متحف رومانسي في قلب روما

في غرفة الشاعر الإنجليزي جون كيتس

جون كيتس  -  غرفة كيتس في روما حيث مات
جون كيتس - غرفة كيتس في روما حيث مات
TT

متحف رومانسي في قلب روما

جون كيتس  -  غرفة كيتس في روما حيث مات
جون كيتس - غرفة كيتس في روما حيث مات

لقد كُتب الكثير من البحوث والمقالات عن الشاعر النخبوي الإنجليزي الغنائي (جون كيتس 1795 - 1821) الذي يعد من أكثر الشعراء رومانسية في تاريخ الشعر الإنجليزي إلى الدرجة التي قتلته فيها تلك الرومانسية الرقيقة العذبة وهو شاب لا يتجاوز من العمر 26 عاماً.
حياته القصيرة بقيت محاطة بنوع من السرية، حيث لم يتسنَّ لأحد من المؤرخين والكتاب تناول أحداثها، خصوصاً تلك الفترة القصيرة الثرية التي عاشها في مدينة روما التاريخية والتي أحبها وبها نضجت أفكاره ووثقت خطواته الشعرية.
ويبدو أن العديد من النقاد الذين تجاهلوا هذا الشاعر، الذي يعد الأكثر عاطفية بعد وليم شكسبير، قد ساهموا، بهذه الدرجة أو تلك، في موته التراجيدي.
زيارة إلى بيته الصغير الذي تحول خلال السنوات الأخيرة إلى متحف، وعاش به الشاعر فترة قصيرة امتدت إلى 3 أشهر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1820 إلى فبراير (شباط) 1821، وذلك على ضوء إلحاح طبيبه الإنجليزي الخاص الذي كان يسكن هو الآخر قريباً من ساحة «إسبانيا» التي تقع في قلب العاصمة الإيطالية روما، ذات المدرجات التي تنتهي بالأسفل بنافورة المياه التي يطلق عليها اسم «لابركاجا» التي نحتها النحات الإيطالي الشهير بيترو برنيني على شكل سفينة رومانية قديمة عام 1627 بطلب من البابا أوريانو الثامن. والبيت هو شقة في الطابق الثاني تطل بشبابيكها الواسعة على الساحة ومدرجاتها الشهيرة.
يزور هذا البيت (المتحف) الصغير الذي تحول إلى سيرة ذاتية لهذا الشاعر الشاب، عدة آلاف من السياح الذين يأتون من كل أنحاء العالم، لينتظموا بشكل جماعات صغيرة لرؤية غرفة نوم الشاعر وحاجياته وكتبه ومقتنياته ولوحاته ورسائله، التي ظلت في أماكنها كما أرادها الشاعر.
قصة المتحف الصغير هذا الذي تديره إحدى المؤسسات الإنجليزية المتخصصة في المحافظة على التراث الثقافي، تتلخص بلقاء عدد من كبار الشعراء الإنجليز والأميركان جمعتهم إحدى المناسبات عام 1904 فى مدينة روما، ليقرروا ضرورة امتلاك بيت الشاعر كيتس في روما، فسارعوا لتقديم طلب إلى المؤسسات الحكومية الإنجليزية المعنية، يطالبونها بتحويل البيت الصغير إلى متحف (يكون شاهداً تاريخياً لذلك النبع من الثراء والفتوة الشعرية التي أضاءت الوجود الإنساني). وبالفعل استجابت المؤسسات المعنية واشترت الشقة الصغيرة التي ظلت مغلقة لسنوات طويلة، وفي عام 1909 حملت الواجهة الأمامية العليا من باب البناية لوحاً مرمرياً أبيض كبيراً يشير إلى بيت الشاعر وتاريخ مكوثه فيه، كما هي العادة المتبعة في العديد من المدن الإيطالية التي تخلِّد ذكرى مَن مرّوا وعاشوا وماتوا فيها من كبار الشعراء والكتاب والسياسيين.
