خطورة استعمال الدين في مجال السياسة

باحثون عرب يكتبون عن الدولة في التنظير العربي والإسلامي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT
20

خطورة استعمال الدين في مجال السياسة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

في كتابه الشهري الجديد بعنوان «الدولة في التنظير العربي والإسلامي: التأصيل والتحديات»، يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث، عدة دراسات لمجموعة من الباحثين والمختصين.
فتحت عنوان: «الأمة والدولة في الفكر المعاصر»، يبحث أستاذ الفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط الموريتانية عبد الله السيد ولد أباه، المحاولات الفكرية الأكثر رصانة وعمقاً في تناول مسألة «الدولة - الأمة»، من خلال تقديم وتقويم سبعة من أبرز المفكرين العرب هم: عبد الله العروي، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وبرهان غليون، ومحمد جابر الأنصاري، وعلي أومليل، ووجيه كوثراني.
ويشير ولد أباه إلى أن ما يجمع هذه الأسماء السبعة هو الانخراط المزدوج في العمل الفكري والسياسي، وتبني المنظور النقدي للفكر السياسي العربي في تلويناته الآيديولوجية المختلفة. ويبين أن هذه المقاربات المذكورة في تناولها لإشكالية الأمة والدولة في السياق العربي الحديث، وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع ثلاث ثنائيات بارزة هيمنت على الخطاب الآيديولوجي العربي: ثنائية الدولة القُطرية والدولة القومية، ثنائية الدولة التحديثية والدولة التقليدية، وثنائية الدولة التسلطية والدولة المدنية.
ويخلص الباحث في الوقوف عند هذه الثنائيات الثلاث التي شغلت سبعة من أهم المفكرين العرب في مقاربتهم لموضوع الدولة والأمة، إلى أن الإشكال الرئيسي الذي شغل الباحثين العرب في الاجتماع السياسي العربي المعاصر، هو علاقة الدولة الوطنية الحديثة ببناها المجتمعية العميقة في مستواها المحلي الضيق (مشكل التنوع القبلي والطائفي والديني والإثني) ومستواها القومي الأشمل (الأمة بمفهومها الثقافي والديني).
وفي هذا الكتاب يتناول الباحث السعودي في العلوم السياسية الدكتور توفيق السيف، في دراسته تطور فهم المجتمع الديني الشيعي لفكرة الدولة والمجال العام، لا سيما في ربع القرن الأخير، حيث شهدت هذه الفترة مراجعات عميقة لأبرز التعبيرات عن تلك الفكرة، أي نظرية «ولاية الفقيه».
يعرض السيف في البدء موجزاً لأبرز المنعطفات في فقه الشيعة السياسي، بغية إبراز بؤرة اهتمام المدرسة الفقهية، أي مصدر شرعية السلطة، فضلاً عن كشف محرك التحولات السابقة والحاضرة على حد سواء، أي اقتراب الفقهاء من السياسة.
كما تعرض الدراسة بإيجاز لآراء عالِم الدين محمد مهدي شمس الدين (1936 - 2001)، الذي قدم رؤية أكثر تطوراً من «ولاية الفقيه» في نسختها المعيارية.
الجزء الأخير من الدراسة مخصص لنقاش رؤية بديلة، تنطلق من مراجعة معمقة لا تقف عند مجادلة النظريات الفقهية، بل تذهب إلى مجادلة الأساس الفلسفي الذي قام عليه الفقه الإسلامي ككل. وهي تنفي قدسيته وثبات أحكامه. ومن هنا فإنها تقدم منظوراً جديداً لدور الدين في الحياة العامة وعلاقته بالدولة، يقترب كثيراً من المنظور الليبرالي، ويدعو دون مواربة إلى ديمقراطية تكفل مشاركة المسلمين، ليس فقط في صناعة السياسة، بل وأيضاً في إنتاج وصوغ الرؤية الدينية التي تناسب زمنهم. اختار الباحث كأنموذج، النظريات التي يطرحها المفكرون الإيرانيون الثلاثة: محمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان، وعبد الكريم سروش. أما الإشكالية الأساسية في الدراسة فهي ليست «كيف ينظر الشيعة إلى الدولة؟»، بل: كيف يريدونها أن تكون؟ ويخلص الباحث إلى أن فهم الشيعة للسلطة بدأ محدوداً في نطاق الإمامة. ثم انفتح قليلاً وانتقل جانبه المدرسي إلى الحقل الفقهي، حيث تلعب إلزامات وحاجات الواقع دوراً في تشكيل رؤية الفقيه. في مرحلة تالية مال المجتمع الشيعي إلى توحيد قيادته وتكثيفها في حملة العلم الديني، فتبلور مفهوم نيابة الفقيه للإمام، ثم ولايته العامة. أتاح وصول الفقهاء إلى السلطة الفرصة لاختبار كفاءة التراث الفقهي في الحياة الواقعية. لكن العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية، كشف عن غربة الفقه عن عصره. نتيجة لذلك، تبلور داخل المجتمع الديني تيار يدعو صراحة إلى طي صفحة الفقه والكلام القديم، وبناء منظومة فكر ديني جديدة كلياً، تتضمن - بين أمور أخرى - تصوراً مختلفاً عن الدولة العادلة ومعنى الدين ودوره في الحياة العامة.
من جهته، تساءل الباحث الجزائري حميد زناز، عن الأفكار والأطروحات التي كانت مهمة في الفكر السياسي الخلدوني وما تبقى منها، وهل يمكن أن تفيدنا في فهم طبيعة السلطة في مجتمعاتنا العربية في بداية هذا القرن الحادي والعشرين. بكلمة أخرى: هل نظرية ابن خلدون قادرة على الاندماج في راهننا، بحيث نستطيع أن نجعلها تسهم في فهم ثم حل مشكلة الحكم في بلداننا، وبناء الدولة الحديثة، وعلى الخصوص تجاوز إشكالية علاقة الدين بالسياسة؟ كان يرى ابن خلدون أنه يمكن أن يكون للدين - بصفة عامة - أثر كبير في تكوين السلطة، وعلى الخصوص في طور الاستيلاء عليها، ولكن بشرط أن يأتي لتقوية العصبية. وقد لعب الإسلام بهذا المعنى في ظروف ومراحل تاريخية كثيرة دوراً مهماً في توحيد الناس اجتماعياً وسياسياً. ولكن هل يستطيع أن يلعب دوراً سياسياً حاسماً في أيامنا؟ ذلك هو السؤال الأهم. من البديهي القول: إن مجتمعاتنا العربية الحالية أكثر تعقيداً بمئات المرات من ذلك المجتمع القديم الذي عاش فيه عبد الرحمن بن خلدون، ومن هنا يصبح استعمال الدين في مجال السياسة أمراً قد يكون خطيراً؛ إذ يمكن أن يؤدي إلى التطرف والتعصب والعنف، كما حدث بالأمس القريب وكما يحدث اليوم. وهو ما يحجب الشواغل السياسية الحقيقية التي تعيشها المجتمعات العربية، كالانتقال إلى مرحلة المواطنة وتكوين وعي مواطني حقيقي يطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية ودولة القانون.


