الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)

خيل للعالم في نهايات 2016 أن النمسا قد استطاعت الفكاك من المصير الأصولي المتطرف الذي كان ينتظرها؛ وذلك بعد أن خسر هذا التيار المتشدد مقعد الرئاسة الذي كان يحلم به وكاد أن يقترب منه قولاً وفعلاً. لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تلك الأصولية البغيضة ستعود وبقوة إلى هذه الدائرة بعد أقل من عامين لتضحى رسمياً أول دولة في أوروبا تُحكَم من قبل اليمين القومي المحافظ واليمين الشعبوي المتطرف من ناحية، وبعد أن بات سباستيان كورتز مستشاراً للبلاد من جهة ثانية.
يضعنا المشهد النمساوي الحالي أمام تساؤلات عدة، فبداية ما الذي حدث في جمهورية انقطعت صلتها بالحركات النازية واليمينية المتطرفة منذ عقود بعيدة وقادها إلى تلك النتيجة؟ ثم، وربما هذا هو الأخطر، ما تبعات وانعكاسات هذا الفوز على بقية أوضاع اليمين في أوروبا، سواء كان يمين وسط أو قومياً شعبوياً متطرفاً، وكلهم ربما يختلفون في الرتوش والتفاصيل الشكلية، لكن تجمعهم وحدة التوجه الراديكالي بالمعنى السلبي للكلمة، من رفض للآخر أول الأمر، وتالياً كراهيته، وصولاً إلى استهدافه معنوياً وجسمانياً.

اليمين النمساوي ونتيجة متوقعة
هل ما جرى في النمسا كان وعن حق مفاجأة، أم أن الأمر كان بالفعل متوقعاً؟
المؤكد أن نجاح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف لم يكن مفاجأة أبداً، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين تابعوا تطورات الأحوال السياسية في البلاد عن كثب في الأعوام الأخيرة.
هنا يضحى التذرع بموضوع اللاجئين والمهاجرين تكئة غير مقبولة، ولا سيما أن النمسا كانت دائماً تميل إلى أحزاب مماثلة.
في تحليل لها تقدم صحيفة «الديلي تليغراف» البريطانية رؤية تقريبية لما حدث؛ إذ ترى أن الأحداث التي أعقبت عام 2015 قد أعطت حزب الحرية النمساوي دفعة، لكن «علاقة الحب» النمساوية باليمين المتطرف تتعدى هذا التاريخ وتذهب إلى أعمق من ذلك.... ماذا عن حزب الحرية هذا؟
يعد حزب الحرية أحد أقدم الحركات القومية الأوروبية، وقد أسسه نازيون سابقون، لكنه يقول إنه نبذ ماضيه وطرد الكثير من أعضائه في السنوات القليلة الماضية بسبب مزاعم تتعلق بالنازية، وقد تركزت حملته على خطاب مناهض للمهاجرين المسلمين، عطفاُ على امتلاكه هو وحزب المحافظين منطلقات تمجد العهد النازي المجرّم قانونياً في النمسا التي ولد بها هتلر وضمها للرايخ الثالث.
لا يستقيم الحديث عن حزب الحرية دون النظر إلى شخص سباستيان كورتز، وزير الخارجية الحالي، وزعيم حزب الشعب النمساوي، والمعروف بمواقفه اليمينية، سواء تجاه فكرة أوروبا الموحدة، أو بالنسبة للاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العامين الماضيين.
وفي الانتخابات الأخيرة رأيناه متحالفاً مع قوى اليمين المهيمنة على المشهد النمساوي، واضعاً نُصب عينيه قضايا من نوعية تعزيز النظام الاجتماعي والأمني، وضرورة تعزيز كل ذلك بمحاربة الهجرة غير الشرعية. كان من الطبيعي إذن أن يحصل حزب الشعب المحافظ على 31 في المائة، في حين حاز حزب الحرية القومي على 26 في المائة، أي معاً أكثر من نصف أصوات النمساويين الذين انتخبوا، وقبلها أكثر من 40 في المائة في انتخابات رئاسية 2016.

