الممثل الإقليمي لـ«الفاو»: أزمات الشرق الأوسط أدت لتغير جذري في معادلة الأمن الغذائي

ولد أحمد قال إن المنظمة تحاول تلافي أخطاء الماضي في وضع سياسات دعم إعادة الإعمار

عبد السلام ولد أحمد
عبد السلام ولد أحمد
TT

الممثل الإقليمي لـ«الفاو»: أزمات الشرق الأوسط أدت لتغير جذري في معادلة الأمن الغذائي

عبد السلام ولد أحمد
عبد السلام ولد أحمد

مع تفاقم نسب الجوع في منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وبلوغ أعداد الجوعى أكثر من 40 مليون شخص في المنطقة، يتركز أغلبهم في دول النزاع، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة، نداء تحذير من مغبّة تفاقم الأوضاع في المنطقة، داعيةً إلى بذل مزيد من الجهود للتعاون والتضامن من أجل القضاء على الجوع، وكذلك تكثيف العمل لإنهاء النزاعات والعودة إلى تحقيق التنمية، وذلك بعد بلوغ معدلات الخلل الغذائي في دول النزاع 6 أضعاف معدلاتها في الدول الأكثر استقراراً في المنطقة.
وعلى هامش إطلاق المنظمة تقريرها بعنوان «نظرة إقليمية عامة حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا لعام 2017»، التقت «الشرق الأوسط» الدكتور عبد السلام ولد أحمد، مساعد المدير العام لـ«الفاو» والممثل الإقليمي في مكتب المنظمة الإقليمي للشرق الأدنى وشمال أفريقيا، والذي أكد أن النزاعات التي يشهدها بعض دول المنطقة هي السبب الرئيس وراء تدهور حالة الأمن الغذائي، خصوصاً مع ارتفاع معدلات الجوع بين سكان هذه الدول إلى مستوى 27.2%.
وأكد ولد أحمد أن منطقة الشرق الأوسط مرت بأزمات وظروف كبرى أدت إلى تغير جذري في معادلة الأمن الغذائي، مؤكداً أن الحكومات حاولت وضع استراتيجيات لدعم استمرار حصول المواطن على قوت يومه بأقل كلفة، وذلك نابع من إيمانها بأن الأمن الغذائي هو أولوية دائماً... لكنه أشار إلى أن تلك الاستراتيجيات أسفرت أحياناً عن بعض السلبيات السلوكية، حيث أصبح بعض المواطنين لا يدري قيمة الغذاء الحقيقية، ما أدى إلى اتساع فجوة الهدر.
وأشار مساعد مدير «الفاو» إلى أن المنظمة تعمل بكل جد في مناطق النزاع من خلال تنسيق كامل مع الحكومات الشرعية، وعبر عدد من المحاور لدعم الحالة الغذائية، موضحاً كذلك أن الاستراتيجيات المستقبلية في هذه المناطق تتضمن وضع سياسات تكاملية لا تعيد أخطاء الماضي، التي أدت تراكماتها إلى تنامي نسب الخلل الغذائي.
وإلى نص الحوار...
* حسب رؤية «الفاو»، تنقسم منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا إلى منطقتين فرعيتين، الأولى تخص مجموعة الدول التي تشهد نزاعات، والأخرى لباقي الدول الأكثر استقراراً... ما أبرز نقاط الاختلاف في خطط المنظمة لكلتا المجموعتين؟
- هذا التقسيم يهدف بالأساس إلى ضرورة إبراز دور النزاعات وأثرها في المنطقة... وبالطبع مرجعية «الفاو» الأساسية هي الأهداف الأممية التي اتفقت عليها جميع الدول، والتي تتضمن القضاء على الفقر والجوع وبلوغ 17 هدفاً تنموياً تمت المصادقة عليها من الجمعية العامة العمومية للأمم المتحدة، لكن طبيعة العمل في البلدان التي تعاني من النزاعات يختلف، لأن هناك الحاجة الملحة أولاً إلى المساعدات الإنسانية، وذلك يعني بالنسبة إلى «الفاو» دعم المزارعين والمجموعات الريفية على الصمود أمام الانعكاسات السلبية للأزمات والحروب والعنف، ويتطلب كذلك مساعدة الدول على التحضير لما بعد الحرب، والتحضير والتخطيط لمرحلة إعادة الأعمار. والمقاربة التي تتبعها «الفاو» لدعم البلدان التي تعاني من الأزمات مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا وحتى فلسطين هي دائماً مقاربة مبنية على 3 مسارات، حيث نحاول أولاً أن نقدم الدعم لصغار المزارعين عبر توفير البذور والأسمدة، لأنه في تلك الظروف عادةً أول ما يحتاج إليه المزارع هو المدخلات الزراعية، حيث لم تعد الأسواق تعمل كما كانت، وبالتالي توفير المدخلات أصبح هو الحاجة الأساسية، ليبقى مكانه ويظل ينتج.
