توقعات عملات 2018: قبضة «الفيدرالي» على الدولار تضعف.. و«كبوة وقتية» لليورو

مخاطر هبوط الإسترليني لا تزال مرتفعة... واليوان في مفترق «القوة» أو «التجارة»

توقعات عملات 2018: قبضة «الفيدرالي» على الدولار تضعف.. و«كبوة وقتية» لليورو
TT

توقعات عملات 2018: قبضة «الفيدرالي» على الدولار تضعف.. و«كبوة وقتية» لليورو

توقعات عملات 2018: قبضة «الفيدرالي» على الدولار تضعف.. و«كبوة وقتية» لليورو

أنهت أسواق العملات عاماً آخر من عدم اليقين السياسي والانتعاش البطيء والتضخم الضعيف نوعاً ما، وتأثرت العملات الكبرى المعتادة بشكل كبير؛ لكن اليورو كان نجم العام الماضي بارتفاعات كبيرة مقابل الدولار، حيث بلغ مستويات قياسية في الشهور الأخيرة من العام، فضلاً عن استفادة العملات الآمنة «كالمعتاد»، مثل الفرنك السويسري، في حالات عدم اليقين السياسي.
لكن الصورة تغيرت كثيراً، مع انتخابات بلدان عدة في منطقة اليورو اتضح أنها إيجابية على أسواق العملات العالمية، وإغلاق الفصل الأول من المفاوضات البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي، والإصلاح الضريبي الأميركي، ورفع مستوى النمو من كلٍّ من «المركزي الأوروبي» و«الاحتياطي الفيدرالي» في آخر اجتماعتهما في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مما دفع المستثمرين إلى كثير من التفاؤل لاستهلال العام الجديد، كل هذا بالإضافة إلى توقعات بمعدلات نمو أعلى أظهرتها مؤشرات ثقة المستهلك والأعمال التي وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية منذ عقد من الزمن.
ورغم ذلك، يظل تسريع معدلات التضخم «الضعيف نسبياً» لمعظم الاقتصادات العالمية والسياسة النقدية المقبلة، من المؤثرات الرئيسية على العملات في 2018. وفيما يلي، تستعرض «الشرق الأوسط» أوضاع «الخمسة الكبار» بين العملات على مستوى العالم، وتوقعات الخبراء لها خلال العام الجاري.
استمر الأداء القوي للاقتصاد الأميركي في الفترة الأخيرة، وراجع «الاحتياطي الفيدرالي» توقعاته للناتج المحلي الإجمالي بشكل تصاعدي إلى 0.8 نقطة مئوية بحلول عام 2020. ومن المتوقع أن يصل إلى 0.4 نقطة مئوية في 2018. في الوقت نفسه فإن معدل البطالة يبلغ حالياً 4.1%، ويتوقع «الفيدرالي» أن يشهد المزيد من التراجع بنحو 3.9% بحلول نهاية العام الجاري في ظل ضغوط تضخمية ضعيفة، في حين حافظ «الفيدرالي» على توقعات التضخم الأساسية دون تغير ليصل إلى المستوى المستهدف 2% في 2019.
وفي الوقت الذي يبدى فيه «الفيدرالي» تفاؤلاً فيما يتعلق بحركة الاقتصاد الكلي المقبلة، إلا أن مجلسه قرر الإبقاء على توقعات السياسة العامة لمتوسط أسعار الفائدة دون تغيير خلال العامين القادمين، مما يعني 3 زيادات في أسعار الفائدة خلال 2018، وزيادتين خلال عام 2019. ومن شأن الانخفاض المتوقع في معدل البطالة في العامين 2018 و2019 أن يؤدي إلى زيادة الضغوط على الأجور والضغوط التضخمية، الأمر الذي سيتطلب تشديداً أقوى في السياسة النقدية؛ وفقاً لـ«قاعدة تايلور» الاقتصادية عام 1992.