مظاهرات في الداخل وقلق أوروبي
هل جاءت النتيجة المتقدمة لتلقى هوى كبيراً عند عموم النمساويين؟
مؤكد للذين تابعوا أحوال الشارع النمساوي أن هناك حالة واسعة من الرفض لدى النمساويين؛ فقد خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في مظاهرات مناوئة للحكومة الجديدة أمام القصر تزامناً مع مراسم حفل التنصيب... لماذا؟
يدرك النمساويون أن النتائج الأخيرة تشعل النيران في الماضي المؤلم للبلاد، والجميع هناك يعلم أن حزب الحرية تم تأسيسه من قِبل ضباط نازيين سابقين؛ ولهذا فإننا نقرأ في نص الاتفاقية الموقعة بين أطراف الحكومة الجديدة: «إننا نريد حماية وطننا النمسا، لنحيا فيها بكل ميزاتها الثقافية، وهذا يشمل أن نقرر بأنفسنا من يمكنه الهجرة إلينا والعيش معنا، وإنهاء الهجرة غير الشرعية».
هل هناك شيء ما مصيري حدث على صعيد الحياة السياسية النمساوية منذ عام 2000؟ الشاهد أنه عام 2000 أدى دخول حزب الحرية النمساوي إلى حكومة المستشار المحافظ فولفغانغ شوسل إلى زلزال سياسي في أوروبا، وفرضت عقوبات من الاتحاد الأوروبي، وواجه عميد الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا أيضاً أزمة داخلية كبيرة بعد انضمامه إلى الحكومة إلى جانب المحافظين بزعامة شوسل، وقد تمكن هاينز – كريسيتان ستراكي من السيطرة بشكل وثيق منذ عام 2005 على الحزب الذي شهد مؤخراً تباينات سياسية مختلفة، لكن من دون انقسامات كبيرة، غير أن الأجواء تغيرت؛ إذ إن حزب الحرية هذب خطابه هو وبقية الأحزاب القومية؛ ولذا حققت تقدماً في كل مكان تقريبا بينما تواجه المفوضية الأوروبية أزمات أخطر.
ما يحدث يدلل على أن الأصولية الأوروبية ماضية قدماً وبشكل يدعو للخوف في أوروبا، خذ إليك على سبيل المثال ما غرد به السياسي البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني على موقع «تويتر» قائلاً: «عام 2000 كنت أحضر جلسة في البرلمان الأوروبي، أرادات فرض عقوبات على النمسا؛ لأن حزب الحرية النمساوي كان ضمن ائتلاف الحكومة، والآن نحن في 2017 في الوضع نفسه، لكن ما من أحد يتفوه بكلمة لقد أضحت السياسة المتشككة بأوروبا هي التيار السائد».
هل يمكن أن تضحى النمسا إذن حصان طروادة الأصولي لبقية الدول الأوروبية؟
الثابت، أن ذلك ومن أسف يمكن أن يضحى كذلك، ولا سيما أن حزب الحرية النمساوي يدعو إلى تقارب مع مجموعة «فيزيغراد» التي تضم دولاً مثل بولندا والمجر والتي تخوض اختبار قوة مع المفوضية الأوروبية... هل يعني هذا الفوز أن وحدة أوروبا ذاتها يمكن أن تضحى في خطر؟

دعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي
جاء فوز اليمين الأصولي في النمسا ليلقى هوى كبيراً عند بقية الأحزاب اليمينية في أوروبا؛ فقد رحب قادة أحزاب يمينية متطرفة أوروبية من بينهم الفرنسية مارين لوبان والهولندي غيرت فيلدرز خلال مؤتمر عقد في براغ منذ نحو أسبوعين بما وصفوه بـ«الحدث التاريخي» في النمسا، حيث يستعد زعيم «حزب الحرية» هاينز شتراخه لتسلم منصب نائب المستشار.
يعنّ لنا في هذا السياق التساؤل هل جاء فوز اليمين النمساوي ليعطي بقية أحزاب اليمين الأوروبي زخماً جديداً بعدما أخفقت غالبية، إن لم يكن كل تلك الحركات، في الوصول إلى مقاعد الحكم في العامين الماضيين؟
والمؤكد، أن ذلك الفوز أعطى دفعة قوية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا من أجل العودة إلى الواجهة، بعد الهزائم التي لقتها، جراء خطابها العنصري والمناهض للآخرين، ولا سيما من المسلمين في أوروبا.
عينة من تلك النتائج نجدها عند زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي ماريان لوبان، التي استغلت صعود حزب الحرية إلى الحكم في النمسا، من أجل الدعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي، وقد تحدثت في مؤتمر براغ بالقول: «إن الاتحاد الأوروبي في النفس الأخير، وهناك أمل في أننا سنسقط هذه المنظمة غير الصحيحة من داخلها، وعلينا أن نتصرف كما يتصرف الفاتح».
ليس هذا فحسب، بل إن لوبان اعتبرت أن الأحزاب اليمينية قادرة على تحقيق الفوز في الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي، ومشددة، على أن هذه القوى تستطيع القضاء على الاتحاد الأوروبي.
تعلو اليوم صيحات التطرف اليميني في الداخل الأوروبي، تزخمها أوضاع اقتصادية غير منضبطة، ومشاعر كراهية متأججة؛ ولذلك يرى هؤلاء وأولئك أن: «الشعوب الأوروبية عليها تحرير نفسها من أغلال الاتحاد الأوروبي تلك المؤسسة التي يصفونها بالكارثية التي تقود القارة الأوروبية إلى الموت». لكن ما هو البديل الذي يفكر فيه التيار الشعبوي الأوروبي بديلاً عن الاتحاد الأوروبي؟
إنهم يروجون لطرح ما يعرف لـ«اتحاد الشعوب الأوروبية»، وهو مشروع ينص على التعاون الطوعي بين الدول، يقوم على الاحترام المتبادل ومراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية.
والمقطوع به، أن حالة صحوة اليمين الأصولي بدأت تتجلى كذلك في جمهورية التشيك، والداعي للقاء براغ كان رجل الأعمال توميو أوكامورا، زعيم الحزب اليميني التشيكي المتطرف «الحرية والديمقراطية المباشرة»، الذي حصل مؤخراً على 10 في المائة من أصوات الناخبين في اقتراع تشريعي بفضل خطابه الصارم ضد الإسلام، وضد الاتحاد الأوروبي.
ولعل ما ساعد أوكامورا على هذا الفوز، وجود رئيس تشيكي، ميلوش زيمان، يساري النزعة معروف بخطابه المؤيد لروسيا وللصين والمعادي للإسلام.
زيمان هذا كان قد شبّه أزمة الهجرة «بالغزو المنظم» ويعتبر المسلمين أشخاصاً من المستحيل دمجهم، في المجتمع، وهو كذلك المرشح الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية يناير (كانون الثاني).
2018 لم يكن غيرت فيلدرز بدوره ليصمت وهو رمز التطرف الأصولي اليميني في هولندا، وقد ذهبت تصريحاته في مؤتمر براغ إلى طريقين، الأولى خاصة بأوروبا، والأخرى بالمسلمين من المهاجرين.
فقد شدد في كلمته خلال مؤتمر براغ على ضرورة «منع الهجرة الجماعية إلى أوروبا...»، مضيفاً: «حتى لو اضطرونا إلى إقامة حد»، ومشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يعد بإمكانه «إبقاء الأبواب والنوافذ مفتوحة أمام المهاجرين من العالم الإسلامي». وأضاف فيلدرز: إن «بروكسل تشكل تهديداً وجودياً لدولنا»، معبراً عن أمله في أن «يبقي التشيكيون أبوابهم مغلقة تماماً أمام الهجرة الجماعية».
تصويت النمسا الأخير إذن لا يعني فقط نهاية صورتها الليبرالية المتسامحة، وإنما أيضاً الوداع المؤقت لرؤية أوروبا موحدة» من جديد... هل سيدفع مسلمو النمسا، وبقية دول أوروبا ضريبة هذا الفوز؟

احتفال يذكر بالكراهية والعنصرية

هناك في عالم السياسة بعض المشاهد التي تتيح لناظرها قراءة ما وراء الأحداث، وتكشف عما يفكر فيه أو يتطلع إليه، وقد كان احتفال الحزب المحافظ واليمين القومي في النمسا، دليلاً على ما يمكن أن ينتظر المسلمين في النمسا، وتالياً عموم أوروبا... كيف ذلك؟
الشاهد، أن الحزبين قررا الاحتفال بالفوز في مكان له أهمية رمزية كبرى هو جبل كاهلنرغ، وهو المكان الذي شهد بدء عملية استعادة أوروبا الوسطى من القوات العثمانية عام 1683م.وللمكان «أهمية» ترتبط بمحاصرة العثمانيين لفيينا عام 1683، واستعادة القوات المسيحية المتحالفة بقيادة الملك البولندي جون سوبيسكي الثالث هذه التلة، ونهاية هذا الحصار وبداية انحسار الجيوش الإسلامية في أوروبا الوسطي.
هذا المكان تلجأ إليه مرة سنوياً الجماعات المتطرفة لإحياء ذكرى الانتصار على العثمانيين، وعند خبير الشؤون السياسية توماس هوفر: «أنه بعيداً عن المغالاة في أهمية الاحتفال إلا أن اختيار هذا المكان يحظى بالأهمية، على الأقل لدى حزب الحرية».
وإذا كان اليمين المتطرف في النمسا معادياً للمسلمين والهجرة واللاجئين، وتعمد على ما يبدو أن يختار مكان استعادة البلاد من المسلمين «عثمانيين أو أفارقة أو شرق أوسطيين، فهل ينذر ذلك بما ينتظر الجاليات التي عاد بعض غلاة اليمين الأوروبي اليوم يطلقون عليهم «المحمديين» في استرجاع سيئ للتاريخ؟
الشاهد، أن الأحكام المسبقة ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا باتت وباءً مستفحلاً في أوروبا خلال 2017، وأضحت مسألة المسلمين محورية في كل النقاشات السياسية لليمين المتطرف الذي نجح في حصد الدعم الشعبي والتقدم في استطلاعات الرأي بشكل لم يحققه منذ الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في فرنسا والتشيك والنمسا وألمانيا.
السؤال المهم هنا هو ما انعكاسات هذا الفور على نحو 700 ألف مسلم من أصول عرقية مختلفة يعيشون في النمسا، وكيف ستمضي بهم الأقدار هل للمواجهة أم للتعايش؟
الثابت، أنه لولا عزف تلك الجماعات على نبرة الكراهية ضد مواطنيهم من المسلمين لما قدر لهم الفوز في الحملة الانتخابية الأخيرة والفوز بالمركزين الأول والثالث معاً...هل في الأفق من غيوم تنذر بهبوب ريح عاصفة عاتية؟
البداية تجلت في قرار وزير التعليم النمساوي الذي أيد حظر الحجاب بالنسبة للمعلمات في المدارس النمساوية؛ ما يعني أن المواجهة الثقافية بدأت تأخذ سياقاتها المتوقعة، ومن بعد يمكن للمرء أن يتوقع الأسوأ الذي لم يأت بعد، وبخاصة في ظل الربط المغلوط بين الإرهاب من جهة واللاجئين والمهاجرين من جهة ثانية.
أوروبا اليوم في حالة صدمة، ستطول لبعض الوقت، ففي ألمانيا هناك 92 نائباً في البرلمان «البوندستاج» ينتمون إلى «حزب البديل من أجل ألمانيا» المعروف بمواقفه المتطرفة، وها هي النمسا تلحقه، وأغلب الظن أن غالبية دول أوروبا الشرقية ستلحق بهما عما قريب؛ ما سيجعل من شبه المقطوع به تسلل فيروس الأصولية إلى بقية دول أوروبا الغربية الكبرى، ولا سيما فرنسا وبريطانيا.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».