والمسار الثاني، هو دعمه على الصمود عبر المشروعات، مثل تقديم بعض المساعدات المالية مقابل العمل، أو الدعم النقدي لمساعدته على صيانة التجهيزات وعلى قيام بعض البنى التحتية الزراعية الخفيفة، مثل شبكات الري على الحقل، إلى جانب حماية وزيادة الأصول الحيوانية، من حيث توفير الأعلاف، وحملات ومدخلات تلقيح وعلاج الماشية، وتحسين القدرات البيطرية، وإعادة توزيع الحيوانات؛ وغيرها.
أما المسار الثالث، فهو التحضير لإعادة الإعمار ووضع أسس للتنمية المستدامة عن طريق السياسات والخطط التي نتناقش فيها مع الدول.
* فيما يخص المجموعة الأولى، كيف تتعامل المنظمة مع الموقف على الأرض في ظل غياب جهة واحدة يمكن التعامل معها، على سبيل المثال في ليبيا يوجد تنازع على السلطات وكذلك في سوريا؟
- نحن نتعامل مع كل الحكومات المعترف بها شرعياً في كل الدول، هذا هو مبدأ «الفاو»... طبعاً هناك أمور يفرضها الواقع، على سبيل المثال في سوريا وفي اليمن هناك أمور مفروضة في الواقع، وبالتالي نتعامل في ظل هذه الأمور، والحكومات تتفهم عادةً ذلك لأنهم يدركون جيداً أن «الفاو» تعمل من منطلق حُسن النية، والهدف لـ«الفاو» هو مساعدة المزارعين ومساعدة المواطنين أينما كانوا، وذلك متقبَّل من طرف الحكومات... وبالتالي نحن نعمل أساساً مع الحكومات الشرعية ونتناقش معها حول السياسات والخطط بما فيها الخطط المستقبلية، وفي الميدان نعمل مع المزارعين أينما كانوا، وأظن أن الكل يتفهم ذلك.
* وهذا يتم على مستوى الدعم أم على مستوى جمع البيانات المطلوبة للتقارير؟
- هذا يتم على جميع المستويات في كل المناطق، في سوريا وفي اليمن نعمل على دعم المزارعين وتوفير المدخلات الزراعية ودعم القدرات كما قلت... ونعمل كذلك على رصد البيانات حول حالة الأمن الغذائي، فنحن في منظمة «الفاو» وشركاؤنا من الأمم المتحدة، خصوصاً برنامج الأغذية العالمي، و«يونيسيف»، نعمل معاً لرصد حالة الأمن الغذائي في اليمن كل 3 أشهر، وهذا لا يمكن أن يتم دون أن نعمل في جميع أماكن اليمن وجميع الأماكن التي تعاني من النزاع.
* في مناطق النزاع، هل ضمن الخطط المطروحة لـ«الفاو» العمل على إنشاء مجتمع غذائي متكامل فيما بعد الإعمار وإعادة التأهيل ما يوفر للمنطقة مستقبلاً مستداماً بشكل أكبر؟
- «الفاو» مثل أي منظمة تابعة للأمم المتحدة هي منظمة دول، أي أن أهميتها بالأساس تكمن في قدرتها على مساعدة الدول لتلبية الحاجات التي تم تأسيس «الفاو» من أجلها، وبالتالي نعمل فعلاً في كل البلدان التي تعاني من هذه الأزمات... حين نتكلم عن إعادة الإعمار نتكلم كذلك عن إعادة رسم سياسات تكاملية جديدة، ونحاول أن نقنع البلدان ألا نعود إلى نقاط الضعف التي قد تكون تسببت أصلاً في بعض المشكلات التي حصلت لاحقاً، وهذا أمر جوهري.
على سبيل المثال في سوريا، وبينما نعمل على دعم المسار لإعادة الإعمار، سنشارك في عملية مراجعة شاملة للقطاع الزراعي، وكذلك في بلدان أخرى... والهدف الأساسي وراء هذه التشاورات هو وضع سياسات تكاملية لا تعيد أخطاء الماضي، بل تساعد على إعادة التوازن للقطاع الزراعي، وتساعد على أن يكون القطاع داعماً أساسياً لعملية التنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر والجوع وأن تكون عملية التنمية الزراعية قابلة للاستدامة اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً.
* بالنسبة إلى مجموعة الدول الأكثر استقراراً، ما الأسباب الأساسية التي أدت إلى تراجع الأمن الغذائي في هذه الدول، خصوصاً مع عامل تضاعف النمو السكاني؟
- في الحقيقة وضعية الأمن الغذائي في هذه الدول ظلت مستقرة، لم تشهد تحسناً ولم تشهد تدهوراً، ولكن لا بد من التذكير بأن منطقة الشرق الأوسط ككل تتأثر بالنزاعات ومرّت بصدمات كثيرة ومتتالية، الصدمة الأولى كانت صدمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية سنوات 2007 و2008 و2009، خصوصاً أن أغلبية بلدان المنطقة مستورِدة للحبوب... وهذا انعكس مباشرة على قدرات المواطن على الحصول على الغذاء، وعوضت الدول ذلك ببرامج دعم ضخمة حتى تضمن لسكانها أمنهم الغذائي، ولكن ذلك شكّل عبئاً على ميزانية غالبية الدول خصوصاً تلك التي لا تصدِّر النفط، كما أن هذا الدعم قلل من حجم الاستثمارات المخصصة للتنمية الزراعية والتي هي الدعامة الأساسية لعملية النمو الاقتصادي على المدى البعيد.
