«النجدي»... رواية البحر العربي

طالب الرفاعي يروي حكاية شخصية كويتية حقيقية

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«النجدي»... رواية البحر العربي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

قدم طالب الرفاعي في رواية «النجدي» حكاية لشخصية كويتية حقيقية بشكل فني لافت، محافظاً على خيط رفيع يفصل بين الأحداث الحقيقية والخيال الأدبي، حيث يبقى القارئ مشدوداً مع الكلمات التي اختارها الكاتب بعناية ليوازن فيها بين البيئة الكويتية في كل مرحلة من مراحل الأحداث، والحفاظ على التقنيات الأدبية والصياغة الإبداعية في سرد الأحداث الواقعية في إطار الخيال الأدبي. مما يُحسب للرواية في قدرتها على تحويل قصة حقيقية إلى خيال أدبي روائي.
وإذا كانت الروايات العربية التي تتناول تيمة البحر قليلة، فلقد أرَّخت «النجدي» لزمن باقٍ في الذاكرة الكويتية والخليجية ببعض أحداثها المحلية والإقليمية والعالمية؛ واختصر الكاتب الكويت وتحولها المدني والحضاري في حياة رجل. ومن هنا، يمكن اعتبار «النجدي» رواية في رجل، ورجل في رواية.
لعل استهلال الرواية بـ«تعالَ» من أجمل الملاحظات الجمالية في الرواية، فبعد أن يتساءل القارئ عن الأهمية الدلالية لفعل الأمر تأتي الإجابة لاحقاً بانتقالها من مرحلة عمرية إلى أخرى، ثم يعود الكاتب إلى المرحلة العمرية الأولى ليفسر لنا دلالة الفعل ومعانيه المتعددة التي لمّحت للارتباط الوثيق بين البطل والبحر، والتي يمكن للقارئ أن يفسرها من أكثر من زاوية رؤية.
اتخذت الرواية من حادثة بحرية حقيقية جسراً لتسليط الضوء على عدة إسقاطات تمس المجتمع الكويتي مباشرة، حيث لامست العادات والتقاليد السائدة، ومسألة تحول الدولة والمجتمع من مرحلة ما قبل النفط والارتباط بالبحر والحياة البسيطة إلى مرحلة مدنية الدولة والوظائف المؤسسية والحياة العصرية المعقدة.
«علي النجدي» شاب كويتي وُلد ونشأ بالقرب من سيف الكويت فارتبطت روحه منذ نعومة أظفاره بالبحر حتى أصبح البحر حلمه وحياته كلها «أنت تجاور البحر صباح مساء؛ ولذا تمكّن عشقه منك»، بل إن القدر أنهى حياته في البحر في حادثة غريبة استطاعت الرواية استغلالها أدبياً وبناء حبكة درامية منها، إذ تنتهي حياة النجدي، صاحب الصفات القيادية والخبرة البحرية الكبيرة، في بطن البحر بشكل دراماتيكي مثير.
خلط الكاتب على امتداد فصول الرواية الأربعة الأولى، الواقعية بالرومانسية، ليمهد ذهن القارئ لمغامرة قادمة لاستقبالها بمزيد من الخيال. اللغة البصرية المستخدمة في «النجدي» كانت موحية، ولقد قدمت «مباراة تنافسية» بين البحرية العربية والبحرية الغربية فالنوخذة الكويتي علي النجدي في مواجهة القبطان الأسترالي ألن فاليرز الذي انبهر بالصناعة العربية للسفن، معبراً بقوله: «المراكب العربية هي آخر ما تبقى من سحر الشرق القديم». لكن هذا الانبهار لم يمنعه من الظهور بشكل المنافس المتحدي حين قال: «أنتم تلازمون الشواطئ، لا تكاد تغيب عن عيونكم، القبطان العربي يتجنب الإبحار في عرض البحر»، وهو يفتخر بقيادته لسفينته «كونراد» حول العالم، لكنه اعترف أخيراً بشجاعة وموهبة العرب معلناً انتصار البحرية العربية حين قابلتهم ريح عاتية وسط ظلام دامس قبل وصولهم إلى جزر «عبد الكوري» بقوله للنجدي: «لا أعرف كيف وصلت، أنت ربان يختزن ممرات البحر في رأسه».
والزمن في هذه الرواية متداخل بين 3 أزمنة، فبالإضافة إلى زمن الحدث وهو نصف يوم، الذي يتداخل مع الزمن اللحظي، أضافت الرواية زمنا ثالثاً -متداخلاً مع زمن الحدث- تطرق إليه النجدي عن طريق الاسترجاع Flashback، كما عمد الكاتب إلى خلق حيوية في تسلسل الحبكة وتصاعدها، مستفيداً من الصراعات الداخلية لشخوص الرواية، وموظِّفاً الصراعات الخارجية بين الشخوص بعضهم بعضا وبينهم وبين تحديات عناصر الطبيعة، مما خلق تشابكاً بين خطوط الحبكة بدءاً بالعرض الأولي Exposition، ومروراً بالتشويق للحدث Inciting Incident، دون أن يحيط القارئ بالحبكة التي رسمها الكاتب على محورين أساسيين هما الزمن والصراعات الداخلية والخارجية.
واستخدم الروائي تقنية الراوي الأول بضمير المتكلم كراوٍ عامٍّ للسرد، إضافة إلى إدخال الكاتب أساليب روائية أخرى كأدوات روائية مساندة فنجده يقرأ من كتاب «أحفاد السندباد» لآلن فاليرز كصوت راوٍ مساند، إضافة إلى استدعائه صوت الذاكرة دائماً كصوت راوٍ مساند، كما نجده يستخدم تقنية المناجاة Soliloquy: «كان عليّ أن أثق بذلك الهاجس وتلك الرائحة اللعينة»، وللقارئ أن يتفكر في الراوي؛ إذا كانت الرواية بلسان النجدي نفسه الذي غرق في البحر فمَن الذي روى القصة؟ وهل هي إشارة من الكاتب لتوجيهنا نحو رؤية معينة نحو النهاية أم أن الكاتب يتلاعب في عنصر الرواة في العمل؟
اعتمدت رواية «النجدي» على تقنية الاسترجاع Flashback، لكن الكاتب ولّد منه تداعياً داخل التداعي؛ «Flashback in Flashback» مما مكَّن من تقديم حقب مختلفة وثقافات متنوعة عمرياً وبيئياً وعرقياً، وفي تلميحه عن الصديق الأجنبي نلاحظ ما سمته الناقدة الأميركية برات «مفهوم منطقة الاتصال» للإشارة إلى المساحات الاجتماعية التي تتلاقى فيها الثقافات المختلفة؛ فنجد الكاتب قدم «منطقة تلاقٍ» Contact Zone بأسلوب لافت، ليلغي الفواصل الزمنية الملحوظة ربما سعياً منه لجعل القارئ أحد شخوص الرواية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى تقنية Paralysis الشلل، حيث ظهرت هذه التقنية نتيجة حتمية للصراعات الداخلية والخارجية التي أبرزها الكاتب، ولعل من أظهرها هي المشاهد الأخيرة في الرواية، حيث الشلل الذي عاشه الأبطال الثلاثة في أثناء الغرق، وربط الشلل بتقنية أخرى هي الحنين إلى لحظات من الماضي Nostalgic.
«النجدي» رواية البحر العربي، تقدم للقارئ هجيناً Hybrid لعدة أنواع قصصية وعدة أغراض فنية؛ فهنا سيرة بحرية توثيقية تاريخية إضافة إلى الواقعية الرومانسية أو الخيال الواقعي.



مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
TT

مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)

«زهوري اليانعة في داخل خميلة»... كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر، لوصف السنوات التي قضاها في مصر، والأعمال الإبداعية التي قدّمها خلالها، وضمنها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة «احتفالية القرد والحمار».

تنقل المر خلال 15 عاماً قضاها في مصر ما بين حواري الحسين، ومقاهي وسط البلد، وحارات السبتية، ودروب الأحياء العتيقة، متأثراً بناسها وفنانيها، ومبدعي الحِرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح؛ لتأتي لوحاته التي تضمنها المعرض سرداً بصرياً يعبّر عن ولعه بالبلد الذي احتضنه منذ توجهه إليه.

لوحة لرجل مصري مستلهمة من صورة فوتوغرافية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول المر لـ«الشرق الأوسط»: «أعمال هذا المعرض هي تعبير صادق عن امتناني وشكري البالغين لمصر، ويوضح: «جاءت فكرة المعرض عندما وقعت عقد تعاون مع إحدى الغاليريهات المعروفة في الولايات المتحدة، وبموجب هذا العقد لن أتمكن من إقامة أي معارض في أي دول أخرى، ومنها مصر التي عشت فيها أجمل السنوات، أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتفعيل هذا الاتفاق أن أقول لها شكراً وأعبّر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم وما زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم مصادفة».

