أوروبا تعيش قلق العائدين من «المهجر المتطرف»

مخاوف من تحول المقاتلين الأجانب إلى «خلايا نائمة»

مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)
مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)
TT

أوروبا تعيش قلق العائدين من «المهجر المتطرف»

مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)
مقاتل أجنبي في ولاية الرقة قبل اندحار التنظيم وهزيمته («الشرق الأوسط»)

يستحيل اجتثاث التنظيمات المتطرفة وإغفال ما تخلفه وراءها من مقاتلين شرسين يعودون إلى أوطانهم بلوثة أفكارهم وشراسة رغباتهم بإلغاء وتدمير الآخرين، إذ يستحيل أبناء جلدتهم أغراباً عنهم ينبغي القضاء عليهم. تحتّم هذه الإشكالية التوغّل في كيفية معالجة المقاتلين العائدين من «المهجر المتطرف»، إذا كان من سبيل لإعادة تأهيلهم.

إذ يختلف ذلك حسب الحالة النفسية للمقاتل ومدى تشبّعه بالأفكار المتطرفة، وقناعته بمبادئها، أضف إلى ذلك مبلغ مركزه في التنظيم؛ إذ من النادر أن يرضخ قيادي في التنظيم للأنظمة والقوانين الدولية، بل يفضّل الموت في سبيل قضيته التي سيخسر إن تركها كل صلاحياته وامتيازاته. يبقى على وجه العموم ملف المقاتلين الأجانب شائكاً صعب المعالجة، الأمر الذي حدا بعدد من الخبراء في مجال الأمن والإرهاب بأن يفضلوا إبادتهم والتخلص من فكرهم لدرء متاعبهم عن أوطانهم إن قرروا العودة إليها. ويتجلّى ذلك عبر تأكيد المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص بالتحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش بريت ماكغورك حرص التحالف على التخلص من مقاتلي «داعش» المتبقين في سوريا وقتلهم هناك.
منذ إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الانتهاء من تحرير «آخر معاقل» تنظيم داعش في العراق والتخلص من مناطق هيمنة التنظيم، تصاعد القلق الدولي حيال الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب ممن لاذوا بالفرار وتوجهوا ناحية الصحراء محملين بفكرهم المتطرف وعزمهم على نقل التخريب والدمار في أماكن أخرى.
وتتمحور الخطورة في المقاتلين الأجانب على وجه التحديد، خصوصاً أولئك العائدين إلى أوطانهم ممن يعزمون على الانصهار بالمجتمع كأشخاص أسوياء، إلا أنهم عبارة عن خلايا نائمة على استعداد للهجوم من جديد في حال تم استنهاضهم من خلال أعضاء آخرين للتنظيم، سواء كان ذلك عبر عمليات أحادية كـ«ذئاب منفردة»، أم من خلال أعمال مشتركة؛ فعدم وجود بيئة خصبة كمعقل للتنظيم حتّم نقل ساحة العراك الداعشي من مناطق الاضطراب السياسي إلى النواحي الآمنة من العالم، وتحويل السلطة التنظيمية لها من مناطقية شملت العراق وسوريا إلى سلطة إلكترونية تتواصل مع المتعاطفين والمنضمين للتنظيم عن بُعد بوسائل متنوعة تتغير حسب مدى تضييق خناق السلطات عليها، فعلى الرغم من القيود والرقابة المكثفة التي تمارسها السلطات الدولية إلكترونياً، فإن تصريحات المتطرفين والبث المرئي لهم والتوجيهات للمؤيدين لم تتلاشَ من الوجود.
وقد تصاعد في الدول الأوروبية على وجه التحديد قلق تغلغل المقاتلين لديهم، مما أثقل كاهل السلطات الأمنية لديهم، لا سيما مع تصاعد عدد اللاجئين والأقليات في تلك الدول، ممن يحمل قابلية الشعور بالتهميش والاختلاف عن الآخرين، مما يفضي لسهولة انقيادهم نحو التطرف، ومن ثم الانضمام لتنظيمات إرهابية، خصوصاً إذا ما قوبل بأعضاء داعشيين حملوا مجد خوض تجربة «الخلافة الداعشية» الغابرة، فيصبح خطاب الكراهية ومبادئ القتل والتخويف جاذبة، وفكرة دخولهم معسكرات تدريبية للقتال أو حتى مجرد المشاركة في ساحات المعارك وقتل الأبرياء مسببات لتعظيمهم والأخذ بتوجهاتهم.
