وسط غرفة مطلية باللون الأزرق السماوي، يجلس الريس «سيد كابوريا»، منهمكا في صناعة آلة سمسمية جديدة، تحمل بصمته الخاصة، كأحد رواد هذا الفن، الذي ارتبط بالمقاومة الشعبية في مدن القناة، منذ هزيمة 1967، وحتى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. يضع «كابوريا» اللمسات الأخيرة على آلته، فتلمع عيناه بوهج ذكريات بعيدة، وتعلو وجهه ابتسامة رضا، رغم علمه أن المال والجهد المبذول في صنع هذه الآلة، لن يعود عليه بربح يذكر، لكنها فقط ستنضم إلى مجموعته الخاصة من «السماسم»، التي تزين جدران منزله بمدينة السويس «الباسلة» (130 كيلومترا شرق القاهرة)، ويعتبرها «كل ثروته»، فالريس سيد يرى في آلة السمسمية واحدة من نعم الله عليه، بعدما وقع في غرامها عندما كان في الثانية عشرة من عمره: «حبيت السمسمية، ومشيت وراها».
وتتكون آلة السمسمية من 5 أوتار، وهي تشبه الطنبورة والربابة، ويتم العزف عليها بارتجال دون «نوتة موسيقية»، حيث تعتمد في الأساس على مهارة العازف، فيما يعود تاريخها إلى العصر الفرعوني، وتظهر بشكلها الحالي على جدران المعابد والبرديات.
يخوض كابوريا معركة مع عازفي السمسمية من الشباب، ضد تغيير الشكل التراثي للآلة، وإضافة أوتار جديدة، لتسهيل العزف عليها، خلال الأفراح الشعبية والحفلات. وسبق للريس «سيد» السفر عبر محافظات مصر، لجمع الأشكال المختلفة التي يتم بها صنع الآلة، حتى يتقنها جميعا، ثم يعيد تصنيعها في منزله، حيث توجد عشرات الأشكال مختلفة الأحجام والألوان من السمسمية، منها ما يصل عدد أوتاره إلى 25 وتراً، نتيجة لدمج السمسمية مع آلات أخرى، ومنها ما يصنع من جلود الحيوانات، والقشرة الخارجية لـ«الترسة البحرية»، ومنها ما زين بقماش «الستان» زاهي الألوان، ومنها ما يصنع من خشب الزان.
شغف الريس سيد انعكس في تحويل الساحة الملحقة لبيته إلى جمعية مشهرة، بهدف حفظ تراث السمسمية، بدلا من الموافقة على تأجيرها مقابل مبلغ مالي، يقلل من أعباء الحياة المادية لرجل في سن المعاش.
الجمعية تهدف أيضا إلى تخريج أجيال جديدة من عازفي السمسمية الشغوفين، الذين يشاركون كابوريا في العزف، خلال الأعياد الوطنية، والمهرجانات الثقافية بمنطقة القنال.
التقى كابوريا بفنان المقاومة الراحل «الكابتن غزالي» في عمر الخامسة عشرة، إبان المقاومة الشعبية لمدينة السويس، وكان أصغر مؤسس لفرقة «أولاد الأرض»، التي قادت حركة النضال بالغناء والموسيقى، خلال سنوات الحرب بين مصر وإسرائيل. ويذكر كابوريا أول أغنية غنتها الفرقة، والتي كان مطلعها: «فكرينك يا سينا... فكرينك يا سينا يا قصتنا العظيمة... ولادنا في حضن أرضك أمانة...خليكي حنونة».
وأكد «كابوريا» أن الفرقة كانت دائما ما تبحث عن كلمات يسهل حفظها وتردديها، ولا تخلو من الفكاهة، والتندر، إذا لزم الأمر، حتى تنتشر سريعا بين أهالي السويس والجنود، وكانت الفرقة مكونة من 25 فردا، يجتمعون في أحد الخنادق القريبة من منزل «كابتن غزالي» للتدريب، ويطلقون عليه «شاليه أولاد الأرض» على سبيل المزاح.
شهد الخندق حضور عشرات الشعراء والسياسيين، للتضامن مع فرقة المقاومة الأشهر، التي سرعان ما تكونت فرق مشابهة لها في عدد من المحافظات، متخذة نفس الاسم «أولاد الأرض».
الشاعر الفلسطيني محمود درويش، كان أحد أبرز زوار الخندق الشهير، مخترقا بذلك حصار المدينة الباسلة، وأجواء الحرب وقتها، خلال نهاية الستينات من القرن الماضي. وقد كرمت الفرقة درويش بأغنية خاصة له، كان مطلعها «أهلا يا درويش يا بلبل سهرتنا.. كيف سميح واش حاله.. واش حال عروبتنا».
وأوضح «كابوريا»: «أن عدداً من الشعراء، ارتبطوا بفرقة (أولاد الأرض) ولازموا أفرادها في مشوارهم الطويل، من أمثال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وكامل عيد رمضان، وعطية عليان، والمهندس عبد الله صقر».
وبعد أن ذاع صيت الفرقة، دعتهم إذاعة صوت العرب لتسجيل أغنيتين، تلا ذلك المشاركة في حفلات أضواء المدينة الشهيرة وقتها، مع كوكبة من المطربين والملحنين، من أمثال فايدة كامل وعبد الحليم حافظ.
وقتها كانت الفرقة المكونة من 25 فردا، تحصل على 4 تذاكر فقط، للانتقال من وإلى السويس، بسبب ظروف الحرب، فكان كابوريا وغيره من الشباب، يفترشون ممرات القطار.
يتذكر كابوريا: «أول أجر حصلت عليه كان 40 قرشا، (أقل من نصف جنيه مصري) من محافظ السويس، وسعدنا به جدا، أكلنا وشربنا، وكان المبلغ وقتها يتعدى قيمة الـ40 جنيها بسعر اليوم (الدولار الأميركي يعادل 17.7 جنيها مصريا)»، بعدها خصصت المحافظة للفرقة تذاكر للانتقال على نفقتها، وبات لكل واحد منهم مقعده الخاص.
يتفرغ عم كابوريا حاليا، لحفظ تراث السمسمية، من حيث الشكل والمضمون، بعدما قام بإنشاء جمعية أهلية لذلك، يطمح في تحويلها إلى بيت فني للسمسمية، على غرار بيت العود بالقاهرة، للفنان العراقي نصير شامة، لكن ينقصه الدعم من الهيئات الحكومية المهتمة بالثقافة.
أما ما يثير مخاوف الريس سيد، على مستقبل تراث السمسمية، فهو عدم انتقال المهنة إلى الجيل الثاني من أولاد مؤسسي فرقة الأرض الشهيرة، بنهجها الغنائي التراثي، بعدما خفت نجم آلته الأثيرة، ورحل جميع مؤسسي الفرقة، ليتحمل وحده أمانة النقل.
«سيد كابوريا» يحافظ على «السمسمية الأصلية» من الانقراض
قال لـ«الشرق الأوسط» إن أول أجر حصل عليه كان 40 قرشاً من محافظ السويس
«سيد كابوريا» يحافظ على «السمسمية الأصلية» من الانقراض
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة