تيري إيغلتُن يقرأ الجسد في ضوء الفلسفة المادية

تيري إيغلتُن يقرأ الجسد في ضوء الفلسفة المادية
TT

تيري إيغلتُن يقرأ الجسد في ضوء الفلسفة المادية

تيري إيغلتُن يقرأ الجسد في ضوء الفلسفة المادية

تقع معضلة التغيير الاجتماعي في صلب الفلسفة الحديثة، وإن تقاطع الفلاسفة أو تلاقوا عندها منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم، حيث إن المذهب المادي يعود إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور، الذي كان ماركس «معجباً بحماسته في الدفاع عن العدالة والحريّة، كما تعني عند التنويريين، من بين ما تعنيه، الحرية من الكهنوت والخرافة». على أن هذه المعضلة ليست ذات طابع سياسي محض، وإن ذهبت الفلسفة الحديثة إلى بحث طابعها الاجتماعي وشروطه بلغة سياسية في كثير من الأحيان. لكن كثيراً من الفلاسفة، ماديين أو مثاليين، تناولوا الأمر على ضوء نظرية المعرفة لأن هذا النظرية تقوم، بين عناصر أخرى، على السياسة.
وفي كتابه الجديد «المادية»، منشورات «المدى» 2017، ترجمة عبد الإله النعيمي، ينحو الناقد الأدبي البريطاني تيري إيغلتُن منحى فلسفياً، لا أدبياً، في قراءته لموضوع «الجسد» على أنه مثار جدل بين كثير من الباحثين والفلاسفة، وتحديداً عند اليساريين منهم، لكن هذا المدخل «الجسدي» للمعرفة يضع قارئ الكتاب أمام سؤال تقني يقود إلى منهج البحث الذي اعتمده إيغلتُن، ذلك أن الجسد لم يكن الثيمة الأساس المركزية في بحثه، بل هو مدخل إلى جدل فلسفي كثير العناوين، وباعترافه هو: «هذا كتاب عن الجسد، من بين أشياء أخرى».
وعند النظر إلى رحابة الكون واتساعه المذهل، يعود إيغلتُن إلى طروحات سابقيه بشأن تواضع الكائن البشري وعجزه، بل إن داروين صاحب نظرية «أصل الأنواع» نفسه، وهو السباق بفترة ليست طويلة، أشار إلى «أصولنا المتدنية، واضعاً البشرية، التي كانت تفضل أن يكون لها نسب أكثر نبلاً، في مزيج ليس به ما يبهر من العمليات المادية».
ويستشهد الباحث بمقولة لسيغموند فرويد «إن العجز الأصلي للكائنات البشرية هو… المصدر الأول لكل الدوافع الأخلاقية».
والأفضلية الوحيدة للإنسان تكمن في قدرته على التفكير. نعم، لكنه ليس سيداً على الطبيعة، بل جزء منها، ويستشهد إيغلتُن بقول الألماني فردريك أنغلز، في كتابه «ديالكتيك الطبيعة»: «نحن لا نتسيد على الطبيعة كفاتح على شعب أجنبي، وكأننا خارج الطبيعة، بل نحن بلحمنا ودمنا ودماغنا ننتمي إلى الطبيعة ونوجد وسطها، وكل تسيدنا عليها يتألف من الحقيقة الماثلة في أن لدينا أفضلية على الكائنات الأخرى بكوننا قادرين على معرفة قوانينها وتطبيقها تطبيقاً صحيحاً». وإذ يعود إيغلتن إلى كارل ماركس، وهو يعود إليه دائماً، يكشف أن الماركسيين يختلفون مع ماركس في موضوع الجسد، فبينما يقر ماركس بالعلاقة الجدلية «بين الطبيعة والتاريخ، حيث الإنتاج المادي والجنسي بوصفه إنتاجاً ثنائياً من هذه الناحية»، فإن أحد مريدي ماركس يخطئ أستاذه «في الزعم بأننا لا نرتبط بالطبيعة إلا من خلال نشاطنا التاريخي، وأن هناك بعداً سلبياً للعلاقة. وكما رأينا، فإن طبيعتنا الجسدية هي مصدر فعاليتنا الذاتية، ولكنها أيضاً هي مصدر انكشافنا للأذى». وبهذا المعنى، يكون الجسد، حسب هذا المنهج، الوجه الآخر للروح بالمعنى العاطفي والمؤلم، وهذا ينطبق على الموت كقدر حتمي يحمله الجسد البشري معه منذ ولادته أو حتى قبل الولادة. وغالباً، تكون الكتب الفلسفية، أو تلك التي يخوض مؤلفوها غمار الفلسفة، على شيء من الغموض والجفاف وثقل الدم، لكن هذا الكتاب، رغم محتواه الفلسفي، خفيف الدم، وقد زخرفه مؤلفه بأمثلة ساخرة أو كوميدية، وهو يغمز من قناة أولئك الذين لا يفهمون من المادية غير الجانب الاستهلاكي، لغوياً، «فالمادية عند غالبية الناس تعني اعتباراً مفرطاً للبضائع المادية».
و«يكتب فردريك أنغلز أن البرجوازي السطحي يفهم من كلمة (مادية) النهم والسُكر وشهوة العين والجسد والغطرسة والطمع والجشع واكتناز المال والركض وراء الربح والاحتيال في سوق الأوراق المالية، باختصار هي كل الرذائل التي ينغمر فيها هو نفسه في حياته الخاصة».
أو كما يذكر إيغلتُن، نفسه، متهكماً: «أن تُسمى المغنية مادونا امرأة مادية، فإن هذا بمثابة القول: إنها ترى في الروح ببساطة مادة في حركة، أو إن الطبقات تتصارع بطريقة تشبه إلى حد بعيد الطريقة التي تهتز بها ذيول الكلاب».
«جسدية» إيغلتُن، كما يوضحها في هذا الكتاب، ليست مفهوماً إثنياً يضع الإنسان في صندوق مغلق «المحدد جنسه، الشاذ، الجائع، المبني، الهرم، المزين، المعوق، السيبرنطيقي، البيولوجي، السياسي - الجسد بوصفه موضع نظر جنسوي، محل متعة أو ألم، منقوشاً بالقوة أو الانضباط أو الرغبة. جسد الإنسان الذي نتعامل معه في هذا الكتاب هو، على النقيض من ذلك، جسد من النوع الابتدائي، وهو ليس بناءً ثقافياً في المقام الأول، بل ما يقال عنه يصح في كمبوديا بقدر ما يصح في تشالتنهام (لندن)، ويصح على الإناث البلجيكيات بقدر ما يصح على الذكور السريلانكيين».
وبهذا التعريف، يكون الجسد بطلاً أو ضحية، على ضوء إدراكه لحريته وحيوية نشاطه في مضمار وجوده الاجتماعي، خارج الجغرافيا وفي عمق التاريخ؛ جسد عابر للحدود لأن الألم المعاصر بلا حدود، حيث أنظمة القهر والسيطرة والتوسع تستعمر هذا الجسد أينما كان، منذ أول صراعات الغابة حتى عولمة ما بعد الحداثة.