بعيداً عن التنظير، فإن عدداً من الحيثيات تعكس جهود تنظيم داعش الحثيثة نحو استعادة مجده المنحسر من خلال تكثيف تخطيطه ونقل توجهاته التخريبية إلى القارّة الأوروبية، حسب تقرير صدر من مركز بحوث تسلح الصراعات، فإن ثلث أسلحة تنظيم داعش المكوّنة من بنادق آلية وقاذفات الذخائر صُنِعت في الاتحاد الأوروبي في عدة دول، مثل رومانيا والمجر وبلغاريا. وهو الأمر ذاته الذي حذر منه الخبير المختص بالإرهاب البروفسور بروس هوفمان، إذ نوه بأن آلاف المقاتلين الأجانب قد لاذوا بالفرار من مناطق الصراع، وعدد كبير منهم يقبع في دول البلقان في انتظار الفرص المناسبة للتغلغل في بقية الدول الأوروبية. ذلك التوجه الداعشي نحو المدن الأوروبية بعد خسارة معاقله لا يتأتى بسبب سعيه لإيجاد مناطق أخرى وطرق بديلة للتنظيم، بعد أن قام التحالف الدولي بتشريده من مناطق النزاع وقتل أعداد كبيرة من أعضائه فيها.
يأتي ذلك أيضاً سعياً في استغلال التركيبة الديموغرافية لأوروبا، المؤلفة من أقليات من الممكن استغلال أو إقناع البعض منهم بالانضمام. كما أن من الصعب تقصي واكتشاف الخلايا النائمة المتخفية داخل المجتمع، التي تم غرسها، فمن الصعب تمييزها عن الآخرين، خصوصاً أن هناك فعلياً عدداً من المقاتلين العائدين من ساحات القتال، وهم محملون بخيبة الأمل في تنظيم داعش، سواء نتيجة توغّله في العنف والسعي في إبادة الآخرين أو كونه مغايراً للشعارات الدينية أو الوطنية التي كان ينادي بها من أجل تحرير العراق أو سوريا على سبيل المثال، أو حتى على اعتبار أن معاقلهم بمثابة ملاذ للمتطرفين.
تلك الخيبة تزداد مع استيعاب حقيقة التنظيم واكتفائه بالعنف والقتل والتخريب وتغافل الشعارات التي استقطب بها الآخرين من قبل. مثل هذه الفئة الراغبة في الاندماج في المجتمع قابلة لإعادة التأهيل، وإن كان من الصعب تحديد نسبة هؤلاء المتطرفين «التائبين»، لا سيما لدى المختصين بالأمن ممن يفضلون القضاء على المشكلة من الأساس عبر التخلص من المقاتلين الأجانب.
يؤكّد الخبير المختص في قضايا الإرهاب ديفيد أوتو أن «(الجهاديين) لا يتركون (الجهاد) وراءهم فقط، لأن خلافتهم قد انهارت، ولا يمكن لمقاتليهم أن يختفوا عن الوجود، فهم يجدون من الضروري إيجاد محيط بديل لهم، حيث يكون من السهل لهم الانخراط مع الآخرين، كتوجه البريطانيين إلى تركيا والأفارقة إلى ليبيا وهكذا دواليك».
وهو في وصفه يشير إلى فئة المقاتلين ممن تترسخ في أعماقهم قناعة بمسببات القتال، أو أولئك الساعين نحو القتل والتخريب ممن يحملون مسببات نفسية للقيام بذلك، وقد تلقف فرصة وجود تنظيم يدعمه سواء لوجيستياً وتدريبياً أو حتى الاكتفاء بالمعنوي من أجل تحفيزه لارتكاب الهجمات الإرهابية. وقد تم استغلال الخلايا النائمة في أوروبا من أجل إثارة الرعب فيها عبر هجمات تتفاوت ما بين المتخبطة التي تماثل الجرائم الفردية من خلال الطعن أو الدهس مما لا يتطلب تخطيطاً شاقاً، مثل حادثة الدهس في جادة لا رامبلا السياحية في برشلونة، وحادثة الدهس الأخرى في مناسبة