البيت (المتحف) هو الآن عبارة عن محفل ثقافي نادر، يقدم للزائر العديد من الجوانب الخفية في حياته القصيرة والتي حال المرض دون إكمال عطاءاتها الشعرية المتميزة، فقد مات بمرض عضال ودُفن في إحدى المقابر التي تجمعه وعدداً كبيراً من الشعراء والمثقفين والفلاسفة الأجانب الذين وافتهم المنية وهم في روما. ويحمل قبره القريب من قبر المفكر الإيطالي الكبير «غرامشي» شاهداً يحمل اسمه كواحد من الشعراء الأجانب الذين أحبوا هذه المدينة العريقة.
الصعود إلى البيت (المتحف) يجعل المرء يمتلك مشاعر مختلطة ما بين الحزن والفرح، عن الشاعر الشاب الوسيم المحتشم بحياته الغامضة، الذي انزوى في هذا البيت، وهو كما يصفه العديد من الرسائل التي كتبها، يحمل خجلاً إنجليزياً كبيراً، تختلط فيه مشاعر الانتظار والاقتراب من الموت القادم.
«أرجو ألا يتملك الخوف أحداً»... بهذه العبارة الشعرية، لفظ آخر أنفاسه أمام صديقه الحميم الرسام جوزيف سيفيرين، الذي رسم صورة شخصية زيتية له (بورتريه) تتصدر الصالة الصغيرة التي ازدحمت بالكتب والصور، وبعدد آخر من البورتريهات والتخطيطات التي رسمها الشاعر كيتس نفسه لأخته (فاني) ولصديقه الحميم (توم) وقريبه (جون)، وهناك لوحة رسمها لإحدى الجِرار الإغريقية القديمة بعد إحدى الزيارات التي قام بها لمتحف الفاتيكان التاريخي. لقد كان عالمه يمتزج فيه الفن والشعر وكل ما له صلة بالإحساس العميق والرؤية الطفولية الرائعة التي حصل عليها مباشرة من واقع الحياة والأدب والفنون التي تزدحم بها كل زاوية من زوايا مدينة روما التي أحبها من كل قلبه.
أما رسائله فهي وثائق تاريخية تشهد على إحساس مرهف، يعكسه أسلوب اختياره لكلماته الأنيقة الشاعرية التي يخاطب بها الآخرين، فهو كان على ما يبدو في بحث دائم لإدراك الأحاسيس الداخلية لحياة الكلمة الشعرية، ليتمكن من ترجمة انفعالاته والتوترات النفسية التي كان يعاني منها بسبب مرضه، فهو يذكر في إحدى رسائله المعروضة «كيف يمكنني أن اقتدي بالريح فهي لا تنطلق».
يتساءل في رسالة أخرى عن الشاعر الذي في داخله وهو يرتقب الموت «أين الشاعر؟ هل لكم أن تستعرضوه لي... يا لوحي القصيدة... أنا أعرفه...».
في رسالة له إلى فاني بروان يفصح عن محبته الكبيرة لها، فيقول: «في هذه اللحظات أحاول تذكر أبيات شعر لكن دون جدوى، عليّ أن أكتب لكِ سطراً أو اثنين لأحاول إنْ كان ممكناً إقصاءك من ذهني، لكني في أعماق روحي لا أستطيع أن أفكر بأي شيء آخر. انتهى الوقت الذي كان فيه من القوة الكافية التي تمكنني من نصحك وتحذيرك من الصباح الخالي من الوعود في حياتي، فحبي جعلني ذاتياً، أنا لا أستطيع أن أوجَد من دونك، أنا مهمِل لكل شيء عدا رؤيتك. يبدو أن حياتي تقف عند ذلك، أنا لا أستطيع أن أرى أبعد من ذلك. أنتِ تشربيني، لديَّ أحاسيس كأنني في طور الذوبان، سأكون في غاية البؤس من دون الأمل في رؤيتك قريباً. سأكون شديد الخوف إذا فصلت نفسي بعيداً عنكِ. هل قلبكِ لن يتغير أبداً؟ بالنسبة إليَّ ليس هناك أي حدود لحبي لكِ، وإلى الأبد».