اللوحات تقدم مشاهد مصرية (الشرق الأوسط)

استلهم الفنان 25 لوحة بخامة ألوان الأكريلك والأعمال الورقية من مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والـ«بوستال كارد» المصرية القديمة، التي تعكس بدورها روعة الحياة المصرية اليومية، ودفء المشاعر والترابط المجتمعي فيها وفق المر: «لدي نحو 5 آلاف صورة مصرية، جمعتها من (الاستوديوهات) وتجار الروبابكيا، ومتاجر الأنتيكات، ومنا استلهمت لوحاتي».

ويضيف: «مصر غنية جداً باستوديوهات التصوير منذ عشرات السنين، ولديها قدراً ضخماً من الصور النادرة المُلهمة، التي تحكي الكثير عن تاريخها الاجتماعي».

الفنان صلاح المر (الشرق الأوسط)

يستطيع زائر المعرض أن يتعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في أعماله؛ حيث حرص المر على أن يضع بجوار اللوحات داخل القاعة الصور المرتبطة بها، ولكن لن يعثر المتلقي على التفاصيل نفسها، يقول: «لا أقدم نسخة منها ولا أحاكيها، إنما أرسم الحالة التي تضعني فيها الصورة، مجسداً انفعالي بها، وتأثري بها، عبر أسلوبي الخاص».

لوحة مأخوذة عن صورة لطفل مصري مع لعبة الحصان (الشرق الأوسط)

تأتي هذه الأعمال كجزء من مشروع فني كبير بدأه الفنان منذ سنوات طويلة، وهو المزج ما بين التجريد التصويري والموضوعات ذات الطابع العائلي، مع الاحتفاء بالجماليات الهندسية، والرموز التراثية، والاستلهام من الصور، ويعكس ذلك ولعه بهذا الفن، تأثراً بوالده الذي عشق الفوتوغرافيا في شبابه.

يقول: «بدأ تعلقي بالفوتوغرافيا حين عثرت ذات يوم على كنز من الصور في مجموعة صناديق كانت تحتفظ به الأسرة في مخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور بعدسة والدي الذي انضم إلى جماعة التصوير بكلية الهندسة جامعة الخرطوم أثناء دراسته بها».

لوحة مستلهمة من صورة قديمة لعروسين (الشرق الأوسط)

هذا «الكنز» الذي عثر عليه المر شكّل جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية ومؤثراً وملهماً حقيقياً في أعماله، والمدهش أنه قرر أن يبوح للمتلقي لأول مرة بذكرياته العزيزة في طفولته بالسودان، وأن يبرز دور والده في مشواره الفني عبر هذا المعرض؛ حيث يحتضن جدران الغاليري مجسماً ضخماً لـ«استوديو كمال»؛ وهو اسم محل التصوير الذي افتتحه والده في الستينات من القرن الماضي.

لوحة تعكس تفاصيل مصرية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول: «أقنع والدي جدي، بإنشاء استوديو تصوير بمحل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، وتم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للتحميض، وذلك في الجزء الخلفي من الدكان».

وجوه مصرية (الشرق الأوسط)

وداخل المجسم تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المر، والمؤثر الفني الذي شكل أعماله؛ ما يجعله أكثر تواصلاً، وتأثراً بلوحات المعرض؛ فالمتلقي هنا يستكشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه التقاط صور لنفسه داخل محله القديم!

وأثناء ذلك أيضاً يتعرف على جانب من تاريخ الفوتوغرافيا، حيث المعدات، وهي عبارة عن الكاميرا YASHIKA التي تستخدم أفلام مقاس 621 وEnlarger والستارة التي تعمل كخلفية وأدوات أخرى للتحميض والطباعة، وتجفيف الفيلم والصور بواسطة مروحة طاولة، وقص الصور بمقص يدوي: «استمر العمل لمدة سنة تقريباً، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن امتد تأثير هذه التجربة داخلي حتى اللحظة الراهنة».

مجسم لاستوديو والد الفنان في الغاليري (الشرق الأوسط)

«احتفالية القرد والحمار» هو اسم «بوستال كارد» عثر عليه الفنان لدى تاجر روبابكيا، ويجسد مشهداً كان موجوداً في الشارع المصري قديماً؛ حيث يقدم أحد الفنانين البسطاء عرضاً احتفالياً بطلاه هما القرد والحمار، ومنه استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: «تأثرت للغاية بهذا الملصق؛ وجعلت اسمه عنواناً لمعرضي؛ لأنه يجمع ما بين ملامح الجمال الخفي في مصر ما بين الفن الفطري، والسعادة لأكثر الأسباب بساطة، وصخب المدن التي لا تنام».