وفي الوقت ذاته، اتخذ «الفيدرالي» موقف الانتظار والترقب من أجل الحصول على مزيد من الوضوح بشأن الآفاق الاقتصادية في المستقبل، وهو ما يبدو معقولاً، حتى يكون أقل حساسية لتنقيحات التوقعات الاقتصادية أكثر مما هو عليه في تنقيحات مستقبل السياسة النقدية.
ولا تزال الأسواق متشككة في توقعات «الفيدرالي»، حيث يتوقع المتعاملون والخبراء أن يصل معدل العائد على العقود الآجلة 1.9% العام الجاري، مقابل 2.1% تقديرات «الاحتياطي الفيدرالي»، بينما تصل إلى مستوى 2% بنهاية 2019. مقابل 2.7% توقعات «الفيدرالي».
وسيكون على الأسواق أن تكيف توقعاتها التي سوف تعزز من قوة الدولار والعوائد، في حين لا نستطيع أن نستبعد الضغوط على انخفاض الدولار خلال الربع الأول من 2018، حيث ستنتظر السوق المزيد من الوضوح السياسي للرئيس دونالد ترمب. وانخفض مؤشر الدولار بنحو 10% في عام 2017، وهو أكبر انخفاض سنوي منذ عام 2003 عندما انخفض بنحو 15%.
وأرجع مركز الأبحاث الاقتصادية والمالية «أي إن جي» انخفاض الدولار خلال 2017 لعدة أسباب، منها الآثار التي تبعت قانون الضرائب لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فضلاً عن السياسة الخارجية المتقلبة للإدارة الأميركية التي فتحت فرصاً استثمارية أفضل للذهب خارج الولايات المتحدة، وقال المركز إن هناك سببين رئيسيين لهبوط الدولار: الأول، أن الدولار يفقد دوره كعملة استثمارية، مفسراً ذلك بأنه خلال العام الماضي جرى «تداول الدولار بقواعد جديدة»، حيث لم تعد بيئة ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية تضمن قوة الدولار. والسبب الآخر هو زيادة التزامن عبر أسواق السندات العالمية التي شهدت انتعاشاً قوياً بالمقارنة بالعامين السابقين.
وأكد المركز في تقرير نُشر في مطلع العام الجديد أن سياسات «الفيدرالي» لن يكون لها التأثير الأكبر على الدولار خلال عام 2018، بل ستكون المحرك الأكبر في قوة العملة الانقسامات الداخلية حول القضايا الرئيسية ذات الصلة بالتوقعات الاقتصادية الأميركية على المدى الطويل، وسينال مجلس «الفيدرالي» نصيباً كبيراً مما يُدعى «الارتباك الفيدرالي»، وفقاً لمسمى المركز البحثي. وظهرت بدايات هذا الارتباك في آخر محضر لـ«الفيدرالي» هذا الشهر.
رفع «المركزي الأوروبي» من توقعاته للنمو في اجتماعه الأخير بشكل تصاعدي إلى 0.9 نقطة مئوية بحلول عام 2020، ومن المتوقع أن تصل إلى 0.5 نقطة مئوية في 2018. وعلى الرغم من أداء نمو قوي، لا تزال منطقة اليورو تتعامل مع ارتفاع نسبي في معدل البطالة البالغ 8.8% في المتوسط، وهو ما يتخطى مستويات قبل الأزمة بنحو 1.5 نقطة مئوية.
ويؤثر الركود على مؤشرات البطالة التكميلية (إعانات البطالة) بنحو 18% من القوة العاملة الموسعة لمنطقة اليورو، وهو ضعف معدل البطالة الرسمي. وفي ظل هذه الظروف، تظل الضغوط التضخمية ضعيفة، ومن المتوقع أن يبقى التضخم دون المستوى المستهدف عند 2% على المدى المتوسط.