وبعد ذلك أتى ما سُمى «الربيع العربي» وموجات عدم الاستقرار، وهذه أثرت كثيراً على الاستثمارات والثقة بعملية الاستثمار في العالم العربي ككل، ومن ثم جاءت الأزمات العميقة التي مرت بها سوريا والعراق واليمن وليبيا وانعكست على جميع بلدان الجوار، بدءاً من لبنان حيث كانت التجارة مع سوريا مصدراً أساسياً للتنمية، ونفس الشيء صار مع الأردن، وتأثرت أيضاً بطريقة مباشرة المناطق المجاورة التي قامت باستيعاب اللاجئين. وأدى المناخ العام إلى تراجع الاستثمار الخارجي في غالبية بلدان المنطقة بسبب زيادة الصراعات والنزاعات.
ثم جاءت موجة نقص أسعار النفط، والتي أثرت كذلك على كل المنطقة، أثرت على البلدان المصدرة للنفط، وأثرت على قدرة هذه البلدان على أن تساعد البلدان الأخرى.
وسلسلة الصدمات هذه أدت فعلا إلى تراجع معدلات النمو في الفترة ما بين سنة 2010 و2014، أو مقارنةً بالوتيرة التي كانت عليها قبل ذلك، مما أثر مباشرة على نسبة من يعانون من الفقر ومن يعانون من الجوع.
طبعاً الزيادة السكانية عامل أساسي في معادلة الأمن الغذائي في المنطقة، لأنها تساهم في خلق حالة عدم توازن ما بين القدرة على الإنتاج المحلي نظراً إلى محدودية الموارد المائية والأراضي الصالحة للزراعة، مقابل الطلب المتزايد على الغذاء... إذا نظرنا مثلا إلى مصر، فقد كان عندها اكتفاء ذاتي؛ بل إذا عدنا إلى الماضي فسنجد أن مصر كانت مصدرة، وكانت الأساطيل المصرية تجول في البحر المتوسط وتصدر القمح لروما ومدن أخرى.
* وكل هذه الأسباب مجتمعة دفعت المنطقة إلى سلة «العوز الغذائي»؟
- كلها مجتمعة صحيح... فقد أدت إلى تغير جذري في ظروف معادلة الأمن الغذائي... تغير جذري في عدد السكان الذي تضاعف 3 أو 4 مرات أحياناً منذ عام 1950، وطبعاً كميات المياه لن تزيد؛ بل تتناقص أحياناً بسبب موجات التصحر وموجات الجفاف المتكررة وتلوث المياه، وبالتالي هذا الخلل معالجته في منتهى الصعوبة، وهناك حلول لكن قد لا ترقى إلى مستوى التحدي نفسه، ومن ضمنها طبعاً تحلية المياه وهو مسار متَّبَع منذ زمن بعيد في دول الخليج، وهناك إعادة تدوير المياه المستخدمة، التي يمكن أن تزيد من وفرة المياه بنسبة ما بين 10 و20%. والمسار الثالث هو ترشيد المياه خصوصاً المياه للزراعة، وهذا مصدر أساسي لأن الزراعة في المنطقة تستخدم تقريباً 80% من المتوفر من المياه. ويجدر الذكر أن هناك تجارب كثيرة لاستخدام الري الحديث، مثل الري بالرش والري بالتنقيط في مصر والمغرب والأردن، وغالبية دول المنطقة بما فيها دول الخليج تخطط للانتقال إلى هذه التقنيات الحديثة وتطبيقها على نطاق واسع.
لكن لا بد من النظر إلى حلول إضافية، بما فيها حلول خارج إطار قطاع المياه، مثل الحد من الفاقد والمهدر من الغذاء، وهو كما تعلمون كبير جداً خصوصاً في البلدان العربية، وهذا لا يجوز... فكل حبة يتم إهدارها توجد كمية مياه وراءها، وهو عمل شخص ضاع ولم يعوض عنه، وهذه الأمور تتطلب عمل الحكومات والمجتمعات على حد سواء... ويجب على الكل أن يقوم بدوره.
والمياه كانت ترشَّد حتى في عهود قديمة في العالم العربي، لكنها لم تعد ترشَّد اليوم، حيث أصبح المواطن يستهلك بكثرة، والمزارع يظن أن المياه لا تنضب كونها أبدية... ولذلك يجب إعادة النظر في هذا. وعلى سبيل المثال، يتم ترشيد المياه في ولاية كاليفورنيا وحجمها يضعها في موازاة سادس أو سابع اقتصاد عالمي، مع ذلك يرشِّدون المياه حين دعت الضرورة، وبطريقة صارمة جداً أحياناً.
* هل من ضمن الاستراتيجيات الحالية على الأرض مواجهة الهدر الغذائي؟ وماذا عن إعادة تدوير هذا الهدر؟
- نحن قمنا بعملية نشر للتقارير السابقة عن الهدر من المياه والمواد الغذائية، وقمنا بعدة ورشات تحسسية وتشاورية في الإقليم، وعرضنا إطاراً استراتيجياً للحد من الهدر الغذائي على وزراء الزراعة، في روما عام 2014، وأطلقنا 3 مشروعات يتم تنفيذها الآن في مصر وتونس لدعم القدرات للحد من الهدر في الإنتاج... ولكن هذا الموضوع، كما ذكرت من قبل، يتطلب عملاً جماعياً، فالمهدر والفاقد من الغذاء كبير جداً؛ إذ يشير بعض التقييمات إلى أن الفاقد والمهدر من الغذاء يصل أحياناً إلى 30% من المتوفر من الغذاء، ولذا فإن للإعلام دوراً أساسياً للتوعية من أجل تغير سلوكيات الإنتاج والاستهلاك وتعديل وتحسين الثقافة.
