الشرق الأوسط)

«كاستينغ أمني» نزهة سينمائية وتلفزيونية على الخشبة في بيروت

نجاح جديد تضيفه جوزيان بولس إلى مشوارها الفني في عالم المسرح. ومع «كاستينغ أمني» توقّع أول عملية إخراج لها على الخشبة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق تقنيات الوصف الصوتي ولغة الإشارة يُتبعان في العروض المسرحية (مونو)

«مونو» يستحدث مسرحاً لذوي الحاجات الخاصة بمعايير عالمية

هذه العروض الخاصة يتّبعها مسرح «مونو» أقلّه مرة في الشهر، ضمن فترة تمتدّ من فبراير (شباط) حتى سبتمبر (أيلول) 2025.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق مسرحها محاكاة لغربة طوعية عاشتها في حياتها (صور زينة دكاش)

زينة دكاش لـ«الشرق الأوسط»: مسرحية «اللي شبكنا يخلّصنا» تختصر بعض حياتي      

أمضت زينة دكاش نحو 14 عاماً مع المساجين في لبنان تعالج أوجاعهم وآلامهم النفسية بالدراما، وكذلك أسهمت في تعديل بعض القوانين المُجحفة بحقّهم.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق جانب من فعاليات حفل ختام الدورة الـ15 من مهرجان المسرح العربي (إدارة المهرجان)

مصر لاستضافة مهرجان المسرح العربي في دورته الـ16

تستعد مصر بشكل مكثف لاستضافة الدورة الـ16من مهرجان المسرح العربي، عقب تسلمها الراية من سلطنة عُمان التي استضافت الدورة الـ15.

داليا ماهر (القاهرة)

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
قطع ذهبية مصدرها موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي. خرج هذا الموقع من الظلمة إلى النور في مطلع القرن الحالي، وكشفت حملات التنقيب المتلاحقة فيه خلال السنوات التالية عن كم هائل من اللقى الأثرية، منها مجموعة مميّزة من القطع الذهبية المتعددة الأشكال.

يقع ساروق الحديد داخل سلسلة من الكثبان الرملية في الجزء الجنوبي الغربي من منطقة «سيح حفير» المترامية الأطراف، ويشكل حلقة من سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على الطريق التي تربط بين واحة العين ومدينة أبوظبي.

شرعت «دائرة التراث العمراني والآثار» التابعة لبلدية دبي في استكشاف أوّلي للموقع في عام 2002، وتعاقدت مع بعثة تابعة لـ«دائرة الآثار العامة في الأردن» لإجراء التنقيبات التمهيدية. تواصلت أعمال هذه البعثة على مدى خمس حملات، وتبيّن معها سريعاً أن سطح الموقع يحوي كميات كبيرة من خَبَث المعادن، ومجموعات عدّة من اللقى، منها القطع النحاسية والحديدية، والكسور الفخارية والحجرية، إضافة إلى قطع متنوعة من الحلي والخرز والأصداف.

شهد ثراء هذه الغلّة لأهمية الموقع الاستثنائية في ميدان الإمارات الأثري خلال العصر الحديدي، ودفع السلطة الحاكمة إلى التعاون مع عدد من البعثات الغربية لاستكمال هذه المهمة بشكل معمّق.

أجرت مؤسسة «محمية دبي الصحراوية» بالتعاون مع مؤسسة دبي للتسويق السياحي والتجاري سلسلة من التنقيبات بين عامي 2008 و2009، أشرف عليها فريق من البحاثة الأميركيين، وتبيّن أن الموقع يعود إلى تاريخ موغل في القدم، وأن هويته تبدّلت خلال 3 آلاف سنة. تواصلت أعمال البحث مع وصول بعثات جديدة، منها بعثة أسترالية تابعة لـ«جامعة إنجلترا الجديدة»، وبعثة إسبانية تابعة لـ«معهد سانسيرا للآثار»، وبعثة بولونية تابعة لـ«المركز البولندي للآثار في منطقة البحر الأبيض المتوسط في جامعة وارسو».

اتضحت صورة التطوّر التاريخي للموقع، وشملت 3 مراحل متعاقبة. كان الموقع في البدء واحة استقرّ فيها رعاة رحّل، ثم تحوّل في مرحلة لاحقة إلى مركز ديني حملت آثاره صورة الأفعى بشكل طاغٍ، كما في مواقع أخرى متعددة في شبه جزيرة عُمان. تطوّر هذا المركز بشكل كبير في مرحلة ثالثة، وتحوّل إلى مركز تجاري كبير تتقاطع فيه طرق الجزيرة العربية مع الطرق الخارجية.

