الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)

خيل للعالم في نهايات 2016 أن النمسا قد استطاعت الفكاك من المصير الأصولي المتطرف الذي كان ينتظرها؛ وذلك بعد أن خسر هذا التيار المتشدد مقعد الرئاسة الذي كان يحلم به وكاد أن يقترب منه قولاً وفعلاً. لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تلك الأصولية البغيضة ستعود وبقوة إلى هذه الدائرة بعد أقل من عامين لتضحى رسمياً أول دولة في أوروبا تُحكَم من قبل اليمين القومي المحافظ واليمين الشعبوي المتطرف من ناحية، وبعد أن بات سباستيان كورتز مستشاراً للبلاد من جهة ثانية.
يضعنا المشهد النمساوي الحالي أمام تساؤلات عدة، فبداية ما الذي حدث في جمهورية انقطعت صلتها بالحركات النازية واليمينية المتطرفة منذ عقود بعيدة وقادها إلى تلك النتيجة؟ ثم، وربما هذا هو الأخطر، ما تبعات وانعكاسات هذا الفوز على بقية أوضاع اليمين في أوروبا، سواء كان يمين وسط أو قومياً شعبوياً متطرفاً، وكلهم ربما يختلفون في الرتوش والتفاصيل الشكلية، لكن تجمعهم وحدة التوجه الراديكالي بالمعنى السلبي للكلمة، من رفض للآخر أول الأمر، وتالياً كراهيته، وصولاً إلى استهدافه معنوياً وجسمانياً.

اليمين النمساوي ونتيجة متوقعة
هل ما جرى في النمسا كان وعن حق مفاجأة، أم أن الأمر كان بالفعل متوقعاً؟
المؤكد أن نجاح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف لم يكن مفاجأة أبداً، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين تابعوا تطورات الأحوال السياسية في البلاد عن كثب في الأعوام الأخيرة.
هنا يضحى التذرع بموضوع اللاجئين والمهاجرين تكئة غير مقبولة، ولا سيما أن النمسا كانت دائماً تميل إلى أحزاب مماثلة.
في تحليل لها تقدم صحيفة «الديلي تليغراف» البريطانية رؤية تقريبية لما حدث؛ إذ ترى أن الأحداث التي أعقبت عام 2015 قد أعطت حزب الحرية النمساوي دفعة، لكن «علاقة الحب» النمساوية باليمين المتطرف تتعدى هذا التاريخ وتذهب إلى أعمق من ذلك.... ماذا عن حزب الحرية هذا؟
يعد حزب الحرية أحد أقدم الحركات القومية الأوروبية، وقد أسسه نازيون سابقون، لكنه يقول إنه نبذ ماضيه وطرد الكثير من أعضائه في السنوات القليلة الماضية بسبب مزاعم تتعلق بالنازية، وقد تركزت حملته على خطاب مناهض للمهاجرين المسلمين، عطفاُ على امتلاكه هو وحزب المحافظين منطلقات تمجد العهد النازي المجرّم قانونياً في النمسا التي ولد بها هتلر وضمها للرايخ الثالث.
لا يستقيم الحديث عن حزب الحرية دون النظر إلى شخص سباستيان كورتز، وزير الخارجية الحالي، وزعيم حزب الشعب النمساوي، والمعروف بمواقفه اليمينية، سواء تجاه فكرة أوروبا الموحدة، أو بالنسبة للاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العامين الماضيين.
وفي الانتخابات الأخيرة رأيناه متحالفاً مع قوى اليمين المهيمنة على المشهد النمساوي، واضعاً نُصب عينيه قضايا من نوعية تعزيز النظام الاجتماعي والأمني، وضرورة تعزيز كل ذلك بمحاربة الهجرة غير الشرعية. كان من الطبيعي إذن أن يحصل حزب الشعب المحافظ على 31 في المائة، في حين حاز حزب الحرية القومي على 26 في المائة، أي معاً أكثر من نصف أصوات النمساويين الذين انتخبوا، وقبلها أكثر من 40 في المائة في انتخابات رئاسية 2016.