عيد الميلاد في برلين العام الماضي، وفي نيس في العام الذي يسبقه، وتلك التي قام فيها كوسوفي بارتكاب هجوم بواسطة فأس في محطة القطارات الرئيسية في دوسلدورف، وتهجّم رجل مسلح بسكين على متجر في هامبورغ، مما يشابه إلى حد كبير الجرائم العشوائية، وأخرى تنمّ عن تخطيط دقيق مثل حادثة محاولة اغتيال رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، وإن تمّ إحباطها، وقد تبيّن فيما بعد أن مرتكبي جميع تلك الحوادث لديهم ارتباط بتنظيم داعش، سواء كان مباشراً أم مجرد اكتفاء بالحصول على الدعم المعنوي. ولا بد أن حوادث الدهس والطعن العشوائية في أوروبا التي تكرّرت تعكس ضعف التنظيم وصعوبة مقدرته على التخطيط المحبوك لهجومٍ كبير، مع الاحترازات الأمنية المتشددة أخيراً، ويقابلها في الوقت ذاته سهولة استخدام عنصر المفاجأة والهجوم العشوائي في المناسبات التي يحتشد فيها الناس، إضافة إلى السهولة النسبية لتحريض الذئاب المنفردة، وهم غالباً عبارة عن شخوص معتلين نفسياً ينسبون المسببات الاجتماعية والدينية لحاجتهم إلى أن ينفذوا مثل هذه الهجمات الإرهابية السهلة، وإن تسبب ذلك بمقتله. وقد شنّت بالفعل حسابات نسبت لتنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الذئاب المنفردة على استهداف الأوروبيين والتخطيط لهجمات إرهابية بالأخص في مناسبات الأعياد الرسمية مثل عيد الميلاد ورأس السنة. بل إنه في إحدى الرسوم التي نشرتها هذه الحسابات ظهر شخص ملثم ممسكاً بلعبة على صورة «بابا نويل» في إشارة إلى استهداف هذه المناسبة وفي الوقت ذاته تحفيز الخلايا النائمة في أوروبا للتيقظ والبدء باستغلال أماكن اكتظاظ الناس من أجل تنفيذ هجمات تثير الرعب، من خلال قتل أكبر عدد ممكن من الضحايا.
وإن كان ذلك لا يمنع سعي تنظيم داعش إلى إيجاد الفرصة لارتكاب جرائم إرهابية كبيرة لا تكتفي بالاعتماد على الذئاب المنفردة، ويعزز من ذلك الاحتمال أعداد المقاتلين الأوروبيين العائدين إلى أوطانهم وغالبيتهم يحملون الجنسية الفرنسية والبريطانية والألمانية، ويقدّر عدد العائدين بنحو 1200. الأمر الذي رفع من حجم الحذر المتوخى من قبل السلطات الأمنية في أوروبا، وإيجاد الطرق المثلى للكشف عن المتطرفين لديهم. وقد تبنّت أجهزة الأمن الألمانية أخيرا نظاماً جديداً لتقييم المتطرفين أطلقت عليه اسم «رادار داعش»، وهو نتاج فريق عمل مكون من خبراء في مجالات الإرهاب والجريمة وأكاديميين مختصين في علم النفس والاجتماع. ويتجلى الكشف عن الإرهابيين من خلال وضع مفردات للكشف المبكر عنهم. وعلى الرغم من أن مثل هذه الاحترازات قد ترفع سقف الأمن في أوروبا، فإنها قد تفضي إلى التنميط بناء على العرق أو الدين، مما قد يؤجج من تصاعد الإسلاموفوبيا، وبالتالي التعامل مع كل شخص عربي أو مسلم على أنه إرهابي محتمل، في الوقت الذي تدفع الهجمات الإرهابية إلى زيادة الهوة بين الثقافات، والتقليل من فرص إعطاء المتطرفين خيار الاندماج مع مجتمعاتهم من خلال إعادة تأهيلهم. لا سيما أن المراقبة المستمرة والتشكيك في مدى تنصلهم من الفكر الإرهابي يقللان من فرص الدمج ومعاودة الحياة الطبيعية، بالأخص مع ظهور عدد من خبراء الأمن ممن يحمل صرامة في القرارات وتفضيل إبادة المقاتلين الأجانب في مناطق النزاع عن عودتهم لأوطانهم.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».