والمشاريع التي تدعمها «الفاو» الآن تركز على الفاقد في مراحل سلسلة الإنتاج، وليس هدر الغذاء في مرحلة الاستهلاك. وتحاول هذه المشاريع أن ترصد أين يحصل بالضبط الفاقد، وفي أي مرحلة من الإنتاج، حتى تتم توعية المزارعين بذلك، وإدخال تقنيات وأساليب يمكن أن تحدّ من حجمه.
* في ظل هذه التحديات التي تواجه سلسلة الغذاء، هل يمكن أن نسأل عن «الفرصة الضائعة» أو «الفرصة البديلة»؟
- هناك فرص بديلة، وهناك استراتيجيات... في هذه المنطقة حتى أكون موضوعياً، مسألة الأمن الغذائي كانت دائماً أولوية أولى بالنسبة إلى الحكومات، لأنها تدرك قبل أي أحد آخر أن إشكالية الأمن الغذائي في المنطقة صعبة، وبالتالي وضعت استراتيجيات لدعم القطاع الزراعي، وضخت استثمارات هائلة لدعم قطاع المياه، ودعم أسعار المواد الغذائية الأساسية حتى يتمكن المواطن من الحصول على قوت يومه بأقل تكلفة... لكن هذه السياسات كذلك بها سلبيات تظهر -كما ذكرت- في الهدر الذي يحصل في عملية استهلاك الغذاء... خصوصاً إذا لم يشعر المواطن في مرحلة ما بالتكلفة الحقيقية للغذاء، ولم يشعر المزارع والمواطن بالتكلفة الحقيقية للمياه، هذا أولاً.
ثانياً، تم توجيه المواطنين -بطريقة غير مباشرة عن طريق الدعم والتسهيلات الكثيرة- إلى استهلاك كبير للحبوب، وأصبحت هي المصدر الأساسي لتناول السعرات الحرارية التي تعتمد عليها سلة الغذاء في منطقتنا، وتم إهمال –أو على الأقل تخفيف- المصادر الأخرى، خصوصاً استهلاك الفواكه والخضراوات واللحوم البيضاء، رغم أن لها دوراً أساسياً في توفير المغذيات الأساسية، وأيضاً تستهلك تكلفة مياه أقل ولديها قدرة وعائد أكبر لتصديرها، حين نقارنها بزراعة القمح على سبيل المثال.
وعلى الرغم من حسن النية من وراء السياسات الزراعية؛ فإنها كان لها أحياناً بعض الانعكاسات السلبية، وهو ما يتطلب المراجعة في المرحلة القادمة من أجل إحداث توازن أكبر على مستوى الإنتاج والاستهلاك والموارد المائية.
* هل هناك مساعٍ من المنظمة لجذب استثمارات في مجالات غذائية وزراعية للدول الأكثر استقراراً؟
- «الفاو» منظمة فنية بالأساس وليست منظمة تمويلية، ولكن لدينا شراكة قوية مع هيئات تمويلية كبيرة في العالم، ولنا دور مهم في وضع السياسات وصياغة البرامج الاستثمارية في القطاع الزراعي. على سبيل المثال، في بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) دعمنا وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي المصرية في تنظيم منتدى الاستثمار الزراعي في مصر، حيث ساهمت «الفاو» بقيام دراسات سلاسل الإنتاج الواعدة بمصر، والتي شملت 4 سلاسل هي: القمح والفواكه والسكر والدواجن، وكان موضوع التشاور واسعاً ما بين جميع المشاركين من الحكومة والقطاع الخاص والهيئات التمويلية والمستثمرين الداخليين والخارجيين، مع العلم أن المستثمرين المصريين هم الأهم في عملية الإنتاج الزراعي في مصر.
وهذه السلاسل الأربع فيما بينها تقدَّر بنحو 60% من الناتج الزراعي لمصر، وهذا المنتدى كان مرحلة مهمة لتشجيع وتسليط الضوء على الاستثمار الزراعي، وساهم فيه البنك الدولي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير وهيئات أخرى. وعلى المستوى الإقليمي، بدأنا العمل بطلب من مجموعة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في روما للتحضير لمؤتمر كبير للاستثمار الزراعي قد يتم تنظيمه بنهاية عام 2018 أو بداية عام 2019.
* كيف يتم تنسيق التعاون بين دول المنطقة للتكامل الغذائي؟ وما الأولويات المشتركة؟
- دول الشرق الأدنى وشمال أفريقيا تتقاسم عوامل مشتركة، من ضمنها ندرة المياه والتغيرات المناخية ومشكلات التغذية... و«الفاو» تعمل على المستوى الإقليمي مع الدول على مواجهة المشكلات والتحديات التي يمكن أن يحصل فيها تكامل أو تعاون أكبر وتبادل الخبرات، وغيرها.