مظاهرات في الداخل وقلق أوروبي
هل جاءت النتيجة المتقدمة لتلقى هوى كبيراً عند عموم النمساويين؟
مؤكد للذين تابعوا أحوال الشارع النمساوي أن هناك حالة واسعة من الرفض لدى النمساويين؛ فقد خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في مظاهرات مناوئة للحكومة الجديدة أمام القصر تزامناً مع مراسم حفل التنصيب... لماذا؟
يدرك النمساويون أن النتائج الأخيرة تشعل النيران في الماضي المؤلم للبلاد، والجميع هناك يعلم أن حزب الحرية تم تأسيسه من قِبل ضباط نازيين سابقين؛ ولهذا فإننا نقرأ في نص الاتفاقية الموقعة بين أطراف الحكومة الجديدة: «إننا نريد حماية وطننا النمسا، لنحيا فيها بكل ميزاتها الثقافية، وهذا يشمل أن نقرر بأنفسنا من يمكنه الهجرة إلينا والعيش معنا، وإنهاء الهجرة غير الشرعية».
هل هناك شيء ما مصيري حدث على صعيد الحياة السياسية النمساوية منذ عام 2000؟ الشاهد أنه عام 2000 أدى دخول حزب الحرية النمساوي إلى حكومة المستشار المحافظ فولفغانغ شوسل إلى زلزال سياسي في أوروبا، وفرضت عقوبات من الاتحاد الأوروبي، وواجه عميد الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا أيضاً أزمة داخلية كبيرة بعد انضمامه إلى الحكومة إلى جانب المحافظين بزعامة شوسل، وقد تمكن هاينز – كريسيتان ستراكي من السيطرة بشكل وثيق منذ عام 2005 على الحزب الذي شهد مؤخراً تباينات سياسية مختلفة، لكن من دون انقسامات كبيرة، غير أن الأجواء تغيرت؛ إذ إن حزب الحرية هذب خطابه هو وبقية الأحزاب القومية؛ ولذا حققت تقدماً في كل مكان تقريبا بينما تواجه المفوضية الأوروبية أزمات أخطر.
ما يحدث يدلل على أن الأصولية الأوروبية ماضية قدماً وبشكل يدعو للخوف في أوروبا، خذ إليك على سبيل المثال ما غرد به السياسي البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني على موقع «تويتر» قائلاً: «عام 2000 كنت أحضر جلسة في البرلمان الأوروبي، أرادات فرض عقوبات على النمسا؛ لأن حزب الحرية النمساوي كان ضمن ائتلاف الحكومة، والآن نحن في 2017 في الوضع نفسه، لكن ما من أحد يتفوه بكلمة لقد أضحت السياسة المتشككة بأوروبا هي التيار السائد».
هل يمكن أن تضحى النمسا إذن حصان طروادة الأصولي لبقية الدول الأوروبية؟
الثابت، أن ذلك ومن أسف يمكن أن يضحى كذلك، ولا سيما أن حزب الحرية النمساوي يدعو إلى تقارب مع مجموعة «فيزيغراد» التي تضم دولاً مثل بولندا والمجر والتي تخوض اختبار قوة مع المفوضية الأوروبية... هل يعني هذا الفوز أن وحدة أوروبا ذاتها يمكن أن تضحى في خطر؟

دعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي
جاء فوز اليمين الأصولي في النمسا ليلقى هوى كبيراً عند بقية الأحزاب اليمينية في أوروبا؛ فقد رحب قادة أحزاب يمينية متطرفة أوروبية من بينهم الفرنسية مارين لوبان والهولندي غيرت فيلدرز خلال مؤتمر عقد في براغ منذ نحو أسبوعين بما وصفوه بـ«الحدث التاريخي» في النمسا، حيث يستعد زعيم «حزب الحرية» هاينز شتراخه لتسلم منصب نائب المستشار.
