مديرة «بي بي سي» القاهرة: اعتدنا الانتقادات... ونعتذر عندما يجانبنا الصواب

صفاء فيصل أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن مكتب الهيئة لا يواجه تضييقاً أمنياً

صفاء فيصل
صفاء فيصل
TT

مديرة «بي بي سي» القاهرة: اعتدنا الانتقادات... ونعتذر عندما يجانبنا الصواب

صفاء فيصل
صفاء فيصل

تسلمت الإعلامية المصرية صفاء فيصل، منصب مديرة مكتب «بي بي سي» القاهرة، عقب مسيرة حافلة بالمقر الرئيسي في لندن، خلفاً للإعلامي أكرم شعبان، في ظل ما يتردد عن بعض الاتهامات من قِبل الإعلام المصري بعدم المهنية في تغطية الأحداث الإرهابية في مصر، وأحاديث عن تضييق أمني يتعرض له المكتب الإقليمي بالقاهرة.
«الشرق الأوسط» التقت فيصل في أول أيام توليها العمل؛ فقالت: «بدأت عملي في الإعلام في الصحافة المكتوبة، وأعترف بأنني كنت شغوفة للغاية بفكرة الصحافة المكتوبة منذ دراستي الجامعية... وكانت الفكرة حلماً يراودني منذ الصغر، وعملت بالفعل في صحيفة (الوفد) المصرية، ومكاتب وكالتي الأنباء (الألمانية والعمانية) في القاهرة. لكن، عندما تلقيت عرضاً للعمل في «بي بي سي» أدركت أنها فرصة ذهبية للانضمام إلى هيئة ذات سمعة عالمية.
خضت أيضاً العمل التلفزيوني في مرحلة ما من حياتي المهنية، وأفتخر بهذه التجربة التي كانت نتاجاً لمسابقة في الابتكار على مستوى الخدمة العالمية، وعملت أيضاً في قسم التخطيط وجمع الأخبار، لكن الراديو بقي بالنسبة لي البيت الذي أعود إليه دوماً».
ترى فيصل أن كل وسيلة إعلامية لها المميزات الخاصة بها، وأن «الصحافة المكتوبة تمنح المتلقي العمق والتحليل والخلفيات للخبر، وتبقى مؤثرة مدة أطول من الإذاعة والتلفزيون؛ لكنها تعاني حالياً من أزمة تمويل حقيقية في كل أنحاء العالم، أما الراديو فهو وسيلة جذابة وسريعة، ويمكن للمتلقي أن يستمع ويستمتع به أينما كان؛ لكنه يواجه حالياً منافسة عالية من الثورة في وسائل التواصل الاجتماعي، والتلفزيون صورة، والصورة تروي ألف حكاية في لقطة واحدة».
تكشف فيصل عن أنها ليست السيدة الأولى التي تتولى منصب مديرة مكتب القاهرة بقولها: «سبقتني إليه الزميلة نجلاء العمري، شخصياً لا أحس أن كوني سيدة يشكل عامل ضغط على الإطلاق، بل على العكس؛ فـ(بي بي سي) كانت حافلة دوماً بالقدرات النسائية الرائعة التي أثبتت نفسها عبر سنوات، سواء في الإدارة أو في غرفة الأخبار أو وراء الميكرفون، والمعيار الحقيقي للتقييم هو الكفاءة». وتقول: «فخورة للغاية بتولي هذا المنصب، وسعيدة جداً بقيادة فريق من أفضل الصحافيين في العالم العربي في أحد أهم المكاتب الخارجية لـ(بي بي سي) في الشرق الأوسط، بل في العالم».
وتؤكد: «هناك تحديات مهنية كبيرة تكتنف العمل الإعلامي في مصر والمنطقة بأسرها؛ نظراً للظروف الحالية السياسية والأمنية؛ لكن لدينا إصراراً على تقديم خدمة إعلامية متميزة تليق بمؤسسة عالمية مثل (بي بي سي)، ونطمح إلى إثراء المشهد الإعلامي المصري».
وتضيف: «بالنسبة لي لدي خطة متكاملة تعتمد أولاً على استقطاب وتدريب الكوادر البشرية، والتأكد من تطبيق المعايير التحريرية الثابتة للهيئة التي اكتسبتها عبر عقود طويلة من العمل الإعلامي الدولي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على روح الابتكار والتنوع لدى طاقم العمل، ونسعى أيضاً للاستفادة من ثورة الإعلام الرقمي وتزويد استوديوهاتنا بأحدث التقنيات... والأهم من ذلك، نسعى لعقد شراكات دولية مع روافد الإعلام في العالم العربي لتسويق منتج عال الجودة».
تدرك صفاء فيصل أن «العمل الإعلامي سواء بالنسبة لـ(بي بي سي) أو غيرها أصبح صعباً وخطيراً، والإعلاميون مع الأسف أصبحوا مستهدفين بشكل متزايد». وتقول: «مدركة تماماً حجم التحديات التي تواجهنا بصفتنا رافداً إعلاماً دولياً؛ لكنني ومعي كل فريق العمل لدينا إصرار على تقديم خدمة إخبارية متميزة؛ لذلك نقدم التدريبات والمهارات الكافية لطواقم العمل لدينا».
وحول ما أثارته مؤخراً أثارت البريطانية كاري غريسي حول قضية التمييز بين الرجال والنساء في الأجور في «بي بي سي»، علقت فيصل: «التفاوت في الأجور بين النساء والرجال مشكلة عالمية، وفي جميع القطاعات مع الأسف وليست قاصرة على الإعلام، وهذا بالطبع لا يبرر وجود التفاوت في الأجور في (بي بي سي)؛ بل على العكس هو يضع مسؤولية على عاتق (بي بي سي) باعتبارها رائدة... وهذا ما حدث تماماً، توني هال، رئيس المؤسسة، الذي أقر بوجود المشكلة، وأقر كذلك بأن تمثيل المرأة في المناصب العليا ليس على المستوى المأمول وتعهد بحل المشكلة ليس بمجرد بيانات أو خطب رنانة، لكن بوضع جدول زمني معين لجسر هذه الفجوة».
وترى أن «غريسي اختارت أن تضع المشكلة تحت الضوء بطريقة مختلفة، وكسبت تعاطفاً وتأييداً من بعض العاملات في الهيئة، وهذا حقها، ومع ذلك لا توجد حلول سحرية، لكن توجد حلولاً عملية؛ لكن الأمر قد يستغرق وقتاً، المهم أننا على الطريق الصحيحة، وأول الصواب الاعتراف بالمشكلة».
أما عن مرور 80 عاماً على تدشين الخدمة العربية، فتقول: «بي بي سي» بدأت بكلمة «هنا لندن» وأن تبقى هذه الكلمة بعد مرور ثمانين عاماً، بل وتتطور وتتجدد يعتبر إنجازاً رائعاً؛ لكن الأروع ما تحقق على مدى هذه السنوات فهو ليس مجرد وجود، لكنه بصمة قوية واضحة.
وتشير «بدأنا إذاعة موجهة تقدم الأخبار في عشرين دقيقة، واليوم نحن موجودون على مدى 24 ساعة على الراديو والتلفزيون والإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام الرقمي، والاحتفالية التي تقام اليوم يقصد منها توجيه تحية لجيل الرواد ممن خدموا في (بي بي سي)، ونسترجع معهم تحديات عصرهم وإنجازاتهم، وفي الوقت نفسه نركز الضوء على الجيل الجديد الذي اختار (بي بي سي) طريقاً، وندعوهم للتحاور مع جيل الرواد، وننظر من خلالهم للمستقبل، والأهم من ذلك كله المستمع، الذي بقي وفياً مخلصاً لنا كل هذه السنوات نستمع إليه بدورنا، ونعطيه مساحة مستحقة وشكر وعرفان لكل هذا الحب غير المشروط».
أما عن مشروع (20-20) فتكشف «قبل عامين أعلنت الخدمة العالمية (بي بي سي) عن أكبر توسعة في تاريخها من حيث التنوع أو التعدد، وبالنسبة للقسم العربي مشروع 20-20 له عناصر وجوانب عدة تم بالفعل ترجمتها لمشروعات إعلامية، الهدف منها التركيز على منطقتي الخليج والمغرب العربي؛ لأن هذه المناطق لم تحظ بالتغطية الكافية فيما مضى، وفي المقابل كان لدينا هدف التركيز على قضايا الشباب والنساء وتعزيز الحوار المجتمعي». مضيفة: «هذا المشروع أثمر برنامجَي (الخليج هذا الصباح) و(جولة مغاربية) على موجات الإذاعة، وبرنامج (ترندينغ) على التلفزيون، ولدينا عدد من المشروعات التي تركز على القضايا الصحية وقضايا الاقتصاد... من جانب آخر أعدنا هيكلة مكاتبنا في بيروت، وافتتحنا مكتباً في تونس، ولدينا خطط للتوسع في الأردن».
وتدافع فيصل عما وجه من اتهامات لـ«بي بي سي» بعدم الموضوعية والانحياز، قائلة: «هذه الاتهامات موجودة منذ زمن في مصر وإيران وغيرهما، ونواجه اتهامات من هذا القبيل من طرف أو طرف آخر، واعتدنا على هذه الانتقادات التي تزداد حدتها في أوقات الأزمات. لكن لدينا سياسة تحريرية ثابتة تعتمد على معايير مهنية، ولا تخضع للمتغيرات السياسية في بلد بعينه» وتؤكد: «لكن عندما يجانبنا الصواب نقف ونراجع ونعتذر دون أي تحفظ، فالأخطاء البشرية واردة في أي عمل إعلامي؛ لكن المؤكد أنه لا يوجد لدينا سوء نية، ولا مصلحة لنا إلا في كشف الحقائق كاملة، وقد يكون ذلك أحياناً مؤلماً».