إن سيرة حياته التي تطالعنا فيها بعض رسائله، تُشعر المرء كأنه يلتهم رواية شيّقة، ففي هذه المختارات من الرسائل المعلقة والمحفوظة في صناديق زجاجية أنيقة تصطف جنبا إلى جنب العديد من حاجياته ومقتنياته الرومانية، نلمس بوضوح أنه يعكس اهتماماً وتنوعاً ثقافياً فائقاً، فهو يجيد دوره كصديق للعديد من الشعراء الإنجليز والإيطاليين ببراعة، حتى يبدو الأمر كأنه موقف نادر في الحياة من خلال مداخلاته والحلول التي يطرحها لعدد من المشكلات، مقارنةً بصغر سنه وصغر تجربته. لقد كان وجوده في روما يتمثل في البحث عن الموقف الأمثل والجديد في حياة الإنسان، فهو يحب معرف كل شيء، يقول: «أرغب في تشكيل أشياء تساهم في صناعة شرف الإنسان»، وهذا المقطع من إحدى رسائله يكشف عن التصاق حميمي بالحياة ومحبة كبيرة للإنسان، كما أنه موقف يحمل إشراقات من الإيمان بالغد، ظلت تسطع حتى النهاية في دياجير نفسه الملتاعة بالمرض.
لقد كانت روما بالنسبة إليه نقطة البداية القلقة التي تبحث عن يقين، ورأى في إقامته بروما (حياة ما بعد الموت)، فراح يشارك مع زملاء وأصدقاء شعراء ورسامين مثل الشاعر الكبير شيللي، الذي لازمه لفترة طويلة، وكذلك الشاعر اللورد بايرون، في التمرد على الواقع السائد آنذاك ورفض قيمه، والبحث عن رؤية جديدة للعالم والإنسان، وكانت روما هي المحطة التي كانت مهيأة للانطلاق نحو مثل هذا التمرد العاطفي، بعدما كان يعتقد أن موهبته الشعرية تنطفئ وأن النقاد لم يرحموه لأسباب سياسية، وقد شكا لأحد أصدقائه أنه لن يترك عملاً خالداً يثير فخر أصدقائه عند رحيله «أحببت الجمال في كل شيء ولو أُعطيت الوقت لتركت ذكرى بالتأكيد».
كان طفلاً صغيراً عندما توفي والده ثم والدته بمرض التدرن الرئوي الذي حصد شقيقه أيضاً، وذات مساء عاد إلى منزله في عربة مكشوفة إلا أنه حال وصوله إلى البيت بدأ بالسعال، أحسّ بقطرات من الدم على مخدته، فقال لصديقه: «هذه القطرات إنذار بموتي... سأرحل»، وفي طريقه للاستشفاء في إيطاليا حاول الانتحار، وفكر بحبيبته التي أوجعته رغبته فيها «ليتني امتلكتها عندما كنت معافى، ما كنت سأمرض عندها».
(اتركوا الشبابيك مفتوحة
لشمس روما الجميلة
ها أنتم ترون الموقع
الذي مات فيه أدونيس
لم تتغير أشياء كثيرة)
إنه لا يحسن الصمت حين يشعر برغبة الكلام، ذلك أن معظم رسائله يمكن أن تؤدي غرضها بنصف ما استوعبه الكلام، فهو يطلق شهوته للكتابة، فتشغل العبارات الوصفية حيزاً كبيراً في كل مفردة يختارها.
ومع أنه لم يكتب خلال فترة بقائه في بيته الصغير بروما إلا قصائد قليلة أبرزها «أيها البيت الملّون بلون البرتقال في قلب المدينة»، إلا أنه كتب رسائل كثيرة اعتبرها النقاد من قمم النثر الإنجليزي، وكان العديد من رسائله معنونة إلى صديقه جارلس بروان، وفي مقطع من إحدى تلك الرسائل يقول «أتذكر كل الأصدقاء... أرجوك أن تكتب إلى جورج حال وصول رسالتي هذه إليك لتخبره عن حالتي، ولا تبخل بسطرين آخرين لأختي العزيزة (فانى) فأنا لا أستطيع القول وداعاً حتى على الورقة، لكنك تعلم أن حياتي كانت مليئة بالارتباك والحيرة...».
وإذا كانت التجربة الحياتية تقود أحياناً إلى مغامرة فنية، كذلك يمكن أن تقود التجربة الفنية أحياناً أخرى إلى خلق تجارب فكرية متميزة، وقد انعكس هذا الوضع على الشاعر كيتس الذي كان يشعر باقتراب موته، والذي رأى فيه «اقتراباً من الحقيقة»، حيث دخل حنينه إلى الموت للحد الذي كان ينتظره ويدعوه بشيء من اليأس في المرتفع الشامخ، حيث ترقد مملكة الموت.
(في فناءات الحزن
وسط الدمار الصامت
أستأتي أيها الموت...؟)
إنه يُشعر القارئ كأن الموت يجري في دمه، فالفتوة شاخت، والمحارب الشاب قد استسلم، وبقي في الانتظار، يداعب الموت بالشِّعر ويستثيره بالكلمات، وقد طلب أن يُكتب على قبره «هنا يرقد شخص كتب اسمه بالماء».
الشرفة الصغيرة التي تنفتح على غرفته الصغيرة، ما زالت، وكما أرادها الشاعر، مليئة بالأزهار، إذ تصطف على جوانبها المزهريات التي تحمل أجمل أنواع الزهور، فهي تستعيد الذكرى وتلتقي الحقيقة، لتحقق توازناً عاطفياً وجمالياً لشاعر كان قلبه كالسيل المتدفق الهادر.
إن الجمال الكامن في هذا المكان، يدعو كل شيء فيه إلى التماثل والتوازن، ويعطي الانطباع السريع بالمهابة، فسلالم الساحة التي ترتفع وسط مدرجاتها الرخامية البيضاء التي يفيض بها المكان، وصوت المياه في السفينة الرومانية وسط الساحة من الأسفل، التي نحتت لتكون ذكرى لسفينة رومانية رست في نفس المكان بعد أن فاض نهر التيفر عام 1598، وشبابيك غرفة الشاعر، تبدو كأنها تحكى مأساة رومانسية لجنة الصبا التي ضاعت، فكل شيء هنا يناجي ذكراه، وهو الذي قال مرة وهو يمجد الحضور الإنساني:
(عندما أكون في غرفتي
فهناك يكون الناس معي...)
ما زالت الرغبة كبيرة في الاستشهاد بأي مقطع من رسائل وكتابات وقصائد هذا الشاعر، فهي تثير لدى المرء غريزة البحث من جديد في تفاصيل زاخرة وغنية لشاعر مبدع وإنسان كان يسعى لأن يعيش طويلاً. لكن هل سيثير اسم «جون كيتس» الأثر ذاته الذي كان يثيره عند الأوروبيين آنذاك عندما يتفحصون رسائله وقصائده التي كتبها في روما وعن روما؟ في تقديرنا أن كتابات كيتس كانت تعني طريقة في الحياة والكتابة مميزة ومثيرة ومجددة، إذ لم يشأ كيتس أن يفصل بين الفن والحياة كما كان متبعاً عند الكثير من أقرانه أو ممن سبقوه أو مثلما كانت وما زالت ترغب فيه المؤسسة الثقافية سواء في بلده أو في باقي بلدان أوروبا، فآثاره ما زالت إلى اليوم تثير الكثير من الأسئلة والحيرة. لقد كان شاعراً فذاً.
مَن، مِن الرجال، يستطيع القول
بأن الأزهار سوف تزهر
أو تلك الفاكهة الخضراء
ستمتلئ حتى تتحول
إلى لباب ذائب
وأن تلك السمكة،
ستصير عظاماً بارزة،
وأن للأرض حصتها من النهر،
والغابة والوادي،
ودوائر الموج،
وحصى الغدائر،
وللبذرة حصادها،
وللعود نغماته،
ونشوة النغمات،
أو أن للنغمات حلاوتها
إذا لم يحب الإنسان ولم يرحب.



