الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

مسلحون يتمددون في الحقل السياسي

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
TT

الميليشيات الشيعية بعد «داعش»

قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)
قوات موالية للأتراك تصدت لميليشيات الحشد الشعبي في منطقة أعزاز ضمن عملية «غصن الزيتون» (أ.ف.ب)

يشير تاريخ 11 يناير (كانون الثاني) الحالي إلى التباس جديد لعلاقة السلاح بالسياسة في العراق الجديد. ففي هذا اليوم شكل الأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري تحالف «الفتح»، مع فصائل الحشد الشعبي، بالإضافة إلى 15 حزبا. معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة، من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
وقد استطاع «الحرس الثوري» الإيراني ربط الكثير من هذه الميليشيات المدرجة في قائمة «الحشد الشعبي»، وكذا جماعة «أنصار الله»، باليمن والميليشيات الشيعية في سوريا؛ والفرق المقاتلة الأفغانية والباكستانية «بولاية الفقيه»، ومنظورها الديني والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وتكيفا مع الظروف القطرية والإقليمية، تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعا يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح للسياسي»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
ونقصد هنا بالميلشيات، المجموعات المسلحة الشيعية غير الحكومية، والتي تقوم بالدور التقليدي الذي يلعبه الجيش أو الوحدات العسكرية للدولة. ومن أشهرها ميليشيات «الحشد الشعبي»، التي ظهرت في المشهد العراقي بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، لمواجهة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
ويبدو أن تمتع «الحشد الشعبي» بالدعم الشعبي المذهبي، شجعه على الدخول في الحقل السياسي، وعقد صفقات سياسية من داخل الطائفة الشيعية. غير أن أهم ما يمكن تسجيله بخصوص هذا المسار الجديد، هو كون فصائل الحشد التي شكلت «ائتلاف الفتح»، لخوض الانتخابات؛ ويضم «منظمة بدر» التي يقودها هادي العامري وكتلة «صادقون» بقيادة زعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي. غير أن هذا التحالف لم يضم «حركة النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، الشيء الذي يطرح أكثر من سؤال عن الخلفيات العسكرية والسياسية لهذا التحالف الديني السياسي.
ويمكن تفسير هذا الغياب بالارتباط الشديد لحركة «النجباء» بالنظرة الجيواستراتيجية الجديدة لطهران الخاصة بدول الطوق، وصولا إلى مضيق باب المندب. وعليه انتقلت إيران بالميليشيات الشيعية المسلحة لمرحلة جديدة، تلعب فيها بعض من هذه الميلشيات أدوارا محددة، سواء تعلق الأمر بالجانب العسكري، داخل العراق أو سوريا؛ أو ارتباطا بالساحة اليمنية واللبنانية والأفغانية. ومن المرجح أن «حركة النجباء»، ستتحول بهدوء «لتنظيم» وستكون في المستقبل القريب، يد إيران الطويلة بالشرق الأوسط. وتشير بعض المؤشرات حاليا، لوقوع نوع من التشابك العملي مع تنظيم «حزب الله» اللبناني؛ وهذا ما يفسر التدريبات المشتركة للتنظيمين في الأشهر الأخيرة من سنة 2017.
فعوضا عن تسريح «الحشد الشعبي» و«حركة النجباء» لمقاتليها، بعد هزيمة «داعش» بالعراق وسوريا؛ نجد أن الحرس الثوري كلف تنظيم «النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، بحراسة الحدود بين سوريا والعراق، كما أن أعضاء التنظيم، وقياداته، يتنقلون ويجرون تدريبات قتالية ميدانية في كل من إيران، والعراق، وسوريا ولبنان. من جهة أخرى حرص الكعبي على تسجيل دعمه للسياسة الخارجية الإيرانية بالمنطقة، وعبر أكثر من مرة في الشهور القليلة الماضية عن استعداد تنظيمه عسكريا للدفاع عن المصالح الاستراتيجية لطهران، وما أطلق عليه الكعبي «محور المقاومة» بالمنطقة.