وهناك الكثير من التجارب الجيدة التي تحدث في بلدان عديدة من المنطقة، ومنها خبرات مبنية على مئات السنين من ممارسات زراعية على سبيل المثال في مصر والعراق وسوريا، ويمكن للمزارع في دولة أخرى الاستفادة من هذه القدرات والمعرفة المبيتة والمتراكمة على مدى العقود.
والأولويات والموضوعات الإقليمية الجوهرية التي تعمل عليها «الفاو» يتم اعتمادها في مشاورات مع وزراء زراعة المنطقة خلال المؤتمر الإقليمي الذي ينعقد كل سنتين، والدورة المقبلة ستعقد ما بين 23 و27 أبريل (نيسان) المقبل. وعلى سبيل المثال، «الفاو» أطلقت مبادرة ندرة المياه، وهي مبادرة إقليمية تم اعتمادها من طرف جامعة الدول العربية، ويتم في إطارها الكثير من الاجتماعات التشاورية، والعمل الميداني على موضوعات أساسية، مثل الحسابات المائية وإنتاجية المياه الزراعية، والتحضير لمواجهة الجفاف وتغيرات المناخ. ونعمل الآن على بناء منصة لتبادل المعارف والتجارب لندرة المياه.
* وضعت الأمم المتحدة «أجندة 2030»... ما الإنجازات التي تم تحقيقها حتى الآن منها؟
- الأجندة انطلقت عام 2016، و«الفاو» تركز على متابعة حالة الأمن الغذائي... وبالتالي نحن في بداية العملية، ولا يمكن الآن في الحقيقة الكلام عن إنجازات في هذا الإطار.
لكن كما ذكرت من قبل، هذه المنطقة شهدت تطورات إيجابية على مدى سنين عديدة، لكنها دخلت بعدها في دوامة الصدمات والأزمات، وبالتالي هي اليوم للأسف أسوأ مما كانت عليه بالمقارنة مع بداية هذا القرن، وما نوصي به ونعمل عليه الآن مع دول المنطقة هي محاولة إعادة الأمور إلى مسار التنمية الصحيح، لأن «أجندة 2030» تتطلب مقاربات شمولية، وتعترف بأنه لا يمكن تحقيق الأمن الغذائي من دون سلام؛ ولا يمكن تحقيق الهدف الأول، وهو القضاء على الجوع، دون أن تحقق كذلك الهدف الخاص بالتعليم والهدف الخاص بالصحة والهدف الخاص بالأنماط الاستهلاكية والإنتاجية المستدامة؛ وهذا هدف جديد أُدخل على الأجندة، ويشير بوضوح إلى ما تكلمنا عنه من قبل فيما يخص الفاقد والمهدر من الغذاء والمياه.
* المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تحدث في أركان العالم حالياً، كيف ترى أنها تؤثر على المنطقة من حيث الأمن الغذائي؟
- هذه المنطقة تتأثر بكل ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار الغذائية العالمية أو تذبذب تلك الأسعار أو اضطرابها، كل ذلك يمكن أن يؤثر على الأمن الغذائي للمنطقة لأننا نستورد نحو 50% من استهلاكنا من المواد الغذائية، ونتأثر بقرارات الدول المنتجة الكبرى للمواد الغذائية وحتى بالصدمات التي تتعرض لها زراعات تلك الدول... لكن دول المنطقة ليست لديها دائماً مواقف موحدة على الأمور الأساسية التي تؤثر على وفرة وأسعار المواد الغذائية المستوردة. وكل دولة على حدة لديها استراتيجيتها للأمن الغذائي، وهناك مبادرات على مستوى الجامعة العربية للأمن الغذائي؛ ولكن ما زلنا بحاجة إلى التطبيق والتنسيق الأقوى.
* ختاماً... كيف ترى ملخص الوضع في المنطقة؟
- أولاً، رسالتي الأساسية أن النزاعات هي السبب الرئيس وراء تدهور حالة الأمن الغذائي بالأساس... ثلاثة أرباع من يعانون من الجوع يعيشون في مناطق النزاع؛ وانعكاسات النزاع ليست فقط على الأمن الغذائي، فهناك أيضاً انعكاسات بشرية تتمثل في عدد ومأساة المهجّرين داخلياً واللاجئين، هذه المشكلات قد تتطلب وقتاً طويلاً لحلها.
ثانياً، الأزمات جعلت دول المنطقة تنفق أموالاً طائلة على محاربة الإرهاب والنزاعات والعنف، وهذه الأموال من المفترض أن تكون مخصصة أصلاً للتنمية والتحضير للمستقبل، مما يخيم على درجة النمو المستقبلي.
ثالثاً، فإن الأنظار اليوم والعقول والأذهان والموارد كلها مصوبة نحو هذه الحروب والنزاعات والعنف؛ بدلاً من أن تكون إلى أمور جوهرية مصيرية مثل: الأمن المائي، والتغيرات المناخية، والتنمية الريفية، وبطالة الشباب، ومستويات التعليم والصحة... وفي الحقيقة هذه هي الفرصة الضائعة الكبيرة.
وأخيراً، العمل الجماعي ضرورة ملحّة؛ حيث لا يمكن لأي بلد من المنطقة أن يخرج ناجحاً بمفرده من الواقع الحالي، وهذا ما يوصي به التقرير.