وإلى جانب التضخم المنخفض، تشير المستويات المرتفعة من الدين العام في بعض بلدان منطقة اليورو إلى أن «المركزي الأوروبي» سيحجم عن زيادة معدل الفائدة في وقت مبكر من العام الجاري، خصوصاً في ظل أوضاع مقلقة بشكل خاص في اليونان، حيث وصل معدل الدين إلى 180.8% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، وإيطاليا بمعدل دين وصل إلى 132% من الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب مخاوف ما يسمى «تأثير كرة الثلج»، وهو (التأثير على نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالي التي يوفرها الفرق بين النمو الاسمي ومعدلات الفائدة الضمنية المدفوعة على الدين)، فإن زيادة أسعار الفائدة في الفترة المبكرة نسبياً من الانتعاش الاقتصادي ستكون عبئاً على ديون أكثر الاقتصادات ضعفاً، ويُحتمل أن تؤدي إلى أزمة ديون أخرى. ومع خفض «المركزي الأوروبي» من مشتريات السندات الشهرية من 60 مليار يورو إلى النصف اعتباراً من يناير (كانون الثاني) 2018، إلا أنه لا يزال يحتفظ بـ«الحق» في تمديد البرنامج إلى ما بعد سبتمبر (أيلول) 2018، ويحافظ «المركزي الأوروبي» على خطابه المتفائل والحَذِر، حيث يكرر التزامه بالحفاظ على أسعار الفائدة حول مستويات منخفضة حالياً. ومن المتوقع أن يتحفظ «المركزي الأوروبي» في رفع الفائدة خلال عام 2018، لتكون بداية الرفع بنهاية 2019، وبالتالي فإن اليورو سيكون مدعوماً بالأداء الكلي القوي وسياسات مواتية من «المركزي الأوروبي».
ومن المتوقع أن يفقد اليورو الزخم الصعودي لفترة وجيزة، لكن صعود زوج اليورو دولار عند 1.25 فهي «مسألة وقت» خلال الربع الأول من 2018، ويتداول اليورو مقابل الدولار عند 1.20 دولار لليورو الواحد.
وبدأ اليورو العام الجديد بارتفاع من حيث توقف العام الماضي، مدعوماً بمحفزات إيجابية أكثر من أي وقت مضى من نشاط اقتصادي مزدهر ونمو محتمل في منطقة اليورو، ويتوقع المركز البحثي المذكور سابقاً أن تدعم قرارات «المركزي الأوروبي» اليورو في المستقبل، محذراً من الارتفاع الحاد بعد 1.25 دولار لليورو والذي سيعد «عتبة الألم» لـ«المركزي الأوروبي»، وفقاً للمركز البحثي.
رفع بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) سعر الفائدة الرئيسي بنسبة 25 نقطة أساس، إلى 0.5%، في نوفمبر (تشرين الثاني)، من أجل إعادة سعر الفائدة إلى مستويات ما قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك لا يمكن القول إنها بداية دورة التشديد، فلا يزال «المركزي البريطاني» حذراً في توقعاته حول رفع الفائدة، حيث يتوقع أن ترتفع بمقدار 25 نقطة أساس فقط على مدار السنوات الثلاث المقبلة، مما سيؤدي إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 1% بحلول 2020. في الوقت نفسه، تمكنت بريطانيا والاتحاد الأوروبي من إتمام المرحلة الأولى من مفاوضات خروج بريطانيا، ومع ذلك لا يزال الطرفان بحاجة إلى الاتفاق على تفاصيل حول كيفية استمرار علاقاتهما الاقتصادية المستقبلية في 29 مارس (آذار) 2019 (يوم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي).