تنفي فيصل وجود تضييق أمني على مكتب «بي بي سي» في القاهرة، وبخاصة بعد ما نشرته «بي بي سي» من أرقام عن ضحايا حادث الواحات الإرهابي، مؤكدة «يمكن لجهات حكومية في مصر أن تبدي تحفظاً ما على أسلوب عملنا، وهذا مفهوم في إطار المهام الموكلة إليهم والتباين في وجهات النظر، والحكومة البريطانية نفسها تبدي أحياناً تحفظاً على أسلوب عملنا؛ لكنها تتفهم أن سياستنا التحريرية ثابتة». وتؤكد: «أما عن زميلي أكرم شعبان فكان لديه رغبة منذ فترة للعودة إلى المقر الرئيسي في لندن لظروف عائلية قبل حادث الواحات بوقت، وبخاصة أنه قد أمضى في منصبه أكثر من أربع سنوات، حقق خلالها الكثير من الإنجازات المهنية، وبالفعل تمت الاستجابة لطلبه عبر طرح الوظيفة بمسابقة داخلية، والطبيعي جداً أن نتناوب على المناصب ونتبادل الأدوار حسب متطلبات العمل ووفقاً لرؤيتنا».
ترى صفاء فيصل أن «الإعلام في العالم العربي في مرحلة حراك وهذا طبيعي جداً؛ لأن الإعلام مرآة للمجتمع؛ لكن من الظلم مقارنة الإعلام الدولي بالمحلي؛ لأن لكل واحد جمهوره وأجندته الإخبارية، وهناك تجارب متميزة وكفاءات رائعة في الإعلام العربي؛ لكن ظاهرة الإعلامي النجم تضر كثيراً بالمعايير التحريرية؛ لأنها تجعل من المذيع محور الحديث وليس القضية، ومن ثم ينفرد بالرأي ويجعل الموضوع قضية شخصية، وهذا في رأيي غير مهني.
أيضاً معظم تجارب الإعلام الإلكتروني تحاول منافسة «السوشيال ميديا» بدلاً من انتهاج خط تحريري واضح وينتج من ذلك أخطاء تحريرية قاتلة وانجرار لتهافت غير مقبول على فكرة الإغراء الوقتي».
تتذكر فيصل الكثير من المواقف الصعبة والطريفة التي واجهتها أثناء عملها الإعلامي، تقول: «تؤلمني معاناة البشر، وأذكر شخصاً كان مرعوباً وأنا أجري معه حواراً، وطلب ضمانات وانتهي بنا الأمر لإجراء الحوار في سيارة العمل في أحد أركان شارع مظلم، وناشطاً سياسياً ليبياً أجريت معه حواراً على الهاتف وبعد ساعة تقريباً من إذاعة الحوار تم القبض عليه، وشعرت كما لو أنني مسؤولة بشكل ما عن اعتقاله».
تعتبر فيصل «الأخبار الكاذبة» تحدياً كبيراً للإعلام في عالمنا اليوم، وتقول: «لدينا حالياً في (بي بي سي) الخدمة العالمية وحدة مختصة لفحص الأخبار الكاذبة والتحقق منها تساعدنا مهنياً، وتقدم مساعدة للمتلقي كذلك. ولدي طموح لإقامة وحدة موازية باللغة العربية، وأعتقد أنها ستحظى باهتمام كبير من المتلقي، إضافة إلى ذلك نتلقى تدريبات دورية للتعرف على عناصر الخبر الكاذب والخبر الصحيح، وعموماً نطبق دوماً قاعدة (المصدرين) في تحرير الأخبار، ولدينا فريق في غرفة الأخبار للتحقق من صحة المقاطع المصورة».
تؤمن صفاء فيصل بأن «الإعلام كيان حي، ويجب أن يتطور ويتعايش مع مســتجدات العصر وألا يندثر».
وترى أن شبكات التواصل الاجتماعي تشكل بالطبع منافساً قوياً للإعلام في الوقت الراهن «لأنها تستقطب اهتمام الناس بشكل كبير، وتغذي عناصر التشويق والجوانب التفاعلية». لكن تؤكد أن «الإعلام «التقليدي» - إن جاز القول - يستطيع أن يطوع شبكات التواصل الاجتماعي لخدمته والوصول لأكبر قطاع ممكن، فالكثيرون يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كنافذة للاطلاع على الأخبار والمشاركة أيضاً في برامج تفاعلية. مشيرة إلى أن «شبكات التواصل الاجتماعي هي نمط إعلامي رائج حالياً؛ لذلك أصبح لدينا في (بي بي سي) أقسام متخصصة لمواقع التواصل الاجتماعي، ليس فقط لرصد الأخبار وتتبع مصادرها؛ لكن أيضاً لطرح قضايا للنقاش، وأخيراً الوصول لأكبر قطاع ممكن».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.