مقالات ذات صلة

المبعوث الأممي يرى «تحديات كثيرة» أمام تحقيق الاستقرار في سوريا

المشرق العربي أشخاص يلوحون بالأعلام السورية خلال مسيرة في السويداء بسوريا في 13 ديسمبر 2024، احتفالاً بانهيار حكم بشار الأسد (أ.ف.ب)

المبعوث الأممي يرى «تحديات كثيرة» أمام تحقيق الاستقرار في سوريا

نقلت متحدثة باسم المبعوث الخاص للأمم المتحدة لسوريا غير بيدرسن عنه قوله، اليوم (الجمعة)، إنه يرى تحديات كثيرة ماثلة أمام تحقيق الاستقرار في سوريا.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
المشرق العربي توافد النازحين السوريين إلى معبر المصنع لدخول لبنان (أ.ف.ب)

مليون نازح إضافي في سوريا منذ بدء هجوم الفصائل

أفادت الأمم المتحدة، الخميس، أن أكثر من مليون شخص، معظمهم نساء وأطفال، نزحوا في الآونة الأخيرة في سوريا منذ بدء هجوم الفصائل المسلحة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الخليج السفير عبد العزيز الواصل يلقي بياناً أمام الجمعية العامة (وفد السعودية لدى الأمم المتحدة بنيويورك)

السعودية تطالب بوقف النار في غزة ودعم «الأونروا»

طالَبت السعودية، الخميس، بإنهاء إطلاق النار في قطاع غزة، والترحيب بوقفه في لبنان، معبرةً عن إدانتها للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
المشرق العربي الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (أ.ب)

غوتيريش قلق بشأن الضربات الإسرائيلية على سوريا ويدعو للتهدئة

أبدى الأمين العام للأمم المتحدة قلقه البالغ إزاء «الانتهاكات الواسعة النطاق مؤخراً لأراضي سوريا وسيادتها»، وأكد الحاجة الملحة إلى تهدئة العنف على كل الجبهات.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
المشرق العربي تظهر الصورة زنزانة في سجن صيدنايا الذي عُرف بأنه «مسلخ بشري» في عهد نظام الأسد بينما يبحث رجال الإنقاذ السوريون عن أقبية مخفية محتملة في المنشأة في دمشق في 9 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

محققو الأمم المتحدة أعدوا قوائم بآلاف من مرتكبي جرائم خطيرة في سوريا

وضع محققون تابعون للأمم المتحدة قوائم سرية بأربعة آلاف من مرتكبي جرائم خطيرة في سوريا، آملين مع سقوط الرئيس بشار الأسد بضمان المحاسبة.

«الشرق الأوسط» (جنيف)

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
TT

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

رئيس أميركي جديد... حرب تجارية مهددة... استمرار تعثر اقتصاد الصين... اضطرابات سياسية في مراكز القوة بأوروبا... توترات جيوسياسية في الشرق الأوسط... يبدو أن عام 2025 سيكون عاماً آخر استثنائياً. فكيف سيشكل كل ذلك الاقتصاد العالمي في عام 2025؟

في عام 2024، اتجه الاقتصاد العالمي نحو التحسن في ظل تباطؤ معدلات التضخم، رغم استمرار المخاطر.

لكن العام المقبل يقف عند منعطف محوري. فمن المرجح أن يرفع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الرسوم الجمركية، واضعاً حواجز حمائية حول أكبر اقتصاد في العالم، بينما سيستمر قادة الصين في التعامل مع عواقب العيوب الهيكلية داخل نموذج النمو في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم. أما منطقة اليورو، فستظل محاصرة في فترة من النمو المنخفض للغاية.

ترمب ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يتحدثان قبل اجتماع حلف شمال الأطلسي (أ.ب)

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يُتوقع أن يظل الاقتصاد العالمي ككل مرناً نسبياً في 2025. ويفترض صندوق النقد الدولي بتقرير نشره في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي قبل حسم نتائج الانتخابات الأميركية، أن يظل النمو ثابتاً عند 3.2 في المائة بالعام المقبل، وهو نفسه الذي توقعه لعام 2024. بينما التوقعات بتباطؤ النمو في الولايات المتحدة إلى 2.2 في المائة في عام 2025، من 2.8 في المائة في عام 2024، مع تباطؤ سوق العمل. في حين توقعت جامعة ميشيغان في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأميركا إلى 1.9 في المائة في عام 2025.

وفي منطقة اليورو، من المتوقع أن يبلغ النمو 1.2 في المائة في عام 2025، وهو أضعف قليلاً من توقعات الصندوق السابقة. ويشار هنا إلى أن الأحداث السياسية في كل من فرنسا وألمانيا سيكون لها وقعها على نمو منطقة اليورو ككل. فالسياسات الاقتصادية الفرنسية والألمانية تعوقها حالة كبيرة من عدم اليقين السياسي بعد استقالة رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه ضحية الموازنة، وانهيار الائتلاف الحكومي في ألمانيا للسبب نفسه.

أما الصين، فيتوقع الصندوق أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 4.6 في المائة في عام 2025 مع مخاوف تحديات استمرار ضعف سوق العقارات، وانخفاض ثقة المستهلكين والمستثمرين، وذلك في وقت تكافح فيه بكين للتوفيق بين إعادة توجيه استراتيجيتها للنمو والضغوط قصيرة الأجل لإجراءات التحفيز غير المكتملة. لكن وكالة «فيتش» أقدمت منذ أيام على خفض توقعاتها السابقة بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني من 4.5 في المائة إلى 4.3 في المائة.