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة
TT

القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية، والتعرُّف على علاقة الإنسان بهاجس «القوة التي لا يمتلكها» بصفتها «المُحرِك الرئيسي للعلاقات الإنسانية»، بتعبير الفيلسوف البريطاني برتراند راسل.

صدرت الترجمة العربية للكتاب عن دار «آفاق» للنشر والتوزيع بالقاهرة، بتوقيع المترجمة المصرية نيفين بشير، وفيه تُجري الكاتبة ديبورا جرونفيلد، الباحثة في جامعة «ستانفورد» الأميركية، مقاربة بين مفارقات القوة في الحياة وموازين دراما المسرح، بما يُحيل لفلسفة ويليام شكسبير: «الدنيا مسرح كبير»، فتبدو فصول الكتاب وهي تتعقب مفهوم القوة وعلاقتنا المتعثرة بها، كأنها تُحاكي مراحل تصاعد مسرحية يتشارك الأبطال الظهور فيها على خشبة المسرح تباعاً، لاختبار علاقتنا بالقوة والضعف على السواء، فتُطلق على الفصل الأول: «عندما يُرفع الستار»، الذي تؤسس فيه لمفهوم القوة «التي تفتح الأبواب وتغلقها»، وماهية القوة التي تُقرر مَن ينتصر في الحرب؟ وما الذي نحارب من أجله؟ وكيف نعيش؟ وتحت أي قوانين؟ أو كما تُلخصها مسرحية «هاميلتون» الموسيقية: «تُحدد القوة مَن يعيش، ومَن يموت، ومن يروي قصتك».

متلازمة «البطل الخارق»

يطرح الكتاب، عبر «318» صفحة، القوة ليست بوصفها سلطة و«نفوذاً»، بقدر ما يطرحها بوصفها سؤالاً وجودياً؛ حيث تعامل الإنسان مع القوة بصفتها وسيلة للخلود، وخشية من الموت، ويحيل الكتاب لمقولة العالم السياسي هانز مورجنثاو إلى أن الاحتياج إلى الحب والقوة ينبعان من البئر الوجودية ذاتها؛ حيث تبدو أكبر مخاوفنا في الحياة أنها تتعلق بالوحدة أو الطرد من المجموعة، وأننا «نسعى للحب والقوة من دون وعي لهذا السبب، وعندما تزيد مخاوفنا تنطلق هذه الدوافع».

يلفت الكتاب هنا إلى ما يُعرف بمتلازمة «البطل الخارق»، التي تشير إلى أن مجموعة ثانوية من الأشخاص في ضوء احتياجهم للقوة طوَّروا أوهاماً عن أنفسهم، لمساعدتهم على التعامل مع مشاعرهم بعدم الأمان، فالقوة قوة جاذبة، كما يصفها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي تتوقف الباحثة عند كتابه «إرادة القوة»، الذي تأمَّل فيه كيف أن إرادة القوة ليست مجرد خاصية من خصائص الحياة فحسب، بل هي ماهيتها الرئيسية؛ حيث إرادة القوة تتفوق على نفسها باستمرار، وهو ما يعدّه نيتشه جوهر الحياة.

ولفت نيتشه إلى أن الغريزة مصدر قوة الإنسان، الذي يمنحه السرور والنشوة والقوة، وهي التي تُحرك الإنسان، سواء كان ذلك من خلال فعل الفرد القوي أو الفرد الضعيف، وفي حين تبدو مسألة ربط القوة بالسلطة جدلية، تُشير مؤلفة الكتاب إلى أنها ليست دقيقة؛ إذ إن «كثيراً من الناس في مواقف شتى يشعرون براحة أكبر وراء الكواليس عما لو كانوا في دائرة الضوء، فكثير يُفضل أن يكون محبوباً وليس خائفاً».

تُهيمن لغة القوة على آليات السياسة التي يُعاد تشكيلها بصور متعددة داخل دائرة القيادة

منطق الاستقواء

تسعى الباحثة إلى تطبيق سيكولوجية القوة من زوايا مختلفة، من بينها غريزة مملكة الحيوان، التي تجعل الحيوانات تعرف بالفطرة طرق البقاء آمنة، وكيفية الارتقاء داخل المجموعات، وأحياناً يتعيّن عليها إظهار الاحترام، وفي أوقات أخرى إظهار الهيمنة، وهي أمور تُظهر الخيط الموصول الأبدي بين الخوف وتطويع القوة.

وتُهيمن لغة القوة على آليات السياسة، التي يُعاد تشكيلها بصور متعددة داخل دائرة القيادة. وذكرت المؤلفة في هذا الصدد كثيراً من الانتقادات التي وُجهت للرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش في فترة إعصار «كاترينا»، بسبب عدم قدرته على استخدام «القوة» المنتظرة منه بصفته رئيس دولة كبرى، وكذلك الرئيس الأميركي السابق ترمب، الذي يتعمّد أن تحمل تغريداته عبر المنصات الرقمية نغمة «الاستهزاء» بوصفها أداة لفرض القوة. وهنا تقول الكاتبة: «الرئيس ترمب متخصص في هذا الأسلوب»، وتفرد أمثلة لكيفية استخدامه وسائل تحط من قدر خصومه السياسيين، لتصبح ضربات لفظية جارحة مُصممة لتحقير الآخرين، ما تعدّها آلية «استقواء» يلجأ إليها المرشح الأميركي للرئاسة منذ سنوات طويلة.

وتنظر الكاتبة لفكرة «الاستقواء» من منظور آخر؛ ذلك الذي يُمثله الإيمان بعدالة «قضية مشتركة»، وضربت المثل بسؤال أُلقي على الإعلامية الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري ذات يوم، خلال استضافتها في جامعة «ستانفورد»؛ إذ سألتها طالبة عن مشاعرها وهي تحضر اجتماعاً تعرف أنها ستكون فيه المرأة السمراء الوحيدة بين عدد كبير من الرجال ذوي البشرة البيضاء، فاستعارت وينفري هنا قصيدة «جداتنا»، للشاعرة الأميركية الراحلة مايا أنجلو (1928- 2014): وهي قصيدة كرّمت بها أنجلو أسلافها، والمعارك التي خاضوها من أجل الحرية، وتقول فيها: «لا أحد، لا، ولا مليون أحد يجرؤ على حرماني من الله. أتقدّم وحدي واقفة كعشرة آلاف».

وتتخيّل المؤلفة دخول وينفري المسرح وفي وجدانها جيش من النساء، ما جعلها تشعر بأنها ليست الوحيدة ذات البشرة السمراء في الغرفة، بل «واحدة من عدد من النساء اللاتي لعبن أدواراً كبيرة وصغيرة في مكان آخر، وفي أوقات أخرى في التاريخ، النساء من أصل أفريقي، واللاتي أردن مثلها مزيداً لأنفسهن ولأحبائهن، واللاتي عملن بجد، وحاربن الاضطهاد وكسرن الحواجز مثلها»، في استبصار بمنطق القوة، الذي يستند إلى عقيدة، أو إيمان مُشترك بعدالة قضية ذات دلالة تاريخية ونضالية.