السرد الروائي ما بعد صدام... رحيل النص

أغلب الذين تصدوا للكتابة الجديدة جاءوا من خارج المشهد الأدبي

الحلة عاصمة السخرية - تحت سماء الشيطان - عشرون شتاء - المكاريد
الحلة عاصمة السخرية - تحت سماء الشيطان - عشرون شتاء - المكاريد
TT

السرد الروائي ما بعد صدام... رحيل النص

الحلة عاصمة السخرية - تحت سماء الشيطان - عشرون شتاء - المكاريد
الحلة عاصمة السخرية - تحت سماء الشيطان - عشرون شتاء - المكاريد

ربيع 2003 أطاحت هزة مجتمعية بمقياس التحول الاجتماعي الكبير بنظام حديدي، هو نظام صدَّام حسين، قوامه الخوف والرعب والخشية من مشاهدة النفس في مرآة الصدق، فجميع الأشياء مراقبة وتخضع للتقارير التي تؤدي إلى الأقبية السرية والموت بلا محاكمة.
التحوّل الدراماتيكي الذي أزاح «جمهورية الخوف» في العراق، بدا وكأنه نهاية حقبة التكتم المضني، واستبداله بالانفتاح على مختلف المستويات، ومنها مستوى الأدب والفن عبر تهشيم الشكل الخارجي لطبيعة النص، وفق ضرورة المتن الحكائي، لا سيما في عالم السرد. حدث ذلك، ليس بانسحاب الأسماء التي وقفت مندهشة إزاء هذا الانزياح، بل من خلال كل الذين تصدوا لذاكرتهم بحرية تامة، وتوق للبوح خارج محددات النص السردي دون الالتفات إلى الدرس النقدي القديم. والملاحظ أن أغلب الذين تصدوا للكتابة الجديدة قدموا من خارج المشهد الأدبي متدرعين بأسمائهم فقط، دون دعاية مسبقة أو نشر في صحف أو مجلات، وهذه واحدة من مظاهر رحيل شكل النص التي ندافع عنها في هذه المقالة. ولا ننسى هنا الإشارة إلى أن ما خدم هذا الاتجاه هي عملية تسويق النص عبر توفر إمكانية الطباعة ضمن سياق تجاري متاح للجميع في سوق مفتوحة بلا أبواب. ثم إن تلك النصوص لم تتجه نحو الإسفاف، بل تولدت ذائقة ثقافية سياسية، إن جاز التعبير، ساعدت في إصدار الكثير من الكتب المؤثرة دون الخضوع للرقابة التي أضرت كثيراً بالكتابة منذ بداية بزوغ عالم الطباعة في العراق.
نعم، ثمة رأي يقول: إن الرقابة في الأيام الأخيرة لنظام صدام لم تعد فاعلة بسبب أن ما يطبع متشابه ويسير مع الجدار، وبرزت في المشهد كتابات الرئيس نفسه في الحقل الأدبي مثل «زبيبة والملك» حتى «اخرج منها يا ملعون» تحت اسم مؤلف مجهول «رواية لكاتبها» في إشارة لمسخ الأسماء، وجعلها غير ذات أهمية والاكتفاء بالإشارة للمتن الممسوخ والمتكرر لكتابة لا تكشف ولا تنير، إنها فقط تشير إلى السذاجة في الطرح، وتدوير نفايات الأفكار في تشابه يفضي إلى لا شيء.

الخروج من عنق المجايلة
إزاء المتغيرات العسكرية وسقوط نظام البعث، انفتحت أبواب العراق على مصاريعها بكل الاتجاهات، وسكنت فورة العوز والفقر في جانب البوح والتعبير، وصعدت نبرة التعبير المباشر، وتزايد عدد الصحف - مع غياب الرقيب كذلك - والفضائيات والإذاعات، وخرجت الجموع من أقبيتها إلى الشوارع تعبر عن مكنوناتها، أما الكتابة الحقيقية التي تبحث في جذور الماضي تحت ضوء الحاضر فإنها وقفت مرتبكة من القوالب القديمة، في القصة أو الشعر أو الرواية، أو مبحث اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أكاديمي متخصص، فحصل الزحاف الجديد المتمثل بخلط كل ذاك القديم وفق واقع جديد بآليات مختلفة في البوح والانتقال إلى التعبير الصادق والخروج إلى الضوء دون خلفية سابقة في المشهد الأدبي أو الصحافي. وأصبح للوجوه الجديدة الحضور الكافي، وهي تجترح طريقاً جديداً في تفاصيل متن السرد، بعيداً عن الأشكال الأدبية واختلافاتها الجيلية (نسبة إلى الأجيال الأدبية العراقية) حتى توقف السجع بعد الألفين، حيث كانت المجايلة تعني الاختلاف في طريقة الكتابة وفق عالم النقد، فهذا أدب واقعي يتبعه القص الواقعي والشعر والمسرح، وهذا أدب تجريبي في الستينات في كل المجالات، وهذا سبعيني يقترب من اليومي في التناول، وهذا ثمانيني حاصره التوجه التعبوي وارتحال الكثير من المبدعين إلى خارج العراق هرباً من البطش والحفاظ على النوع، وهذا تسعيني يغترف من كل الذين سبقوه، ولكن بتسويق أقل، والاعتماد في أغلب الأحيان على الاستنساخ. كل هذا التنوع والاختلاط والتوقف عن الكتابة لأغلبهم ثم بزوغ المتغير الهائل في زوال صدام استدعى أو شكّل النصوص الجديدة في المتن والتغير الشكلي برمته ليصنع أسماء جديدة.

