قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

قبلة الحياة للتنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
TT

قرار القدس يرضي أصوليين... ويثير غضب معتدلين

تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)
تواصل الغضب والاشتباكات في رام الله للأسبوع الثالث على التوالي رداً على القرار الأميركي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (إ.ب.أ)

في فبراير (شباط) من عام 2017 أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيلحقون الهزيمة بإرهاب الجماعات المتطرفة و«قوى الموت» حسب تعبيره. تصريحات ترمب جاءت في قاعدة ماكديل في تامبا بولاية فلوريدا، مقر القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، ويومها أضاف: «لقوى الموت والدمار، اعلموا أن أميركا وحلفاءها سيلحقون بكم الهزيمة»، مضيفاً مرة أخرى: «سنتغلب على الإرهاب، ولن ندعه يتجذر في بلادنا».
هل جاءت وتجيء قرارات ترمب الأخيرة لتخدم فكرة القضاء على الإرهاب أم أنها باتت بمثابة قبلة الحياة لتلك التنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها؟
خلال حملته الانتخابية الرئاسية تحدث دونالد ترمب. عن أحلامه في أن يكون الرئيس القادر على جلب السلام للشرق الأوسط، وإنهاء حالة النزاع الذي طال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويومها قال المراقبون للمشهد هناك إن الرجل يحلم بأن يضحى واحداً من القياصرة الذين يكتبون أسماءهم في سجلات التاريخ الأميركي، غير أن قراره الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل من جهة، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس من جهة أخرى، أكد أن ما تحدث به ترمب، ضرب من ضروب الأوهام، وفاته أن القدس هي أكبر كثيراً من كونها مدينة جغرافية عادية. لقد فات ترمب أنها مدينة ذات صبغة مطلقة، ولهذا فإن اسمها يرتبط لغوياً وفعلياً بـ«القداسة»، إنها القدس أو بيت المقدس، وإن مكانتها في قلوب المسلمين والمسيحيين، لا يمكن أن تقل أبداً عن أهميتها بالنسبة لليهود، ومعنى تخصيصها لفريق بعينه وتمكينه منها، وبمساندة أميركية لا تعرف سوى القوة كمعيار وحيد لها، هو بمثابة إثارة الأحقاد والكراهية لدى الفريقين الآخرين، مما يدفعهما في طريق المقاومة، وبخاصة إذا كانت القوة هي السند الوحيد الذي تعرفه إسرائيل وأميركا من ورائها، ومن هنا ينبغي طرح علامة الاستفهام، هل جاء قرار الأميركي ليقدم خدمة ذهبية للتيارات الإرهابية التي تؤمن بالعنف والقتل كلغة حوار؟
الشاهد أنه قبل الجواب على السؤال المتقدم قد يعن لنا أن نتساءل: «أليس قرار القدس نابعاً من قلب أصولية مسيحية أميركية ويخدمها ويبث فيها مشاعر سلبية لا تعرف إلا لغة الغطرسة والكبرياء وبعيداً عن ما هو مسيحي من قيم وأخلاق حقيقية؟