مقالات ذات صلة

المسكونون بشغف الأسئلة

كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
ثقافة وفنون «ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

«ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

حين يقرر الإنسان السفر، تراوده مشاعر القلق والترقب، لكنه يجد في التجربة مغامرةً وتجديداً

حمدي العطار (بغداد)
كتب تشارلي إنجلش

الكتب مهّدت لانتصار الغرب الحاسم في الحرب الباردة

يبدو اسم كتاب صحافي «الغارديان» البريطانية تشارلي إنجلش الأحدث «نادي الكتاب في وكالة المخابرات المركزية» أقرب لعنوان رواية جاسوسيّة منه لكتاب تاريخ

ندى حطيط

المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش
TT
20

المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها في غير سيرته الذاتية، وهذه التفاصيل أبعدُ من محض حياته العاطفية أو علاقاته مع الجنس الآخر أو مغامراته أو طيشه أو عنفوانه أو حتى جنونه.

أحْدَثُ كتابٍ في السيرة الذاتية قرأتُهُ كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل الذي يُنسبُ إليه ابتداعُ مفاهيم الليبرالية والحرية والنظم السياسية الحديثة، كما عضّد مفهوم المنفعة الذي ابتدعه جيريمي بنثام. هذه كلها ثورات هائلة في التفكير البشري، لكنّ المثير في السيرة الذاتية هو الإسهاب في عرض تفاصيل مسيرته التعليمية، وتلك خصيصة يتشارك بها معه كلّ من كتبوا سِيَرَهم الذاتية وهم أعلامٌ فلسفية أو علمية أو تقنية. ثمّة الكثيرُ من الخواص المشتركة بين هؤلاء، منها مثلاً: أنهم ذاتيو التعليم Self-Educated، والكثير منهم لم ينالوا تعليماً مدرسياً تقليدياً على الشاكلة التي نعرف، كما أنّهم نشأوا في بيئات أسرية تعلي شأن الانضباط والصرامة والجدية المفرطة والحساسية تجاه الزمن إلى الحدّ الذي جعل هؤلاء في أعمارهم المتقدّمة يرون أنّهم لم يعيشوا أطوار طفولتهم الأولى بطريقة طبيعية. هل ندموا على تلك الطفولة؟ ربما. يجب ألا ننسى أنّ كلّ شيء بثمن، وليس مِنْ منحة مجانية في هذه الحياة. هل كانوا سيصبحون سعداء لو عاشوا في كنف عائلات أقلّ انضباطاً؟ ربما. نحن في النهاية نميل لتقدير الحياة التي لم نَعِشْها أكثر من تلك التي عشناها، وتلك حكاية أخرى غير حكايتنا هذه.