على مستوى الداخل العراقي، تأتي عملية الدمج بين السلاح والسياسة عبر «ائتلاف الفتح»، للتأكيد على أن الميليشيات الشيعية المسلحة، قوة مركزية لا يمكن تجاوزها. وأنها كما حملت السلاح ضد «داعش»، فإنها واعية أن السياق الدولي والإقليمي، يساعدها على التموقع بقوة من داخل الحقل السياسي العراقي الهش؛ مثلما ساعدها سلاحها على الهيمنة على الفعل العسكري منذ 2014 إلى اليوم، مع سيطرة تامة على جغرافية سنية كبيرة، تابعة للطائفة السنية، وممارسة التطهير العرقي فيها. وهكذا يمكن لميليشيات عسكرية أن تربح بالانتخابات، مساحة جديدة لم يكن استعمال السلاح لوحده قادرا على الحفاظ عليها؛ وتبدأ «الميليشيات» بالدفاع عن «مكاسبها» الجغرافية، والاقتصادية، مما ستغير الجغرافية السكانية للعراق.
وهذا بدوره يفسر الاستعداد القبلي لبعض قيادات «الحشد الشعبي» للتحول إلى رموز الدولة، وصناع السياسات العمومية من داخل المؤسسات الدستورية. ورغم أن الفصل التاسع من الدستور العراقي يمنع تشكيل فصائل مسلحة؛ فإن الفصائل والميليشيات كانت قبل وبعد الدستور الحالي جزءا من المشهد الطائفي الشيعي بالعراق. على الرغم من أن قيادات الفصائل المعنية بالائتلاف الجديد، مسجلة أميركيا في قوائم الإرهاب، فإن ذلك لم يمنعها من ربح مساحات واسعة، سياسيا وعسكرية بالعراق الجديد.
ويبدو أن عملية التحول السارية، تهدف على المدى القريب، إلى بسط نفوذ «الحشد الشعبي»، على الحقل السياسي المدني الشيعي العراقي. مما يعني إضعاف القوى التقليدية وخصوصا التيار الصدري، والمجلس الإسلامي الأعلى، وتيار الحكمة الوطني بقيادة عمار الحكيم. كل هذا يعني تشكيل برلمان، لا يعطي الشرعية القانونية والسياسية لفصائل الحشد الشعبي المسلحة وحسب، بل سيجعل منها قوة سياسية مشرِّعة، لحالة هيمنة التيارات المسلحة على الحقل السياسي الجديد للعراق.
أما على المدى المتوسط، فإن الجرائم الإرهابية التي ارتكبتها فصائل الحشد الشعبي باسم الطائفية؛ وغياب العدالة والحكم الرشيد والتدخلات الأجنبية بالعراق وسوريا. كلها عوامل تتداخل لإنتاج أجيال جديدة من التنظيمات الإرهابية، في الوسط السني المقهور سياسيا واجتماعيا، والمهجر جغرافيا. وبما أن العراق وسوريا ستبقى على المدى المنظور مهددة من قبل التنظيمات الإرهابية؛ فإن الميليشيات الشيعية المقاتلة في البلدين ستحاكي تجربة «حزب الله» اللبناني من الناحيتين السياسية والعسكرية، مما يبقي المنطقة تحت رحمة السياسة الاستراتيجية لإيران ومصالحها العليا.
وبحسب التقارير الرسمية العراقية، فإن ميليشيات «الحشد الشعبي» تقدر بنحو 180 ألف مقاتل؛ وسبق لرئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، أن أكد أن الدولة العراقية تدفع رواتب 120 ألف متطوع، وأن أكثر من 30 ألف فرد آخرين يتلقون رواتبهم من المرجعيات في كربلاء والنجف؛ فيما يتسلم نحو 30 ألفاً رواتب من مؤسسات عسكرية ومخابراتية متنوعة ومرجعيات إيرانية. كما أن تكتل «الحشد الشعبي» المالي الحكومي، رغم استقلالية قياداته، وفي ظل إدارة ينخرها الفساد؛ يجعل من الصعب التحديد بدقة الأهداف الحقيقية لميليشيات الحشد المتعددة، ودورها في خلق عراق المستقبل. ويجعل من شبه المستحيل معرفة عدد مقاتلي الميليشيات، وكذا المبالغ التي يتقاضونها، رغم أن دراسات وخبراء تحصر عدد أعضائها في نحو 60 ألف مقاتل.