كتّاب جدد
أكثر ما يهمنا في متابعة النصوص الجديدة، كتّابها الذين حضروا المقاعد الأمامية في المشهد الكتابي - لا نستطيع القول الأدبي أو الفني - وسوف نمر على بعضهم، معتذرين للآخرين لعدم إمكانية حصر كل ما نشر، إضافة إلى تمثيل هذا الشكل الجديد بطريقة السرد، باعتبار المؤلف شاهداً على مرحلة.
في كتاب المؤلف قيس حسن «تحت سماء الشيطان... مفكرة شخصية لأربعة عقود عراقية» يتجلى الهروب من الخطاب المتوارث، والانزياح إلى أساسيات السرد الحديث في الاقتراب من القارئ بصيغة جديدة هو ما عمد إليه حسن في الكتابة خارج متن التجنيس الأدبي، رغم الانحياز إلى منطقة المذكرات، ولكن ليس بروح المنتهي من الأيام، وكأن التجربة في نزعها الأخير كما كانت المذكرات تكتب في نهاية العمر، بل هي الشروع ببداية التفكير في كشف المستور من الحكاية التي عاشها أيام الصمت ومحاولة الهرب وطريقة تشكل البشر وسط فضاء والتواءات التشوه. وحسن لا يخجل من قول الحقيقة، أي لم ينخرط في المعارضة رغم عدم الاقتناع بالنظام، بل تتبع خيط اعترافاته ومشاهداته لكيفية تشكل حيوات الآخرين، وهو يعبر الحدود هارباً من الخدمة الإلزامية في الجيش إلى إيران عبر إقليم كردستان.
فيما ينقل لنا الكاتب حمودي نشمي في كتابه «عشرون شتاءً»، وهو الطبيب والضابط المجند، تجربته المضنية في تحمل حياة لا يقوى على تجرعها الإنسان الذي يجنح للمدنية: «بدأنا بصفوف منتظمة، قامات منتصبة، رؤوس مرفوعة، نفوس ذليلة وأمعاء فارغة، نمرُ أمام منصة الاستعراض وكبار الضباط يتوسطهم علي حسن المجيد وزير الدفاع، وهو مزهو بتخريج كوكبة من الضباط الأشاوس الجياع الذين سيلقنون العدو الدروس، وأي دروس؟!».
أما الكاتب نوفل الجنابي فينتقل من عالم السيناريو إلى نسق التأليف الجديد في كتابه «الحلة... عاصمة السخرية».
في ظل انبثاق الكتابة الجديدة التي خرجت من التشكل الجديد للجنس الأدبي، حيث يبدو العنوان الفرعي التابع للرئيسي -الحلة- مفتوحاً على قراءة سسيولوجية متفحصة للحيوات البشرية، وأثرهم في تشكل الحياة الاجتماعية إزاء مواجهات قاهرة ومرة لاضطهاد سياسي يقود البشر لمصائرهم دون أن يستطيعوا التحكم بنهايتها، وهم يتمسكون بالأمل.
إننا إزاء هذه النماذج المنتقاة، نشهد سرداً معاكساً للتأليف التقليدي، الذي يتكئ على آلية السيناريو التي تقطع أوصال السرد، وصولاً إلى التشويق المنشود، باعتماده على السرد الموصول بالتاريخ اليومي لرواية المخبوء من الحكي في زمن الخوف. وبذلك يحقق السرد الجديد شكله الخاص في الكتابة والتلقي يذكرنا بدرس جعفر الخليلي في سردياته الخمسينية المبكرة خارج سرب القص التقليدي والإيفاء بإيصال المتن الحكائي، وفق الحدث المؤثث بزمنه الاجتماعي الذي حصل في أوانه.
نتيجة لهبوب رياح التغير، وبفضل الخبرة المتراكمة، أضاف كتاب عراقيون من الداخل، ومن المهجر، إضافات جنحت نحو المذكرات، أو البوح الذاتي، وكانت ظاهرة عدم استيعاب النص الشعري أو السرد تتفشى في ثنايا كتاباتهم، فكانت إسهامات الكاتب محمد غازي الأخرس في كتابه «المكاريد»، وخضير الزيدي في أسطرة الواقع اليومي ونبش «سكراب» الحياة العراقية، وإظهار المسكوت عنه في الكراجات ودفاتر الخدمة العسكرية والمقاهي وحكايا العجائز إلى ضوء السرد الحديث، ورشيد هارون في متابعة دواخل النفس البشرية المسحوقة، وكشف عوالم المقابر الجماعية في كتاب «أذكر أني»، ومن المهجر فوزي كريم و«مراعي الصبار» وشوقي عبد الأمير في «يوم في بغداد» ورياض رمزي في «الديكتاتور فناناً» وهم يكشفون عمق المسكوت عنه في نقل تفاصيل تاريخية يشتركون بها مع مجايليهم، مما أثار الكثير من الجدل في بعض التفاصيل الصغيرة ومدى مصداقيتها.
النص الجديد يحتاج إلى قراءة نقدية لترسم شكله السردي الحديث، حتى لا يبدو ابناً عاقاً للسرد العراقي. لأن الكتابة نوع من التخفيف عن الهم أو هي حبل الإنقاذ خشية السقوط في هاوية التاريخ.
* كاتب وشاعر عراقي