غلاف «نسيج الواقع»
غلاف «نسيج الواقع»

تخبرُنا السير الذاتية لتلك الأسماء الذائعة أنّها تشاركت هوساً غير طبيعي في التفكّر بالأسئلة الوجودية الأولى، وأنّها سعت إلى بلوغ إجابات لها عن طريق التفكّر الذاتي وليس كجعبة معرفية جاهزة مثلما تفعل المدارس والجامعات. أولى تلك الأسئلة هي أسئلة البدايات: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأ الوعي؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه الأسئلة تستمرّ مع الحياة، ويعمل المرء المتفكّر حثيثاً لتعديلها تبعاً للمستحدثات المعرفية التي تحصل في حياته، لكنّه لن يقبل أبداً بالمعرفة الجاهزة. إنّه كمن يسعى للتنقيب في الأعماق سعياً لبلوغ نمط تفكير واضعي النظريات أو مبتدعي الفرضيات أو راسمي المقاربات التطوّرية. يبدو المرء من هؤلاء وكأنّه يتشارك تجربة من يقرأ له ولا يكتفي بالإمساك بالإجابات الناجزة.

في الفلسفة مثلاً يشرع المرء من هؤلاء منذ بواكير طفولته الأولى يتساءل: كيف لي أن أتيقّن من أنّ ما أراه أمامي وأحسّه بأعضاء حسّي هو ذاته ما يراه ويحسّه سواي من الذين يختبرون ذات الظروف التي أخضع لها؟ هذا التفكّر بشأن معضلة اليقين الوجودي هو بوّابة الولوج إلى التفكّر الفلسفي الحقيقي، ومن البديهي أنّ من يقرأ المصنّفات الفلسفية ابتداءً من أفلاطون وأرسطو وسائر الفلاسفة وهو مهجوس بهذا النمط من الأسئلة هو كائن يختلف جوهرياً عمّن يبتغي المعرفة المجرّدة. إنّه فرق جوهري بلا شك أن تكتفي بمعرفة التواريخ والشخوص والأمكنة والأزمنة. رجلٌ على شاكلة جون ستيوارت مل لن يقبل بهذا الدور غير الفعّال. يريد أن يكون جزءاً فاعلاً في صناعة تاريخه المعرفي.

خذ معضلة الوعي. هي الأخرى معضلة شديدة التعقيد لا تنفع معها مقاربةُ القراءة غير المهجوسة بدافعية الأسئلة الأولى. تبدأ معضلة الوعي بالاختمار في العقل الشغوف عندما يتساءل: من أين ينشأ الوعي؟ من الدماغ. وما هو الدماغ؟ أليس كتلة عضوية تتكوّن من الكاربون والفسفور و...؟ ما الذي يدعو تشكيلاً عضوياً متشكّلاً من ذرّات مشخّصة إلى امتلاك خاصية الوعي؟ عندما سيقرأ من يفكّرُ بمثل هذه الأسئلة لاحقاً في كتابات فلاسفة العقل والباحثين في العلوم العصبية ستكون قراءته مدفوعة ومحفّزة بشغف أسئلة الطفولة الأولى والأطوار الزمنية اللاحقة لها وليست محض واجب أكاديمي أو قراءة عابرة أو استزادة للخزين المعرفي.

ليست الأسئلة الأولى قرينة - بالضرورة - بالطفولة، بل هي في الغالب خصيصة عقلية ونفسية تتقدّم وتتطوّر مع ارتقاء صاحبها معرفياً وخبرةً في المعيش اليومي، كما أنّها لا تقتصر على أسئلة البدايات كما يحصل مع الطفولة. مسألة الدولار الأميركي مثلاً تصلح مثالاً ممتازاً. هل تساءلت يوماً: لماذا صار الدولار الأميركي عملة عالمية عقب اتفاقية (بريتون وودز) بعد الحرب العالمية الثانية؟ أو كيف نشأت فكرة النقود والعناصر المرتبطة بها من بنوك وقروض وتأمين ممّا يُشكّلُ التاريخ المالي للعالم؟ أؤكّدُ أنّ مَنْ يشرعُ في دراسة الاقتصاد بادئاً بأسئلة من هذا النوع سيتحصّلُ على معرفة بآليات عمل الاقتصاد العالمي أفضل بكثير ممّن يكتفي بقراءة الكلاسيكيات الاقتصادية العالمية. من يكتفي بهذه الكلاسيكيات ستجابهه معضلاتٌ سيعجز عن تفسيرها أو تسويغها بالرجوع إلى خزين قراءاته.