موظف يعمل بشركة تصنيع قطع غيار سيارات في تشينغتشو (أ.ف.ب)

السياسة النقدية في 2024

لقد كان من الطبيعي أن يمثل تباطؤ التضخم المسجل في عام 2024، أرضية لبدء مسار خفض أسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية الكبرى. وهو ما حصل فعلاً. فالاحتياطي الفيدرالي خفّض أسعار الفائدة الفيدرالية مرتين وبمقدار 75 نقطة أساس حتى نوفمبر 2024 - و25 نقطة أساس أخرى متوقعة باجتماع في 17 و18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي - لتصل إلى 4.50 - 4.75 في المائة، رغم نمو الاقتصاد بواقع 3 في المائة.

رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يتحدث إلى رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد ويتوسطهما محافظ بنك اليابان كاز أودا في مؤتمر «جاكسون هول» (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فأجرى خفضاً للفائدة 4 مرات في 2024 وبواقع 25 نقطة أساس كل مرة إلى 3.00 في المائة بالنسبة لسعر الفائدة على الودائع.

بنك إنجلترا من جهته، خفّض أسعار الفائدة مرتين بمقدار 25 نقطة أساس (حتى اجتماعه في نوفمبر).

باول ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي ورئيس بنك كندا المركزي تيف ماكليم (رويترز)

وبالنسبة لبنك الشعب (المصرف المركزي الصيني)، فلقد كان التيسير مع مجموعة أدواته الموسعة حافلاً هذا العام، حيث تم الإعلان عن إصلاح إطار عمل جديد للسياسة النقدية في شهر يونيو (حزيران)، وتخفيضات بمقدار 30 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي لمدة 7 أيام، وتخفيضات بمقدار 100 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي، وبرامج جديدة لدعم أسواق الأسهم والعقارات.

إلا أن المفاجأة كانت في تغيير زعماء الصين موقفهم بشأن السياسة النقدية إلى «ميسرة بشكل معتدل» من «حكيمة» للمرة الأولى منذ 14 عاماً، ما يعني أن القيادة الصينية تأخذ المشاكل الاقتصادية على محمل الجد. وكانت الصين تبنت موقفاً «متراخياً بشكل معتدل» آخر مرة في أواخر عام 2008، بعد الأزمة المالية العالمية وأنهته في أواخر عام 2010.

ولكن ماذا عن عام 2025؟

سوف تستمر المصارف المركزية في خفض أسعار الفائدة على مدى العام المقبل، ولكن في أغلب الاقتصادات الكبرى سوف تمضي هذه العملية بحذر.

بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، يبدو أن التوقف عن الخفض في اجتماع يناير (كانون الثاني) أمر محتمل، حيث إنه سيكون لديه بحلول اجتماع مارس (آذار)، فهم أكثر وضوحاً لخطط الرئيس دونالد ترمب بشأن التعريفات والضرائب والإنفاق والهجرة وغيرها. ومن المؤكد أن احتمالات خفض الضرائب المحلية لدعم النمو التي ستدفع بالطبع التضخم إلى الارتفاع، ستؤيد مساراً أبطأ وأكثر تدريجية لخفض أسعار الفائدة العام المقبل. وهناك توقعات بحصول خفض بمقدار 25 نقطة أساس لكل ربع في عام 2025.

متداول في سوق نيويورك للأوراق المالية يستمع إلى مؤتمر باول الصحافي (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فيبدو أنه مصمم الآن على المضي قدماً في إعادة أسعار الفائدة إلى المستوى المحايد بأسرع ما يمكن مع ضعف النمو الشديد وتباطؤ ظروف سوق العمل، وسط توقعات بأن يخفض سعر الفائدة الرئيسي إلى نحو 1.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025. ومن بين العواقب المترتبة على ذلك أن اليورو من المرجح أن يضعف أكثر، وأن يصل إلى التعادل مقابل الدولار الأميركي العام المقبل.

وعلى النقيض من المصرف المركزي الأوروبي، يتخذ بنك إنجلترا تخفيضات أسعار الفائدة بشكل تدريجي للغاية. ومن المتوقع أن تعمل الموازنة الأخيرة وكل الإنفاق الحكومي الإضافي الذي جاء معها، على تعزيز النمو في عام 2025. وهناك توقعات بأن يقفل العام المقبل عند سعر فائدة بواقع 3.75 في المائة، قبل أن ينخفض ​​إلى أدنى مستوى دوري عند 3.50 في المائة في أوائل عام 2026.

أما بنك الشعب، فسوف يبني العام المقبل على الأسس التي وضعها هذا العام، حيث تشير التوقعات إلى تخفيضات تتراوح بين 20 و30 نقطة أساس في أسعار الفائدة، مع مزيد من التخفيضات إذا جاءت الرسوم الجمركية الأميركية في وقت مبكر أو أعلى مما هو متوقع حالياً، وفق مذكرة للمصرف الأوروبي «آي إن جي». ومن المتوقع على نطاق واسع خفض آخر لمعدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في الأشهر المقبلة، حتى إنه يمكن حصول تخفيضات تراكمية بمقدار 100 نقطة أساس في معدل الفائدة قبل نهاية عام 2025.