وبالتالي، فإن الاسترليني لم يستفد كثيراً من رفع الفائدة، أو الانتهاء بنجاح من المرحلة الأولى من المفاوضات، ولا تزال مخاطر هبوط الاسترليني مرتفعة.
غير أن تحركات أسعار الصرف المستقبلية ستعتمد على تدفق الأخبار فيما يتعلق بالمرحلة الثانية للمفاوضات، وبالتالي فإن زوج الاسترليني اليورو سيعتمد على مجرى المفاوضات، على غرار ضغوط أخرى لهبوط زوج الاسترليني دولار.
ومن المتوقع أن يصل الاسترليني إلى 1.40 دولار في الربع الأول من 2018، نظراً إلى تلاشي التشاؤم الاقتصادي في المملكة المتحدة، في حين سيكون المهيمن الأول على تحركات الاسترليني خلال العام الجديد هو التقدم في المرحلة الثانية من مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الوضوح اللاحق حول نموذج الاقتصاد الكلي الجديد للمملكة المتحدة. ويتداول زوج الاسترليني دولار حالياً عند مستوى 1.36، وسيحدد اتجاه الاسترليني على المدى القصير عاملان رئيسيان: أولهما السياسة المحلية في المملكة المتحدة، والآخر مسار سياسة بنك إنجلترا (المركزي البريطاني).
وبالنسبة إلى المسار الأول، أوضح «المركزي البحثي» أن «الحكومة المحافظة» ستكون عاملاً مقيداً للعملة، في حين لا يزال هناك نشاط لموجات البيع المرتفعة على الاسترليني والناتجة عن سياسات الحكومة الحالية. وبنهاية العام الماضي تحول المستثمرون عن المضاربات السريعة على العملة البريطانية، مما يوحي أن جاذبية بيع الاسترليني لصالح عملات أخرى تلاشت نسبياً مع بداية العام، لعدم وجود عامل يمكن أن يؤثر بشكل خطير على محادثات خروج بريطانيا ودفع المملكة المتحدة نحو حافة الجرف قبل مارس 2019.
كان أداء اليوان ضعيفاً في الآونة الأخيرة، ومن المتوقع أن يستمر ضعف اليوان، على الرغم من الإصلاحات السوقية التي يقوم بها الرئيس الصيني شي جينبينغ في سعر صرف النقد الأجنبي والنظام المالي في البلاد بهدف توسيع التبني العالمي لعملته المحلية.
وخلال الشهور الماضية، كثفت الصين من تحركاتها لإيجاد موطئ قدم لعملتها كبديل تجاري على مستوى العالم للدولار، وذلك من خلال اتفاقات ثنائية مع عدد من الدول أحدثها باكستان، خصوصاً مع تنامي النأي العالمي عن سياسات الحمائية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهجماته المتوالية على عدد من الاقتصادات الكبرى والصغرى بشأن موازين التجارة، وانتقاداته المتواصلة وانسحاباته من عدد من الاتفاقيات التي أبرمتها الولايات المتحدة في عهود سابقة... وكلها أمور إيجابية تستثمرها بكين من أجل الترويج لمكانتها كثاني أكبر اقتصاد في العالم، وجدارة عملتها بأن تكون بديلاً مقبولاً للتجارة العالمية.