ففي الوقت الذي يحقق «الحشد» اندماجه السياسي، نجد أن التيار الموالي لمرشد الأعلى خامنئي، من الأحزاب الشيعية التقليدية، وتنظيم بدر بقيادة العامري، وأبو يحيى المهندس والتيار الذي يقوده المالكي؛ يعملون بشكل جماعي على تشكيل مزدوج وقانوني لجهاز الأمن العراقي، باستدعاء النموذج الإيراني، الخاص بالفصل بين الحرس الثوري، والجيش النظامي الإيراني.
أما التيار الذي يجعل من السيستاني مرجعيته العليا، والتيار الصدري، وإلى حد كبير، رئيس الوزراء الحالي العبادي، وحزب الدعوة، ومختلف القيادات السنّة والأكراد؛ فكلهم يدافعون عن دمج «الحشد الشعبي» في الجيش العراقي الحالي. غير أن الجانب القانوني للحشد، والذي أثار نقاشا حادا وانسحابات لكتل سياسية وقت مناقشته والتصويت عليه؛ يعتبر واحدا من النصوص المشكوك في دستوريتها، لتعارضه الواضح مع الفصل 9 من الدستور. حيث ينص على ذلك القانون الذي صوت عليه البرلمان العراقي يوم 26 / 11 / 2016، بأغلبية الحاضرين، ومنح للحشد «شخصية معنوية»، أنه جزء من القوات المسلحة، وفي الوقت نفسه، قوات موازية للجيش العراقي.
من جهة أخرى، يمنع القانون على الحشد الشعبي أن يكون حزبا سياسيا، أو ينخرط في أي نشاط سياسي؛ لكن القيادات العسكرية والسياسية لفصائل الحشد، استطاعت خلق واقع فعلي، وتحولت لكتلة سياسية قوية سميت، «ائتلاف الفتح». الشيء الذي يؤكد أن تمدد الميليشيات، في المربع السياسي، لم يكن وليد اللحظة، وإنما تعبيرا عن رؤية لعراق لما بعد «داعش»، تساهم إيران والحشد في بناء مؤسساته. علما أن الدولة بقيادة العبادي لم تستطع لحد الآن، الحسم فعليا وبشكل نهائي، في وضع «الحشد الشعبي»، وموقعه من الناحية الأمنية والعسكرية.
على المستوى السياسي الخارجي، يمكن القول إن الميليشيات فاعل جديد وفعال في صناعة التحالفات الإقليمية والأممية، كما أن هذا الفاعل أدخل الدول العربية في عصر الميليشيات العابرة للقارات. وفي هذا سياق الذي يتسم بتراجع موجة متوحشة من الإرهاب بقيادة تنظيم داعش؛ ويصاحبه استمرار توحش النظام السوري، في مواجهته للمعارضة، وتحول هذه الأخيرة لفصائل عدة مسلحة. ومع دخول إيران على خط الاستثمار الدولي لنتائج الصراعات الأهلية ومحاربة الإرهاب؛ ظهرت فصائل شيعية مسلحة شكلتها ودعمتها إيران، باعتبارها فاعلا يتجاوز الدولة، ويعمل وفق رؤية موحدة تخدم تغير التوازنات الإقليمية بالشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه تهديد وتقويض المصالح الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية وحلفائها بالشرق الأوسط.
يأتي هذا في الوقت الذي تعاني فيه السياسة الدولية من تقلبات ناتجة أساسا عن تغيرات سريعة أدت إلى ظهور محاور وتحالفات جديدة على مستوى الشرق الأوسط، انعكست على منظومة التحالفات الدولية. الشيء الذي عقد من الوضع الراهن وصراعاته المرتبطة أساسا بالمصالح الروسية والأميركية والإيرانية، والتركية، بالعراق وسوريا، واليمن؛ كما جعل السعودية وحلفاءها الخليجيين في وضع ضعيف أمام تزايد النفوذ الإيراني بعد رفع العقوبات على طهران بعد الاتفاق النووي مع الغرب سنة 2017.
وسواء تحالف «ائتلاف الفتح» بقيادة العامري مع العبادي أو المالكي... فإن ما هو مؤكد حاليا، أن التمدد المسلح «للحشد الشعبي» في الحقل السياسي، أصبح حقيقة لا يمكن تجاوزها، أو القفز عليها، محليا وإقليميا، على المدى المنظور. وهو ما يعني أن عراق ما بعد «داعش»، سيظل يدور في الفلك الإيراني؛ ويحافظ للميليشيات الشيعية على مكانة مركزية في صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».