حرب تجارية على الأبواب؟

وبين هذا وذاك، هناك ترقب كبير للتعريفات الجمركية التي تعهد ترمب بفرضها، والتي يرجح على نطاق واسع أن تلعب مرة أخرى دوراً رئيساً في أجندته السياسية، وهو ما ستكون له انعكاساته بالتأكيد على الاقتصاد العالمي.

سفن حاويات راسية في ميناء أوكلاند (أ.ف.ب)

فترمب هدّد في البداية مثلاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المائة على جميع الواردات الصينية، ورسوم جمركية تتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة على الواردات من جميع البلدان الأخرى. ثم توعّد المكسيك وكندا بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المائة على جميع الواردات منهما، إذا لم تحلّا مشكلة المخدرات والمهاجرين على الحدود مع الولايات المتحدة، و10 في المائة رسوماً جمركية على الواردات من الصين (تضاف إلى الرسوم الحالية) بمجرد تنصيبه في 20 يناير. ولاحقاً، توعد مجموعة «بريكس» بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 100 في المائة، إذا أقدمت على إنشاء عملة جديدة من شأنها إضعاف الدولار.

ويبدو أن ترمب جاد هذه المرة في فرض التعريفات الجمركية التي يصفها بأنها أجمل كلمة في القاموس، بدليل ترشيحه الرئيس التنفيذي لشركة «كانتور فيتزجيرالد» في وول ستريت، هوارد لوتنيك، لتولي منصب وزير التجارة، والذي قال عنه إنه «سيتولى ملف التجارة والتعريفات».

وينص قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية على قدرة الرئيس على إصدار إجراءات اقتصادية طارئة للتعامل مع «أي تهديد غير عادي واستثنائي، يكون مصدره بالكامل أو جزئياً خارج الولايات المتحدة، للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة». وهو ما يطلق يد ترمب في إقرار رسوم جمركية جديدة.

من هنا، قد تشكل الحرب التجارية أكبر خطر يهدد النمو العالمي في عام 2025. ورسم المحللون أوجه تشابه مع ثلاثينات القرن العشرين، عندما أدى فرض التعريفات الجمركية الأميركية إلى رد فعل انتقامي من قبل حكومات أخرى، وأدى إلى انهيار التجارة العالمية الذي أدى بدوره إلى تعميق الكساد الأعظم.

وفي أواخر أكتوبر، تناول صندوق النقد الدولي في تقرير له، التأثيرات المترتبة على النمو والتضخم في حرب تجارية محتملة عام 2025. فوضع التقرير سيناريو حرب تجارية مع افتراض فرض تعريفات جمركية أميركية بنسبة 10 في المائة على جميع الواردات، تقابلها إجراءات انتقامية واسعة النطاق من جانب أوروبا والصين تعادل 10 في المائة تعريفات جمركية على الصادرات الأميركية، وعلى جميع التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي، على أن يتم تنفيذها بحلول منتصف عام 2025.

في هذا السيناريو، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة -0.1 في المائة في عام 2025، مما يخفض توقعاته الأساسية من 3.2 في المائة إلى 3.1 في المائة.

مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من جهته يحذر من آفاق غير مؤكدة تواجه التجارة العالمية عام 2025، بسبب تهديد الحروب التجارية. ويعدّ أن «آفاق التجارة في عام 2025 مشوبة بتحولات محتملة في السياسة الأميركية، بما في ذلك التعريفات الجمركية الأوسع نطاقاً التي قد تعطل سلاسل القيمة العالمية وتؤثر على الشركاء التجاريين الرئيسين».

وفي استطلاع أجرته «رويترز» مؤخراً مع 50 اقتصادياً، قدّر هؤلاء أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في الصين ​​بمقدار من 0.5 إلى 1.0 نقطة مئوية في عام 2025، حال تم فرض التعريفات الجمركية.

الدين العالمي إلى مستويات قياسية

ولا تقتصر التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي على ما سبق تعداده، فالعالم يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق مع تصاعد الديون العالمية إلى 323 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي، وهو رقم يصعب تخيله أو استيعابه، والمتوقع ارتفاعه أكثر في 2025 إذا نفذ ترمب تعهداته.

لافتة إلكترونية في محطة انتظار الحافلات حول حجم الدين الوطني الحالي للولايات المتحدة (رويترز)

فالتقلبات المتوقعة لسياسات ترمب دفعت بعض الدول إلى إصدار ديون قبل توليه منصبه، عندما قد تصبح الأسواق أقل قابلية للتنبؤ.

وحذر معهد التمويل الدولي من أن التوترات التجارية المزدادة وانقطاعات سلسلة التوريد تهدد النمو الاقتصادي العالمي، مما يزيد من احتمالات حدوث دورات ازدهار وكساد صغيرة في أسواق الديون السيادية مع عودة الضغوط التضخمية وتشديد المالية العامة. وسوف تفاقم زيادة تكلفة الفائدة نتيجة لذلك الضغوط المالية وتجعل إدارة الديون صعبة بشكل مزداد.

وأخيراً لا شك أن التحولات الجيوسياسية تلعب دوراً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي عام 2025. وهي تفترض مراقبة خاصة ودقيقة ومعمقة لتداعيات التنافس بين الولايات المتحدة والصين، التي قد تزداد وتيرتها حدة لتكون عواقبها الاقتصادية محسوسة على مدى سنوات، وليس أشهراً، بحيث يتردد صداها طوال العام المقبل وما بعده.