ورغم أن تلك التحركات قد تفيد الاقتصاد الصيني على وجه العموم، فإنها ربما لا تصب في مصلحة قوة اليوان كعملة في مقابل سلة العملات، بل إن ضعف اليوان ربما يكون مشجعاً أكثر لاستخدامه في التجارة.
ومن المتوقع أن يبقى اليوان ضعيفاً خلال العام الجديد مع مواصلة الصين تخفيف القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي، الأمر الذي من شأنه أن يعوض ضغوط خروج رؤوس الأموال إلى الخارج.
ومن المتوقع أن يبلغ زوج الدولار اليوان مستوى 6.55 بنهاية الربع الأول من العام الجاري، فيما يتداول الزوج حالياً عند 6.48.
من المقرر أن يستمر العمل خلال العام الجاري ببرنامج «آبينوميكس» الذي طرحه رئيس الوزراء تشينزو آبي منذ ديسمبر 2012، من أجل إحداث تغيرات اقتصادية في المؤشرات الكلية، ومنها استهداف تضخم بنسبة 2% سنوياً، وتصحيح الارتفاع المفرط في سعر الين، وضبط سعر الفائدة السلبي، واستخدام سياسات التيسير الكمي للتوسع الاستثماري، وغيرها من السياسات التي تساعد على رفع معدلات النمو.
وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، حدثت تغيرات كبيرة في الاقتصاد الياباني على كل المؤشرات، لكن بالنسبة إلى العام الجديد لن تحدث تغيرات رئيسية في السياسة العامة خلال العام، ومن المقرر حالياً زيادة ضريبة القيمة المضافة من نسبة حالية تبلغ 8%، للوصول إلى مستوى 10% بحلول أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
ولا يزال هناك تباطؤ في نمو الضغوط التضخمية، فخلال العام الماضي وصل متوسط معدل التضخم «بالكاد» إلى 0.4%، في حين لا تزال توقعات التضخم طويل الأمد «قاتمة» على السوق. على العكس، يرى بنك اليابان (المركزي الياباني) أن التضخم يسير على الطريق الصحيح، وبالتالي يخطط للامتناع عن مزيد من التيسير.
ومع ذلك تُظهر توقعات البنك الحالية أن التضخم لن يرتفع إلى هدفه متوسط الأجل عند 2% قبل 2019، وفي ظل هذه الظروف، فمن المتوقع أن يحافظ «المركزي الياباني» على موقفه النقدي التوسعي للغاية في الوقت الحاضر.
ولا يزال «المركزي الياباني» يحافظ على توازن «منحنى المخاطر»، والمتأثر بعاملين هما: ارتفاع مستويات الديون، ودورة رفع سعر الفائدة الأميركية، وذلك من خلال الحفاظ على عائدات السندات العشرية بالقرب من الصفر من خلال برنامج التيسير الكمي.
وعلى هذا الأساس من المتوقع أن يستمر ضعف الين الياباني خلال العام الجديد، في ظل سياسة نقدية متوسعة من «المركزي الياباني» ومعدل التضخم القريب من الصفر، خصوصاً في مقارنة زوج الدولار الين تزامناً مع استمرار «الاحتياطي الفيدرالي» في وتيرة رفع الفائدة، لكن لا يمكن استبعاد ارتفاع الين في فترة تزايد المخاطر كونه أحد الملاذات الآمنة في فترات الأزمات. ومن المتوقع أن يرتفع زوج الدولار الين بنهاية يناير الجاري بنحو 0.6%، على أن ينخفض في فبراير (شباط) ليتغير بنسبة 0.3% إلى ثبات دون تغير عند 113.68 بنهاية الربع الأول من العام الجاري، ويتداول زوج الدولار الين حالياً عند 113.13.