يعنّ لنا في هذا السياق التساؤل هل جاء فوز اليمين النمساوي ليعطي بقية أحزاب اليمين الأوروبي زخماً جديداً بعدما أخفقت غالبية، إن لم يكن كل تلك الحركات، في الوصول إلى مقاعد الحكم في العامين الماضيين؟
والمؤكد، أن ذلك الفوز أعطى دفعة قوية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا من أجل العودة إلى الواجهة، بعد الهزائم التي لقتها، جراء خطابها العنصري والمناهض للآخرين، ولا سيما من المسلمين في أوروبا.
عينة من تلك النتائج نجدها عند زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي ماريان لوبان، التي استغلت صعود حزب الحرية إلى الحكم في النمسا، من أجل الدعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي، وقد تحدثت في مؤتمر براغ بالقول: «إن الاتحاد الأوروبي في النفس الأخير، وهناك أمل في أننا سنسقط هذه المنظمة غير الصحيحة من داخلها، وعلينا أن نتصرف كما يتصرف الفاتح».
ليس هذا فحسب، بل إن لوبان اعتبرت أن الأحزاب اليمينية قادرة على تحقيق الفوز في الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي، ومشددة، على أن هذه القوى تستطيع القضاء على الاتحاد الأوروبي.
تعلو اليوم صيحات التطرف اليميني في الداخل الأوروبي، تزخمها أوضاع اقتصادية غير منضبطة، ومشاعر كراهية متأججة؛ ولذلك يرى هؤلاء وأولئك أن: «الشعوب الأوروبية عليها تحرير نفسها من أغلال الاتحاد الأوروبي تلك المؤسسة التي يصفونها بالكارثية التي تقود القارة الأوروبية إلى الموت». لكن ما هو البديل الذي يفكر فيه التيار الشعبوي الأوروبي بديلاً عن الاتحاد الأوروبي؟
إنهم يروجون لطرح ما يعرف لـ«اتحاد الشعوب الأوروبية»، وهو مشروع ينص على التعاون الطوعي بين الدول، يقوم على الاحترام المتبادل ومراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية.
والمقطوع به، أن حالة صحوة اليمين الأصولي بدأت تتجلى كذلك في جمهورية التشيك، والداعي للقاء براغ كان رجل الأعمال توميو أوكامورا، زعيم الحزب اليميني التشيكي المتطرف «الحرية والديمقراطية المباشرة»، الذي حصل مؤخراً على 10 في المائة من أصوات الناخبين في اقتراع تشريعي بفضل خطابه الصارم ضد الإسلام، وضد الاتحاد الأوروبي.
ولعل ما ساعد أوكامورا على هذا الفوز، وجود رئيس تشيكي، ميلوش زيمان، يساري النزعة معروف بخطابه المؤيد لروسيا وللصين والمعادي للإسلام.
زيمان هذا كان قد شبّه أزمة الهجرة «بالغزو المنظم» ويعتبر المسلمين أشخاصاً من المستحيل دمجهم، في المجتمع، وهو كذلك المرشح الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية يناير (كانون الثاني).
2018 لم يكن غيرت فيلدرز بدوره ليصمت وهو رمز التطرف الأصولي اليميني في هولندا، وقد ذهبت تصريحاته في مؤتمر براغ إلى طريقين، الأولى خاصة بأوروبا، والأخرى بالمسلمين من المهاجرين.
فقد شدد في كلمته خلال مؤتمر براغ على ضرورة «منع الهجرة الجماعية إلى أوروبا...»، مضيفاً: «حتى لو اضطرونا إلى إقامة حد»، ومشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يعد بإمكانه «إبقاء الأبواب والنوافذ مفتوحة أمام المهاجرين من العالم الإسلامي». وأضاف فيلدرز: إن «بروكسل تشكل تهديداً وجودياً لدولنا»، معبراً عن أمله في أن «يبقي التشيكيون أبوابهم مغلقة تماماً أمام الهجرة الجماعية».
تصويت النمسا الأخير إذن لا يعني فقط نهاية صورتها الليبرالية المتسامحة، وإنما أيضاً الوداع المؤقت لرؤية أوروبا موحدة» من جديد... هل سيدفع مسلمو النمسا، وبقية دول أوروبا ضريبة هذا الفوز؟

احتفال يذكر بالكراهية والعنصرية

هناك في عالم السياسة بعض المشاهد التي تتيح لناظرها قراءة ما وراء الأحداث، وتكشف عما يفكر فيه أو يتطلع إليه، وقد كان احتفال الحزب المحافظ واليمين القومي في النمسا، دليلاً على ما يمكن أن ينتظر المسلمين في النمسا، وتالياً عموم أوروبا... كيف ذلك؟
الشاهد، أن الحزبين قررا الاحتفال بالفوز في مكان له أهمية رمزية كبرى هو جبل كاهلنرغ، وهو المكان الذي شهد بدء عملية استعادة أوروبا الوسطى من القوات العثمانية عام 1683م.وللمكان «أهمية» ترتبط بمحاصرة العثمانيين لفيينا عام 1683، واستعادة القوات المسيحية المتحالفة بقيادة الملك البولندي جون سوبيسكي الثالث هذه التلة، ونهاية هذا الحصار وبداية انحسار الجيوش الإسلامية في أوروبا الوسطي.
هذا المكان تلجأ إليه مرة سنوياً الجماعات المتطرفة لإحياء ذكرى الانتصار على العثمانيين، وعند خبير الشؤون السياسية توماس هوفر: «أنه بعيداً عن المغالاة في أهمية الاحتفال إلا أن اختيار هذا المكان يحظى بالأهمية، على الأقل لدى حزب الحرية».
وإذا كان اليمين المتطرف في النمسا معادياً للمسلمين والهجرة واللاجئين، وتعمد على ما يبدو أن يختار مكان استعادة البلاد من المسلمين «عثمانيين أو أفارقة أو شرق أوسطيين، فهل ينذر ذلك بما ينتظر الجاليات التي عاد بعض غلاة اليمين الأوروبي اليوم يطلقون عليهم «المحمديين» في استرجاع سيئ للتاريخ؟
الشاهد، أن الأحكام المسبقة ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا باتت وباءً مستفحلاً في أوروبا خلال 2017، وأضحت مسألة المسلمين محورية في كل النقاشات السياسية لليمين المتطرف الذي نجح في حصد الدعم الشعبي والتقدم في استطلاعات الرأي بشكل لم يحققه منذ الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في فرنسا والتشيك والنمسا وألمانيا.
السؤال المهم هنا هو ما انعكاسات هذا الفور على نحو 700 ألف مسلم من أصول عرقية مختلفة يعيشون في النمسا، وكيف ستمضي بهم الأقدار هل للمواجهة أم للتعايش؟
الثابت، أنه لولا عزف تلك الجماعات على نبرة الكراهية ضد مواطنيهم من المسلمين لما قدر لهم الفوز في الحملة الانتخابية الأخيرة والفوز بالمركزين الأول والثالث معاً...هل في الأفق من غيوم تنذر بهبوب ريح عاصفة عاتية؟
البداية تجلت في قرار وزير التعليم النمساوي الذي أيد حظر الحجاب بالنسبة للمعلمات في المدارس النمساوية؛ ما يعني أن المواجهة الثقافية بدأت تأخذ سياقاتها المتوقعة، ومن بعد يمكن للمرء أن يتوقع الأسوأ الذي لم يأت بعد، وبخاصة في ظل الربط المغلوط بين الإرهاب من جهة واللاجئين والمهاجرين من جهة ثانية.
أوروبا اليوم في حالة صدمة، ستطول لبعض الوقت، ففي ألمانيا هناك 92 نائباً في البرلمان «البوندستاج» ينتمون إلى «حزب البديل من أجل ألمانيا» المعروف بمواقفه المتطرفة، وها هي النمسا تلحقه، وأغلب الظن أن غالبية دول أوروبا الشرقية ستلحق بهما عما قريب؛ ما سيجعل من شبه المقطوع به تسلل فيروس الأصولية إلى بقية دول أوروبا الغربية الكبرى، ولا سيما فرنسا وبريطانيا.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».