حوى هذا المركز محترفات لصناعة المعادن ومعالجتها، وضمّ على ما يبدو محترفات خُصّصت لمعالجة الذهب والفضة والبرونز والرصاص، كما ضمّ ورشاً لتصنيع الخرز، وتشهد لهذا التحوّل مجموعات اللقى المتعددة التي خرجت من الموقع بعد استكشاف جزء صغير من مساحته التي تبلغ نحو 2 كيلومتر مربّع.

دخل جزء من هذه المجموعات الأثرية إلى متحف خاص افتُتح في صيف 2016 في منطقة الشندغة في بر دبي. حلّ هذا المتحف في بيت من الطراز التقليدي شيّده الشيخ جمعة بن مكتوم آل مكتوم في أواخر عشرينات القرن الماضي، وتحوّل هذا البيت الكبير إلى «متحف ساروق الحديد»، بعد تجهيزه وفقاً لأحدث الطرق.

تحوي هذه المجموعات الأثرية المتنوّعة مجموعة استثنائية من القطع المصنوعة بالذهب، وهي قطع منمنمة، منها قطع من الذهب الخالص، وقطع من معدن الإلكتروم المطلي بالذهب، والمعروف أن الإلكتروم سبيكة طبيعية المنشأ، تجمع بين الذهب والفضة، مع بعض كميات صغيرة من الرصاص والمعادن الأخرى.

تتألف هذه الذهبيات من مجموعات عدة، منها مجموعة كبيرة القطع الدائرية، تتكون كل منها من حبيبات متلاصقة، لُحم بعضها بجانب بعض في حلقة أو حلقتين. تختلف أعداد الحبيبات بين حلقة وأخرى، كما تختلف صورة كتلتها، والجزء الأكبر منها كروي الشكل، وبعضها الآخر مضلع. ونقع على قطع محدودة تأخذ فيها أشكالاً مغايرة، منها العمودي على شكل شعاع، ومنها البيضاوي على شكل البتلة. احتار البحاثة في تحديد وظيفة هذه القطع الدائرية، ويرى البعض أنها كانت تُستعمل لتشكيل عقود الزينة، ويرى البعض الآخر أنها صُنعت لتطريز الألبسة.

إلى جانب هذه المجموعة الكبيرة من الحلقات الدائرية، تحضر مجموعة أخرى كبيرة تتألف من قطع على شكل قرني ثور، ووظيفتها غير محدّدة كذلك، والأرجح أنها استعملت كأقراط أو خزامة في الأنف. تختلف هذه القطع المنمنمة في الحجم، كما تختلف في دقة الصناعة، وأجملها قطعة يتدلّى منها تاج على شكل جرس صيغ برهافة كبيرة.

تأخذ هذه الذهبيات طابعاً تجريدياً، وتخرج عن هذا الطابع في حالات معدودة، كما في قطعتين مستطيلتين تحمل كل منهما صورة ناتئة لحيوان يظهر بشكل جانبي. تمثل إحدى هاتين الصورتين أرنباً يعدو على أربع، وتمثل الأخرى غزالاً يقف ثابتاً.

ونقع على قطعة تأخذ شكل تمثال صغير يمثّل حيواناً من فصيلة السنوريات يظهر بشكل مختزل للغاية. قطعة مماثلة تمثل ثعباناً مرقطاً، وتشابه هذه القطعة في تكوينها القطع المعدنية الثعبانية التي خرجت بأعداد كبيرة من مواقع أثرية مختلفة في الإمارات العربية المتحدة كما في سلطنة عُمان.

أثبتت الدراسات العلمية أن هذه الذهبيات محلية، وهي نتاج صناعة راجت في هذه البقعة من الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد. وربط البعض بين هذه البقعة وبين بلاد أوفير التي تردّد ذكرها في التوراة، واحتار المفسّرون في تحديد موقعها.

يتحدث «سفر الملوك الأول» عن «سفن حيرام التي حملت ذهباً من أوفير، أتت من أوفير بخشب الصندل كثيراً جداً وبحجارة كريمة» (10: 11). ويتحدّث «سفر أخبار الأيام الأول» عن «ثلاثة آلاف وزنة ذهب من ذهب أوفير، وسبعة آلاف وزنة فضة مصفاة» (29: 4). كما يتحدث «سفر أخبار الأيام الثاني» عن سفن حلت في أوفير، وحملت منها «أربعمائة وخمسين وزنة ذهب» إلى الملك سليمان (8: 18).

نقرأ في «سفر المزامير»: «جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير» (45: 9). وفي «سفر إشعيا»: «واجعل الرجل أعز من الذهب الإبريز، والإنسان أعز من ذهب أوفير» (13: 12).