تكريم عمر خيرت في الدورة الأولى لـ«مهرجان الأوبرا» بقطر

الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)
الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)
TT

تكريم عمر خيرت في الدورة الأولى لـ«مهرجان الأوبرا» بقطر

الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)
الموسيقار المصري عمر خيرت (وزارة الثقافة المصرية)

يستهل «مهرجان الأوبرا العربية» فعاليات دورته الأولى في قطر بتكريم الموسيقار المصري عمر خيرت، وذلك برعاية وتنظيم «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» (الألكسو)، حيث اختيرت مصر ضيف شرف المهرجان بوصفها صاحبة أقدم دار أوبرا في العالم العربي.

وتنطلق الدورة الأولى للمهرجان بالتعاون مع المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا) خلال الفترة من 8 حتى 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وقد تقرَّر تكريم عمر خيرت «تقديراً لعطائه وعرفاناً بدوره الرائد في إثراء ساحة الإبداع العربي»، وفق بيان لوزارة الثقافة المصرية. ويقدِّم «أوركسترا القاهرة السيمفوني» بقيادة المايسترو أحمد عاطف حفلاً يتضمن مجموعة من المؤلفات المصرية لكل من علي إسماعيل، وفؤاد الظاهري، ويوسف شوقي، وعمار الشريعي، وحسن أبو السعود، وعمر خيرت، وأندريا رايدر.

وعدَّ الدكتور علاء عبد السلام، رئيس «دار الأوبرا المصرية»، اختيار الأوبرا المصرية ضيف شرف الدورة الأولى «تأكيداً لأعرقيَّتها عربياً»، مشيراً إلى أن ذلك «يُبرز عمق العلاقات بين الأشقاء ويعكس التطلعات إلى مستقبل أكثر إشراقاً للفنون في المنطقة». وأضاف أن «احتضان دولة قطر للمهرجان خطوة ثقافية رائدة تعكس تقديرها للمسار الفني العربي، وتُبرز أهمية تلاقي التجارب والمؤسسات الفنية في فضاء واحد تُصاغ فيه مشروعات جديدة وتُفتح آفاق رحبة للتعاون والإبداع».

«دار الأوبرا المصرية» ضيف شرف «مهرجان الأوبرا» بقطر (وزارة الثقافة المصرية)

وقال الناقد الفني المصري أحمد السماحي إن «عمر خيرت يستحق هذا التكريم عن جدارة؛ فهو منذ بداياته يقدِّم نغمة مختلفة ومتجددة، وعمل على تطوير الموسيقى المصرية من خلال توزيعاته أولاً ثم من خلال مؤلفاته». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «خيرت من أوائل من ساهموا في تطوير التوزيع الموسيقي في الوطن العربي، ونجح في جذب أجيال واسعة، خصوصاً من الشباب، إلى الموسيقى، وقدّم ألبومات موسيقية خالصة بأسلوب متفرد حظيت بنجاح وانتشار كبيرين».

وقدّم عمر خيرت عدداً كبيراً من الألبومات والمقطوعات التي ارتبطت بالدراما والسينما، وغنَّى من أعماله نجوم الطرب في مصر والعالم العربي، مثل علي الحجار، ومحمد الحلو، ومدحت صالح، وحنان ماضي، ولطيفة. ومن أشهر مقطوعاته السينمائية «قضية عم أحمد»، و«إعدام ميت»، و«ليلة القبض على فاطمة»، و«عفواً أيها القانون»، ومن موسيقاه في الدراما «ضمير أبلة حكمت»، و«البخيل وأنا»، و«غوايش».

وكان مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية، الذي عقد دورته الـ24 في الرباط (المغرب)، قد أقر إقامة «مهرجان الأوبرا العربية» في قطر، واختيرت «دار الأوبرا المصرية» ضيف شرف دورته الأولى بالنظر إلى أسبقيتها التاريخية، إذ أسَّست مصر أول دار أوبرا في الوطن العربي، وفق بيان وزارة الثقافة.

ويرى الناقد الفني المصري أحمد سعد الدين أن «تكريم عمر خيرت في (مهرجان الأوبرا العربية) الأول يعكس القيمة الكبيرة التي يُمثِّلها في الموسيقى العربية، وليس المصرية فقط»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «الاختيار موفَّق جداً، سواء في تكريم خيرت أو في اختيار (دار الأوبرا المصرية) ضيفَ شرفٍ بوصفها الأقدم عربياً».

أُنشئت «دار الأوبرا المصرية» عام 1869 على يد الخديو إسماعيل ضمن احتفالات افتتاح قناة السويس. وبعد أكثر من قرن كانت فيه الأوبرا الخديوية المنارة الثقافية الأبرز في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ احترق مبناها في أكتوبر (تشرين الأول) 1971. ومن ثَمَّ اختيرت أرض الجزيرة مقراً للمبنى الجديد بالتنسيق مع هيئة التعاون الدولية اليابانية (JICA) والاتفاق على تصميم معماري إسلامي حديث، ليُفتتح المبنى الجديد في 10 أكتوبر 1988.


«حجر رشيد»... رحلة الأثر الذي فك طلاسم الحضارة المصرية

«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)
«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)
TT

«حجر رشيد»... رحلة الأثر الذي فك طلاسم الحضارة المصرية

«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)
«حجر رشيد» فيلم وثائقي جديد بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)

تحت عنوان «حجر رشيد: مفتاح الحضارة المصرية»، أنتجت مكتبة الإسكندرية فيلماً وثائقياً جديداً هو الخمسون ضمن مشروع «عارف... أصلك مستقبلك» الذي يتناول موضوعات تاريخية وبيئية، ورموزاً في مجالات شتى، ويقدم رحلة بصرية شيقة تمزج بين دقة المعلومة التاريخية وسحر الحكاية.

الفيلم الأحدث بسلسلة الأفلام الوثائقية يتناول حجر رشيد؛ ليس كمجرد قطعة أثرية؛ بل كقصة حضارة خالدة ألهمت العالم أجمع، من خلال استعراض أن الحضارة المصرية قد بدأت قبل عملية التدوين.

يستعرض الفيلم تطور أنظمة الكتابة المصرية القديمة، عبر الخطوط الثلاثة المنقوشة على الحجر، وهي: الهيروغليفية (الرسم المقدس)، والهيراطيقية (خط الكهنة)، والديموطيقية (الخط الشعبي)، وصولاً إلى القبطية التي مثلت الجسر الصوتي للغة المصرية القديمة.

ويتتبع الفيلم رحلة الحجر الأثري، بدءاً من معبد «سايس» بمحافظة الغربية، ومروراً باستخدامه كحجر بناء في قلعة «قايتباي» ببرج رشيد خلال العصور الوسطى، حتى اكتشافه عام 1799 على يد الملازم الفرنسي بيار بوشار.

ويسرد الفيلم قصة الصراع اللاحق عليه بين القوات الفرنسية والإنجليزية، الذي انتهى بوجود الحجر في المتحف البريطاني حالياً.

ويُبرز الفيلم المعركة العلمية الطويلة التي دارت لفك طلاسم الحجر، مسلطاً الضوء على جهود العلماء الأوائل، مثل السويدي يوهان أكربلاد، والإنجليزي توماس يانغ. ويُظهر الوثائقي كيف نجح العبقري الفرنسي جان فرنسوا شامبليون في تحقيق الانتصار العلمي. ويكشف أن تفوق شامبليون جاء نتيجة إجادته للغة القبطية التي استخدمها لربط الصوت بالصورة في النصوص القديمة. ففي سبتمبر (أيلول) 1822، أعلن شامبليون نجاحه في فك أول رموز الكتابة المصرية القديمة. وبهذا الإنجاز، تحول حجر رشيد رسمياً من مجرد وثيقة ملكية قديمة للإعفاء من الضرائب إلى أيقونة عالمية، ومفتاح جوهري لفهم التراث الإنساني.

الكتابة المصرية القديمة ظلت لغزاً لزمن طويل (مكتبة الإسكندرية)

ووفق مدير مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي، بقطاع التواصل الثقافي في مكتبة الإسكندرية، الدكتور أيمن سليمان، فإن الاهتمام بإنتاج فيلم عن حجر رشيد يعود لأهمية هذا الحجر، ودوره في الكشف عن أسرار الحضارة المصرية القديمة، بعد فك طلاسم لغتها ومعرفة أبجديتها، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «فمن خلال لوحة تعود للعصر اليوناني– البطلمي عبارة عن مرسوم ملكي للإعفاء من الضرائب، وُضعت في كل المعابد تقريباً، نقل جزء منها لإعادة بناء قلعة قايتباي على نهر النيل بمدينة رشيد، استطاع العلماء فك رموز الكتابة المصرية»؛ لافتاً إلى أن عالم الآثار الفرنسي جان فرنسوا شامبليون (1790– 1832) استطاع أن يترجم ويكشف عن اللغة المصرية القديمة، نظراً لمعرفته اليونانية والقبطية، وبالمقارنة استطاع أن يترجم منطوق اللفظ والكلمة من الخط المصري القديم؛ سواء المقدس (الهيروغليفي) أو الخط الشعبي (الديموطيقي).

وقدمت سلسلة «عارف... أصلك مستقبلك» 49 فيلماً وثائقياً من قبل، من بينها أفلام: «وادي حيتان»، و«بورتريهات الفيوم»، و«أبو العباس المرسي»، و«الألعاب في مصر القديمة»، و«حديقة الزهرية»، و«توت عنخ آمون الملك الذهبي»، و«أمير الخرائط».


«مَن الذي لا يزال حيّاً» يوثق أحوال الفلسطينيين الفارين من «جحيم غزة»

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)
TT

«مَن الذي لا يزال حيّاً» يوثق أحوال الفلسطينيين الفارين من «جحيم غزة»

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً ضمن فعاليات «مهرجان القاهرة السينمائي» (الشركة المنتجة)

لم يكن المخرج السويسري نيكولا واديموف يدرك أن اندلاع «حرب غزة» سيقلب أولوياته رأساً على عقب، لكنه وجد نفسه عاجزاً عن التفكير في أي شيء آخر. فالرجل الذي يصوّر في فلسطين منذ نحو 30 عاماً، ويعرف كثيرين بين غزة والضفة، عاش طوال الأسابيع الأولى للحرب تحت وطأة الخوف على أصدقائه العالقين تحت القصف، كما يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط».

ويصف واديموف فكرة أن يكون أولئك الذين يعرفهم جيداً تحت النار من دون أن يعرف مصيرهم بأنها كانت «أمراً لا يُحتمل». ورغم محاولته الاستمرار في مشروعاته الأخرى، سرعان ما اكتشف أن «العقل والقلب كانا في غزة»، وأن المضي في أي مشروع آخر «أصبح مستحيلاً». عندها قرر تجميد جميع أعماله، وحاول مرتين الذهاب إلى غزة ولم ينجح، قبل أن تقوده الصدفة إلى القاهرة، حيث التقى صديقه الفلسطيني جودات هوّاري الذي خرج من القطاع بعد بدء الحرب.

يتذكر واديموف حالة صديقه النفسية في تلك الفترة، ويقول: «وجدته منهاراً كلياً، نفسياً وذهنياً، والصدمة التي رأيته فيها كانت الشرارة التي ألهمتني فكرة الفيلم، والحاجة الملحّة إلى أن تُسمَع هذه الأصوات، خصوصاً في الغرب، حيث تعمل ماكينة سياسية وإعلامية منذ سنوات طويلة على خلق مسافة بين الجمهور والفلسطينيين، وتقديمهم باعتبارهم أرقاماً، إلى حد أن التعاطف معهم بات أصعب مما ينبغي أن يكون».

الفيلم عَرض قصصاً لشخصيات فلسطينية (الشركة المنتجة)

من ذلك اللقاء وُلدت نواة فيلمه «مَن الذي لا يزال حيّاً» الذي عُرض في النسخة الماضية من مهرجان «القاهرة السينمائي»، فقد عرّفه صديقه الفلسطيني على آخرين من أبناء غزة المقيمين في القاهرة، فسجّل أصواتهم أولاً، ومن ثَّم بدأت بينهم فكرة بناء فيلم كامل، قبل أن يضمّ شخصيات أخرى يعرفها هو شخصياً من غزة، ليكتمل الفريق المكوّن من 9 أشخاص.