الأمثلة في العلم الحديث كثيرة، غير أنّني سأختارُ مثالاً متفرّداً هو ديفيد دويتش David Deutsch. يعرفُ عن هذا الفيزيائي الأكسفوردي أنّه من أوائل من تفكّروا في موضوع الحوسبة الكمومية Quantum Computing ووضع خوارزميات صالحة لها. يبدو الأمر عادياً؛ إذ إنّ كثيراً من العلماء والمهندسين يعملون اليوم في حقل الحوسبة الكمومية لكونها قرينة الذكاء الاصطناعي لجهة ثوريتها المفاهيمية ومفاعيلها التطبيقية. الأمر سيختلف تماماً لو قرأنا كتابيْن نشرهما دويتش: الأوّل عنوانه «نسيج الواقع» والثاني عنوانه «بداية اللانهاية»، والكتابان مترجمان إلى العربية. يرى دويتش أبعد من مشهد المفاهيم والتطبيقات المجرّدة. هو يطمحُ لبلوغ نظرية كلّ شيء في المعرفة، وكتب كثيراً كيف أنّ طموحه الخارق هذا ظلّ مدفوعاً بشغف الأسئلة الأولى التي تشكّلت في طفولته وشبابه. في كتابه الأوّل «نسيج الواقع» - الذي ارتأى المترجم العربي عبارة «نسيج الحقيقة» عنواناً له - يطمح دويتش إلى تأسيس نظرية في المعرفة تقوم على أربعة أعمدة: تفسير العوالم المتعدّدة المستمدّة من نظرية الكم، نظرية كارل بوبر في المعرفة، النظرية الاحتسابية الخاصة بِآلان تورنغ، نظرية التطوّر الدارويني الحديثة. في كتابه الثاني «بداية اللانهاية»، يتناولُ دويتش موضوع التنوير Enlightenment ابتداءً من القرن الثامن عشر، ويعلنُ عن رؤية مبشّرة بقرب بداية تفاعل تسلسلي لا نهائي محتمل من المعرفة الخلاقة. الكتاب بأكمله ذو نكهة فلسفية رائعة ويسعى لمقاربة سؤال جوهري: كيف ولماذا تطوّر الإبداع في البشر؟ أهمّ ما نتعلّمه من دويتش ونظرائه هو: الجرأة الفكرية في مقاربة الموضوعات وعدم الركون إلى المواضعات الجاهزة أو الشعور بالتثاقل من وعورة المسعى الفكري غير المطروق من قبلُ، أمّا الدرس الثاني فهو أنّ القيمة الفلسفية للموضوعات المطروقة تبدو نتاجاً لسنوات طويلة من التفكّر الذي بدأ منذ سنوات الطفولة الأولى ولم يكن محض تطوّر تقني أو رغبة في الارتقاء الأكاديمي.

معظمُ البشر لا يريدون إقلاق عقولهم بشيطان الأسئلة الجوهرية أو المسكوت عنها سواء كان هذا في بواكير حياتهم أو في أطوارها اللاحقة. هم يريدون معرفةً على قدر ما يخدمهم ويوفّرُ لهم عملاً يعتاشون منه ويقضون بقية حياتهم في سكينة الهدوء ومنطقة الراحة Comfort Zone. ليس على هؤلاء مثلبة؛ فَهُمْ يعيشون بالكيفية التي يرتاحون لها. في مقابلهم هناك من لا يستطيع العيش سوى بإدامة التفكّر الحثيث في أسئلة تلحّ عليه بشأن موضوعات جوهرية وجودية أزلية أو مستجدّة. إنّها مسألة تكوين ذهني وأنماط نفسية تختلف كثيراً بين البشر.

أفكّرُ أحياناً لو أنّ بشراً من طراز جون ستيوارت مل وُجِدوا في عصرنا هذا حيث التفجّر المعلوماتي والبيانات الكبيرة ووسائل المعرفة متاحةٌ مجاناً لمن يشاء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ هل كان شغفهم سيتعاظم بطريقة لا نهائية أم كان سيخفت لأنّ ما يصبح سهل المنال يفقدُ خاصية الجذب السحرية الكامنة في كلّ أمر نادر وغير متاح بالمجان. لستُ أعرف على وجه الدقّة جواباً لهذا السؤال؛ لكنّ أمراً واحداً أجدُني متيقّنة غاية التيقُّن منه: الأسئلة الذاتية المستديمة تقود إلى معرفة جوهرية حقيقية متى ما تابعها سائلُها ولم يكتفِ بالوقوع في فخّ المعرفة (أو الإجابات) الجاهزة.