الأصولية المسيحية والقرار الأميركي
ظهرت الازدواجية الأميركية في شخص ترمب خلال الحملة الرئاسية الانتخابية عينها، ففي الوقت الذي كان فيه يتشدق بتصريحات عن السلام بين الجانبين، كان يعد تيار اليمين الأصولي المسيحي الأميركي، بما لا يملك أي إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا التيار وبخلاف ما يذهب كثير من الباحثين ليس تياراً يهودياً وحسب، ذلك أن غالبيته من أنصار الرؤى الإيمانية المسيحية المغلوطة عمداً، والتي ترى أن دولة إسرائيل هي المعنى والمرادف لتمام وكمال النبوءات، وأنها العلامة الأخيرة المؤكدة لنهاية العالم، ومن ثم حدوث ما يسمى بـ«المجيء الثاني»، الذي لا بد له، وأن يمر عبر معركة نهائية على الأرض بين قوى الخير وقوى الشر، ما يطلق عليها معركة هرمجدون.
ولعل الناظر للمشهد يدرك أن ترمب كان لا يسعى لمصلحة السلام، أو حتى صالح اليهود الأميركيين حتى، ذلك أن نصب عينيه أن يحصل في الدورة الثانية على أصوات الأميركيين الذين صوتوا له في المرة الأولى، باعتباره رئيساً يفي بما يعد به، وهل يهود أميركا يدعمون هذا القرار؟
مثير جداً الجواب، سيما وأن عدداً من استطلاعات الرأي التي أجرتها منظمة «جي ستريت» الجناح المنشق عن الإيباك، جماعة الضغط الداعمة لإسرائيل في أميركا، أكدت أن ثمانين في المائة من الأميركيين اليهود يؤيدون حل الدولتين، في حين عبر اثنان وسبعون في المائة عن تأييدهم لجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيلية مستقلة.
«جي ستريت» عينها وفي استطلاع رأى لها العام الجاري (2017) أظهرت أن ستة عشر في المائة فقط من يهود أميركا يؤيدون نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فيما أربعة وأربعون في المائة يرفضون نقل السفارة إلى القدس رفضاً تاماً، وستة وثلاثون في المائة لن يقبلوا النقل إلا في وقت لاحق، عندما يسود السلام بالفعل في إسرائيل وفلسطين. القضية إذن هي غزل براغماتي من ترمب على أوتار الأصولية الأميركية المسيحية الداخلية التي دعمته وتدعمه سيما داخل الكونغرس، وبصفة خاصة بين الأعضاء الديمقراطيين الذين وقفوا وبكل قوة وراء قرارات ترمب الأخيرة، باختصار غير مخل فإن «التيار المسيحي الأصولي في الولايات المتحدة الأميركية، بات اليوم يمثل أكبر كتلة دينية لها تأثير فاعل على صعيد الحياة السياسية، بعد أن بلغ نحو 25 في المائة من مجموع السكان في البلاد»، وعليه فإن أفضل من وصف حقيقة قرار ترمب كان «مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (صاحب النفوذ الكبير في كل الإدارات الأميركية)، حينما أشار إلى أنه «لم يكن هناك أي سبب دنيوي لاستفزاز العالم العربي بهذا القرار».
لعل الذين قدر لهم الدخول بعمق في قراءة أدبيات الجماعات الأصولية الإسلاموية على اختلاف أشكالها وألوانها، يدرك كيف أن «مدينة القدس»، تمثل ركيزة من ركائز مغازلة العوام والدهماء، بمعنى اتخاذها مبرراً وذريعة من أجل تبرير أفعالهم وحماقاتهم المرتبطة بالدم والقتل، بالتنكيل وإثارة الفوضى والذعر حول العالم.
هذا التيار الأصولي على الجانب الإسلامي لا يزال يتحدث عن تحرير بيت المقدس من الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان الجميع يدرك إدراكاً جيداً أنه أكبر القوى المتحالفة سراً مع الصهيونية العالمية، وخير دليل على ذلك، أنه لم تطلق رصاصة واحدة من قبل تلك التنظيمات داخل إسرائيل، ولم تقم بعملية واحدة على الأرض الخاضعة للاحتلال.
في هذا السياق يتوقف المرء مع تصريحات المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد أحمد حسين، والتي أشار فيها إلى أن أكثر من 90 في المائة من «منابع وموارد وصحيح الإرهاب ستزول»، إذا ما تم حل القضية الفلسطينية، الأمر الذي سيوفر على العالم الكثير من المشكلات، وقد بين في تصريحاته كيف أن الإرهابيين يدعون أنهم يحاربون من أجل إعادة القدس، موضحاً أن كل من يلبس عباءة القضية الفلسطينية باسم الإرهاب، ومن يلبس الإسلام باسم الإرهاب، فإنه يروج لمزاعم باطلة وحجج واهية.

أصولية تنتعش وإرهاب يتصاعد
لم يكن الأسوأ القادم ليغيب عن أعين العلماء المسلمين الثقات، فعلى سبيل المثال وجدنا مفتي الديار المصرية الدكتور «شوقي علام» ينبه لخطورة القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكيف أنه سوف يؤجج مشاعر الكراهية، ويثير المسلمين ويعطي مبرراً أكيداً للمجموعات الإرهابية أن تنتعش من جديد. ولعل المثير في المشهد هنا هو أن أصوات أميركية ارتفعت عالياً للتحذير من تبعات هذا القرار على تصاعد وانتعاش الموجات الأصولية والإرهابية في العالمين العربي والإسلامي.
خذ إليك على سبيل المثال ما كتبته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت الأيام القليلة الماضية، فقد أشارت إلى أن «الجماعات (الجهادية)، وعلى رأسها تنظيم داعش، سوف تستغل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل» مؤكدة أن «هذه الجماعات كانت كثيراً ما تعتبر قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي محركاً لها وسبباً لوجودها».
أما «ريتا كاتز» مديرة مجموعة «سايت» الاستخباراتية التي تعمل من على الأراضي الأميركية، فقد حذرت بدورها من هجمات إرهابية محتملة لتنظيمي القاعدة وداعش، تزامناً مع الإعلان المرتقب - في وقت تصريحها - بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومضيفة: «ينبغي أن نتوقع حملة طويلة ومستمرة يقودها (الجهاديون)، على خلفية نقل العاصمة الأميركية إلى القدس، تنطوي على تحذيرات وتهديدات من قبل قادتهم، بالنظر إلى أن هذه المسألة تمثل نقطة حاسمة داخل الحركة (الجهادية) العالمية عبر خطوط (داعش) و(القاعدة)».