تقوم فكرة فيلم «مَن الذي لا يزال حيّاً» على «إعادة البشر إلى الواجهة في لحظة يُراد لهم فيها أن يتحولوا إلى أرقام»، كما يقول واديموف، مضيفاً أن «الفيلم يقدّم 9 فلسطينيين من غزة: كتّاباً وصحافيين وفنانين وطلاباً ومديرين ومؤثّرين تتراوح أعمارهم بين 14 و62 عاماً، جميعهم فقدوا بيوتهم وأعمالهم وذكرياتهم تحت القصف، وتحولوا إلى لاجئين».

ويشير إلى أنه شعر تجاههم بما يشبه «العائلة الصغيرة» التي ستحمل الفيلم على عاتقها. وبينما كان من المقرر تصويره في سويسرا، فإن رفض منح الحكومة أبطال الفيلم التسعة تأشيرات دخول دفعه إلى نقل الخطة إلى جنوب أفريقيا، وهي من الدول القليلة التي تستقبل الفلسطينيين من دون تأشيرة.

المخرج السويسري نيكولا واديموف (الشرق الأوسط)

ويرى واديموف أن لهذا القرار بعداً رمزياً مهماً بالنظر إلى «العلاقة التاريخية والأخوّة» بين جنوب أفريقيا وفلسطين، مستحضراً رمزية مانديلا وعرفات ونضالهما، قبل أن يمضي الفريق هناك 3 أسابيع لإنجاز التصوير.

ويعترف بأن الفيلم «كان امتحاناً قاسياً على الصعيد النفسي، ليس لي فقط، بل لكل المشاركين. استعادة الذكريات في خضم الصدمة ليست خطوة بسيطة. عادةً يعمل العلاج النفسي على إبعاد تلك الذكريات أو وضعها في مكان آمن حتى يستطيع الإنسان أن يتعافى، في حين طلبتُ العكس من المشاركين بأن يغوصوا في ذواتهم ويستدعوا ما يحاولون نسيانه».

الفيلم صُوّر في جنوب أفريقيا لعدم تمكن فريق العمل من الحصول على تأشيرات سويسرا (الشركة المنتجة)

ويضيف أنه كان يدرك أن ذلك «خطر عليهم»، لكن البيئة التي كوّنها الفريق كانت حاضنة وقائمة على الدعم المتبادل. «كنا بمثابة عائلة قوية نتشارك كل شيء، وكانوا يدعمون بعضهم طوال الوقت»، مؤكداً أن الشخصيات أمام الكاميرا لم تكن بحاجة إلى توجيه، فـ«الصدق جعل حضورهم أقوى من حضور الممثلين».

ورغم حساسية الموضوع، يوضح واديموف أن الهدف لم يكن نقل المعلومات، فالعالم - من وجهة نظره - «يعرف كل شيء»، والجميع شاهد تفاصيل الإبادة «دقيقة بدقيقة عبر وسائل التواصل»، لكن المشكلة، كما يقول، «ليست في المعرفة، بل في الإحساس. فالناس يعرفون لكنهم لا يشعرون. لذلك اعتبرت أن وظيفة الفيلم ليست إخبار الجمهور بما حدث، بل مساعدته على الشعور به؛ لأن المعرفة بلا تعاطف لا تغيّر شيئاً».

وعن المناخ السياسي في سويسرا تجاه ما يحدث في غزة وصعوبات التمويل، يتحدث بوضوح عن «انقسام البلاد إلى شطرين»، لكنه يؤكد أن هذا الانقسام لم ينعكس على تمويل الفيلم؛ إذ حصل على دعم المؤسسات الثقافية الفيدرالية والتلفزيون السويسري، الذي يصفه بأنه «شجاع ويقوم بواجبه». ويضيف: «أصدقائي دعموا خياري منذ البداية. مَن حولي يقفون في الجانب الصحيح من التاريخ، ولا أحتفظ بصداقات مع أشخاص يلتزمون الصمت أمام الإبادة؛ لأن الصمت تواطؤ».