الانتخاب الرئاسي... خطوة أولى لإنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية

الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)
الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)
TT

الانتخاب الرئاسي... خطوة أولى لإنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية

الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)
الكرسي الرئاسي الشاغر في «قصر بعبدا» بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون (رويترز)

منذ عام 2019، يشهد لبنان واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية والمالية في تاريخه الحديث... أزمة تجاوزت نطاق الاقتصاد لتؤثر بشكل حاد في جميع جوانب الحياة، فقد أثقلت هذه الأزمة كاهل المواطن اللبناني، وأغرقت البلاد في دوامة من انهيار شامل للنظامين المالي والاقتصادي، بعد أن فقدت العملة المحلية أكثر من 95 في المائة من قيمتها. ونتيجة لذلك، تفشى التضخم بشكل غير مسبوق مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات إلى مستويات قياسية، في حين قفزت معدلات الفقر والبطالة بشكل دراماتيكي.

وفي خضم هذا الواقع المأساوي، شلّت الصراعات السياسية الحادة مؤسسات الدولة، فقد تعمقت الانقسامات إلى حد أن الحكومة أصبحت عاجزة عن اتخاذ خطوات حاسمة لمعالجة الأزمة جذرياً. ومع تفاقم الأوضاع، أضافت الحرب الأخيرة مع إسرائيل عبئاً جديداً على لبنان، مخلّفة خسائر بشرية ومادية هائلة قدّرها «البنك الدولي» بنحو 8.5 مليار دولار، وزادت من تعقيد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فقد بات من الصعب تصور أي إمكانية لاحتواء أعبائها في غياب انتخاب رئيس للجمهورية.

المنصب الرئاسي والمأزق الاقتصادي

المنصب الرئاسي، الذي لا يزال شاغراً منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، يحمل للفائز به قائمة طويلة من التحديات الاقتصادية والمالية المتراكمة، التي باتت تهدد بنية الدولة وكيانها. فقد أدى غياب هذا المنصب إلى تعطيل عملية تشكيل الحكومة، مما جعل الدولة غير قادرة على التفاوض بجدية مع الجهات الدولية المانحة التي يحتاج إليها لبنان بقوة لإعادة إحياء اقتصاده، مثل «صندوق النقد الدولي» الذي يشترط إصلاحات اقتصادية ومالية جذرية مقابل أي دعم مالي يمكن أن يوفره.

وعليه؛ فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يمثل أولوية ملحة ليس فقط لاستعادة الثقة المحلية والدولية، بل أيضاً ليكون مدخلاً أساسياً لبدء مسار الإصلاحات التي طال انتظارها.

ومن بين أبرز هذه التحديات، ملف إعادة الإعمار، الذي تُقدر تكلفته بأكثر من 6 مليارات دولار، وفق موقع «الدولية للمعلومات»، وهو عبء مالي ضخم يتطلب موارد هائلة وجهوداً استثنائية لتأمين التمويل اللازم.

لكن عملية إعادة الإعمار ليست مجرد عملية تقنية لإصلاح البنية التحتية أو ترميم الأضرار، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الدولة على استعادة مكانتها وتفعيل دورها الإقليمي والدولي. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة إلى رئيس يتمتع برؤية استراتيجية وشبكة واسعة من العلاقات الدولية، وقادر على استخدام مفاتيح التواصل الفعّال مع الدول المانحة والمؤسسات المالية الكبرى. فمن دون قيادة سياسية موحدة تتمتع بالصدقية، فستبقى فرص استقطاب الدعم الخارجي محدودة، خصوصاً أن الثقة الدولية بالسلطات اللبنانية تعرضت لاهتزاز كبير في السنوات الأخيرة بسبب سوء الإدارة وغياب الإصلاحات الهيكلية.

مواطنون وسط جانب من الدمار الناجم عن الغارات الجوية الإسرائيلية بمنطقة الشويفات (رويترز)

فرصة محورية لإحداث التغيير

كما يأتي انتخاب رئيس للجمهورية يوم الخميس بوصفه فرصة محورية لإحداث تغيير في مسار الأزمات المتراكمة التي يعاني منها لبنان، والتي تفاقمت بشكل حاد خلال عام 2024؛ بسبب الصراعات المتصاعدة والأزمة الاقتصادية الممتدة.

ومع انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة -5.7 في المائة خلال الربع الرابع من 2024، انعكست التداعيات السلبية بوضوح على الاقتصاد، فقد تراجعت معدلات النمو بشكل كبير منذ عام 2019، ليصل الانخفاض التراكمي إلى أكثر من 38 في المائة عام 2024، مقارنة بـ34 في المائة خلال العام السابق عليه. وتزامن هذا التدهور مع تصعيد الصراع في الربع الأخير من 2024، مما أضاف آثاراً إنسانية مدمرة، مثل النزوح الجماعي والدمار واسع النطاق، وبالتالي أدى إلى خفض إضافي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 6.6 في المائة بحلول منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. وكان قطاع السياحة، الذي يمثل أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني، من بين الأشد تضرراً، فقد تراجعت عائداته لتتحول من فائض إلى عجز بنسبة -1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024.