«داعش» والفرصة الذهبية المنتظرة
جاء قرار ترمب كهدية على طبق من ذهب للدواعش، بعد أن كره العالم العربي والإسلامي إرهابهم، وصباح الجمعة الثامن من ديسمبر (كانون الأول) نشرت الدورية الناطقة باسمهم «صحيفة النبأ» بياناً لهم عنوانه «بيت المقدس إنْ أولياؤه إلا المتقون». البيان وكما توقع الجميع كان دعوة مفتوحة لإعادة التأكيد على العنف وخياراته كطريق وحيد وفريد لاستعادة مقدسات المسلمين، وتبيان أن السلام والتعايش ما هو إلا أداة لموالاة الكفار والمشركين.
نص البيان مدعاة للتنبؤ بما هو آت إذ يقول: «بل وصل الأمر بالضالين أن ينكروا على كل مجاهد في الأرض، ويطعنوا في جهاده للمشركين»، وكأن قتال التنظيم الإرهابي هو طعن في الجهاد وقتال للمجاهدين، وهم أبعد ما يكونون عن فهم معنى الجهاد وشروطه ومقاصده»، ما يعني أن «داعش» يسعى لاستغلال اللحظة الآنية من أجل تسييس القضية الفلسطينية، ووضع مدينة القدس، لصالح أجنداتهم. ولعل من قرأ بيان «داعش» وفيه أنه: «كانت القدس في أيدي اليهود منذ 60 عاماً، والآن فقط يبكي الناس حين أعلن الصليبيون اليوم أنها عاصمتهم»، يدرك نيات التلاعب على الأوتار الأصولية لدى العوام في العالمين العربي والإسلامي، رغم زيف الادعاءات في الأصل، والدليل أن «داعش» يحاول أن يدرأ عن ذاته تهمة التخاذل في مواجهة إسرائيل في الداخل، بالقول إنه حين تهاجم الدول العربية المحيطة بها، فيفقد الإسرائيليون من يحرسونهم من العرب المحيطين بهم وهي دعوة غير صادقة، ومسلك للفرار من القول بوجود رابط بين الجانبين.
وعلى الرغم من المشهد المرتبك والمرائي لـ«داعش»، فإن غرف الحديث الخلفية، في تطبيق «تيليغرام» والتابعة لأنصار «داعش» نشرت صوراً انتقامية، ومن بين هذه الصور حرق الأعلام الأميركية والإسرائيلية ورسائل من نوعية «سنقتلكم ونقطع رقابكم»... هل غابت «القاعدة» بدورها عن المشهد؟
لم يكن لـ«القاعدة» أن تغيب أو تتوارى عن المشهد بحال من الأحوال، و«القاعدة» التي نشأت في جبال وكهوف أفغانستان، وعلى أيدي رجالات من الشرق الأوسط بعضهم من فلسطين مثل «عبد الله عزام» للقدس في سلوكياتها ومنهجها الجهادي مكانة كبيرة، فقد كان المجاهدون هناك ضد السوفيات يصرخون بالأصوات الزاعقة: «اللهم أنصرنا هنا في كابل، ولا تمتنا إلا في بيت المقدس»، مما يعني أن قضيتهم الأولى هي قضية القدس، وأن أفغانستان ممر وليست مستقراً.
كان طبيعي أن تسارع «القاعدة» في جزيرة العرب إلى إصدار بيان، نقله موقع «سايت» SITE السابق الإشارة إليه، قال فيه: «إن قرار ترمب يمثل تحدياً صريحاً للشارع المسلم الذي يعتقد بمركزية القضية الفلسطينية»، وأضاف البيان: «أمام هذا الخطب الجلل فإننا نقف إلى جانب أهلنا في فلسطين، وسننصرهم بكل ما نملك ولو حبواً على الركب، فعليكم بزاد الصبر، والجهاد في سبيل الله».
بيان «القاعدة» دعا أصحاب الاختصاص في متابعة شؤون الأصوليات والأصوليين مثل موقع «لونغ وور جورنال» إلى التساؤل: «أين سيأتي رد (القاعدة) على قرار القدس؟».
الموقع ذكر قائمة من الأهداف التي اختارها التنظيم للرد على إجراءات سابقة مماثلة، وقد ذكر القراء بـ«القسم الكبير» الذي أقسمه زعيم التنظيم السابق «أسامة بن لادن»، وفيه هدد الأميركيين بأنهم لن يهنأوا بالأمن قبل أن يعاش واقعاً في فلسطين، كما استحضر الموقع عدة حالات مماثلة وقعت فيها عمليات إرهابية رداً على مواقف أو تصرفات إعلامية وسياسية، مشيراً إلى احتمال أن تأخذ أية عملية قادمة للتنظيم سياقاً مماثلاً من ناحية اختيار الأهداف.
ثم ماذا؟: بالقطع سيكون للقرار الأميركي تداعيات سلبية كثيرة، تعزز من أحلام الأصوليين المسيحيين في الغرب، وتثير ثائرة الإسلاميين في الشرق، وبينهما يضيع السلام في العالم عامة، وفي القدس مدينة السلام بصفة خاصة.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.