عقود من الرّيادة السعودية في فصل التوائم

TT

عقود من الرّيادة السعودية في فصل التوائم

جانب من حضور الجلسات الحوارية في اليوم الأخير من «المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة»... (تصوير: تركي العقيلي)
جانب من حضور الجلسات الحوارية في اليوم الأخير من «المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة»... (تصوير: تركي العقيلي)

بينما تتواصل جلسات «المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة»، بالعاصمة السعودية الرياض لليوم الثاني، أظهرت ردهات المكان، والمعرض المصاحب للمؤتمر بما يحتويه، تاريخاً من الريادة السعودية في هذا المجال على مدى 3 عقود، وفقاً لردود الفعل من شخصيات حاضرة وزوّار ومهتمّين.

جانب من المعرض المصاحب لـ«المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة»... (تصوير: تركي العقيلي)

 

على الجهة اليُمنى من مدخل مقر المؤتمر، يكتظ المعرض المصاحب له بالزائرين، ويعرّج تجاهه معظم الداخلين إلى المؤتمر، قُبيل توجّههم لحضور الجلسات الحوارية، وبين مَن يلتقط الصور مع بعض التوائم الموجودين ويستمع لحديثٍ مع الأطباء والطواقم الطبية، برزت كثير من المشاعر التي باح بها لـ«الشرق الأوسط» عددٌ من أشهر حالات التوائم السياميّة التي نجحت السعودية في عمليات فصلها خلال السنوات الأخيرة.

 

«أعمل في المستشفى حيث أُجريت عملية فصلنا»

السودانيتان التوأم هبة وسماح، من أوائل التوائم الذين أُجريت لهم عمليات الفصل قبل 3 عقود، وقد عبّرتا لـ«الشرق الأوسط» عن فخرهما بأنهما من أولى الحالات الذين أُجريت عملية فصلهما في السعودية.

قالت هبة عمر: «مَدّتنا عائلتنا بالقوة والعزيمة منذ إجرائنا العملية، وهذا الإنجاز الطبي العظيم ليس أمراً طارئاً على السعودية، وأرجو أن يجعل الله ذلك في ميزان حسنات قيادتها وشعبها».

 

التوأم السيامي السوداني هبة وسماح (تصوير: تركي العقيلي)

أما شقيقتها سماح عمر فتضيف فصلاً آخر من القصة :«لم نكن نعرف أننا توأم سيامي إلّا في وقت لاحق بعد تجاوزنا عمر الـ10 سنوات وبعدما رأينا عن طريق الصّدفة صورة قديمة لنا وأخبرنا والدنا، الذي كافح معنا، بذلك وعاملنا معاملة الأطفال الطبيعيين»، وتابعت: «فخورون نحن بتجربتنا، وقد واصلنا حياتنا بشكل طبيعي في السعودية، وتعلّمنا فيها حتى أنهينا الدراسة الجامعية بجامعة المجمعة، وعُدنا إلى السودان عام 2020 شوقاً إلى العائلة ولوالدتنا»، وبعد اندلاع الحرب في السودان عادت سماح إلى السعودية لتعمل في «مستشفى الملك فيصل ومركز الأبحاث»، وهو المستشفى نفسه الذي أُجريت لها ولشقيقتها فيه عملية الفصل.