منصب حاكم «المصرف المركزي»

كذلك يمثل هذا الحدث محطة مهمة لإصلاح المؤسسات اللبنانية، بما في ذلك معالجة الشغور في المناصب القيادية التي تُعد ركيزة أساسية لاستقرار البلاد. ومن بين هذه المناصب، حاكم «مصرف لبنان» الذي بقي شاغراً منذ انتهاء ولاية رياض سلامة في 31 يوليو (تموز) 2023، على الرغم من تعيين وسيم منصوري حاكماً بالإنابة. لذا، فإن تعيين خَلَفٍ أصيل لحاكم «المصرف المركزي» يُعدّ خطوة حاسمة لضمان استقرار النظامين المالي والنقدي، خصوصاً أن «مصرف لبنان» يشكل محوراً رئيسياً في استعادة الثقة بالنظامين المصرفي والمالي للبلاد.

مقر «مصرف لبنان المركزي» في بيروت (رويترز)

علاوة على ذلك، سيجد الرئيس الجديد نفسه أمام تحدي إصلاح «القطاع المصرفي» الذي يُعدّ جوهر الأزمة الاقتصادية. فملف المصارف والمودعين يتطلب رؤية شاملة لإعادة هيكلة القطاع بطريقة شفافة وعادلة، تُعيد ثقة المودعين وتوزع الخسائر بشكل منصف بين المصارف والحكومة والمودعين. ومع إدراج لبنان على «اللائحة الرمادية» وتخلفه عن سداد ديونه السيادية، تصبح هذه الإصلاحات ضرورية لاستعادة العلاقات بالمؤسسات المالية الدولية، واستقطاب التمويل اللازم، ومنع إدراج لبنان على «اللائحة السوداء». ناهيك بورشة إصلاح القطاع العام وترشيده وتفعيله، فتكلفة مرتَّبات القطاع العام مرتفعة جداً نسبةً إلى المعايير الدولية. فعلى مرّ السنين، شكّل مجموع رواتب وتعويضات القطاع العام لموظفي الخدمة الفعلية والمتقاعدين (وعددهم نحو 340 ألفاً) نحو 40 في المائة من إجمالي نفقات الموازنة، الأمر الذي شكّل عبئاً فادحاً على مالية الدولة والاقتصاد عموماً.

آمال اللبنانيين في قيادة جديدة

وسط هذه الأزمات المتشابكة، يعوّل اللبنانيون على انتخاب رئيس جديد للجمهورية لفتح نافذة أمل على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فمن المأمول أن يسعى الرئيس المقبل، بدعم من حكومة فاعلة، إلى إعادة بناء الثقة الدولية والمحلية، واستعادة الاستقرار السياسي، وهما شرطان أساسيان لوقف التدهور الاقتصادي وتحفيز النمو. فاستعادة قطاع السياحة؛ الرافعة الأساسية للاقتصاد اللبناني، على سبيل المثال، تتطلب تحسين الأوضاع الأمنية وتعزيز الثقة بلبنان بوصفه وجهة آمنة وجاذبة للاستثمارات. وهذه الأمور لن تتحقق إلا بوجود قيادة سياسية قادرة على تقديم رؤية استراتيجية واضحة لإعادة الإعمار وتحقيق الإصلاحات الضرورية. وبالنظر إلى العجز المستمر في الحساب الجاري والانخفاض الكبير في الناتج المحلي الإجمالي، يصبح نجاح الرئيس الجديد في معالجة هذه الملفات عاملاً حاسماً لإنقاذ لبنان من أزمته العميقة، وإعادة توجيه الاقتصاد نحو التعافي والنمو المستدام.