ووجهت سماح عبر «الشرق الأوسط» رسالةً إلى التوائم السيامية طالبتهم فيها باستكمال حياتهم بشكل طبيعي: «اهتموا بتعليمكم وصحتكم؛ لأن التعليم على وجه الخصوص هو الذي سيقوّيكم لمواجهة صعوبة الحياة».

 

«وجدتُ العلاج في السعودية»

بوجهين تغشاهما البراءة، ويشع منهما نور الحياة، بينما لا يتوقع من يراهما أن هاتين الطفلتين قد أجرتا عملية فصل؛ إذ تظهرا بصحة جيدة جداً، تقف الباكستانيتان التوأم فاطمة ومشاعل مع أبيهما الذي يتحدث نيابةً عنهما قائلاً :«بحثت في 8 مستشفيات عن علاج للحالة النادرة لفاطمة ومشاعل، ولم أنجح في مسعاي، وعندما رفعت طلباً إلى الجهات الصحية في السعودية، جاء أمر العلاج بعد شهرين، وتوجهت إلى السعودية مع تأشيرة وتذاكر سفر بالإضافة إلى العلاج المجاني. رافقتني حينها دعوات العائلة والأصدقاء من باكستان للسعودية وقيادتها على ما قدمته لنا».

التوأم السيامي الباكستاني فاطمة ومشاعل (تصوير: تركي العقيلي)

 

«السعودية بلد الخير (...) فاطمة ومشاعل الآن بأفضل صحة، وأصبحتا تعيشان بشكل طبيعي مثل أخواتهما الثلاث الأخريات»؛ يقول الوالد الباكستاني... «أشكر القيادة السعودية والشعب السعودي الطيب والدكتور عبد الله الربيعة على الرعاية التي تلقيناها منذ كان عمر ابنتيّ عاماً واحداً في 2016».

وقبل أن تغادرا الكاميرا، فاضت مشاعر فاطمة ومشاعل بصوتٍ واحد لميكروفون «الشرق الأوسط»: «نحن فاطمة ومشاعل من باكستان، ونشكر السعودية والملك سلمان والأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، والدكتور عبد الله الربيعة».

 

عُماني فخور بالسعودية

أما محمد الجرداني، والد العُمانيتين التوأم صفا ومروة، فلم يُخفِ شعوره العارم بالفخر بما وصلت إليه السعودية من استخدام التقنيات الحديثة في المجال الطبي حتى أصبحت رائدة في هذا المجال ومجالات أخرى، مضيفاً أن «صفا ومروة وُلد معهما شقيقهما يحيى، غير أنه كان منفرداً».

الجرداني وهو يسهب في الحديث لـ«الشرق الأوسط»، وسط اختلاط المشاعر الإنسانية على وجهه، أكّد أن صحة ابنتيه اليوم «في أفضل حالٍ بعدما أُجريت لهما عملية الفصل في السعودية عام 2007، وأصبحتا تمارسان حياتهما بأفضل طريقة، ووصلتا في دراستهما إلى المرحلة الثانوية»، وأضاف: «نعزو الفضل في ذلك بعد الله إلى الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، ثم الملك سلمان، والأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، اللذين واصلا المسيرة الإنسانية للسعودية... وصولاً إلى هذا المؤتمر، وتحديد يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عامٍ (يوماً للتوائم الملتصقة)».

الجرداني أشاد بجهود الدكتور عبد الله الربيعة في قيادة الفرق الطبية المختصة، وقال إنه «مدين بالشكر والعرفان لهذا المسؤول والطبيب والإنسان الرائع».

المؤتمر الذي يُسدَل الستار على أعماله الاثنين ينتشر في مقرّه وبالمعرض المصاحب له عدد من الزوايا التي تسلّط الضوء على تاريخ عمليات فصل التوائم، والتقنيات الطبية المستخدمة فيها، بالإضافة إلى استعراضٍ للقدرات والإمكانات الطبية الحديثة المرتبطة بهذا النوع من العمليات وبأنشطة «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية».