عبد الفتاح أبو مدين.. «الطحسني» الذي أشعل «الحداثة» ربع قرن

كان في مجلة «الرائد» مثل الطبيب يستبعد كلمة ويضع كلمة

عبد الفتاح أبو مدين في إحدى الندوات
عبد الفتاح أبو مدين في إحدى الندوات
TT

عبد الفتاح أبو مدين.. «الطحسني» الذي أشعل «الحداثة» ربع قرن

عبد الفتاح أبو مدين في إحدى الندوات
عبد الفتاح أبو مدين في إحدى الندوات

كغيره من ناكري الذات، استهل الأديب السعودي عبد الفتاح محمد أبو مدين سيرته الذاتية في كتابه الشهير «حكاية الفتى مفتاح» بقوله: «إنني أؤكد من البداية أن حياتي ليس فيها شيء يستحق التسجيل والحديث لأنها حياة أمثالي ممن عاش اليتم والجهل والفقر..».
ولد أبو مدين في عام 1344 من الهجرة ودخل الكتاب في بنغازي وفق الطريقة القديمة، يقرأ القرآن، يكتبه على لوح من الخشب، يحفظه ثم يمحوه. ففي عهد الاستعمار الإيطالي، لم تكن توجد سوى المدارس الإيطالية، فخشي عليه والده ووالدته، بحسب رواية أبو مدين خلال تكريمه في منتدى «الإثنينية» في عام 1984، أنه إذا دخل المدرسة سيجند وبالتالي يحارب مع الكفرة!
توفي والده ولم يترك خلفه شيئا من متاع الدنيا. يومئذ كان عبد الفتاح في الـ12. ذهب ليفتش عن عمل، فوجد عملا في البناء لكن عضلاته الواهنة لم تساعده على الاستمرار، تركه وعمل في مقهى، ثم في فرن، يجلب النشارة من المناجر، والدقيق من (صوامع) الدقيق، يحمل في سن يفاعة كيس دقيق يزن 80 كيلا، قبل أن يأتي عام 1942، الذي توسل فيه خاله عند السفير البريطاني في جدة، يرجوه أن يتوسط لدى الإدارة البريطانية، التي كانت تحكم ليبيا يومئذ، أن يركبه ووالدته إلى الحجاز. ليتلقى بعد استقراره بفترة من الزمن المرحلة الابتدائية في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، لكنه اضطر إلى عدم إكمال الدراسة لضيق حال خاله، الذي كان يعوله بعد إحالته إلى التقاعد، ليستقر به المقام في جدة.
هذه البدايات القاسية، التي شكلت وجدان أبو مدين، لعلها هي كذلك من صنعت عزيمته وجلده على تحقيق طموحاته. ومن هنا ليس غريبا على «الفتى مفتاح» وهو «الطحسني»، نسبة إلى طه حسين، الذي تأثر به وقرأه وتعرف إلى أدبه أول مرة في سنة 1368 من الهجرة، قبل أن يبدأ رحلة الكتابة في عام 1370من الهجرة.
فلأبو مدين عدة مؤلفات تنوعت ما بين النقد والدراسات والبحوث والمقالات الأدبية والسيرة الذاتية. وصدر له «أمواج وأثباج»، «في معترك الحياة»، و«تلك الأيام»، «حكاية الفتى مفتاح»، «الصخر والأظافر»، «حمزة شحاتة.. ظلمه عصره»، «هؤلاء عرفت»، «الحياة بين الكلمات»، «علامات»، «الذين ضل سعيهم» «نقد لمنكر السنة النبوية»، «من أحاديث الحياة»، و«أيامي في النادي».
إضافة إلى عمله مديرا لإدارة مؤسسة «عكاظ» للصحافة، ثم مديرا لتحرير العدد الأسبوعي من جريدة «عكاظ»، كما عمل مديرا لإدارة مؤسسة «البلاد للصحافة والنشر» لمدة تسع سنوات. وعضـوا في مجلس إدارة النـادي الأدبـي بجدة عام 1395 من الهجرة إذ يعد من المشاركين في نادي جدة الأدبي منذ تأسيسه عام 1395هـ، قبل أن يصبح رئيسا لهذا النادي بعد وفاة الأستاذ محمد حسن عواد عام 1401 من الهجرة لمدة 25 عاما، وهي المرحلة التي تعد الأبرز في مسيرته العملية.
ومرحلة رئاسته النادي الأدبي بجدة، وهي المرحلة التي بات النادي فيها مالئا الدنيا وشاغلا الناس والصحافة والمجالس بصخب وجدل وحوارات لا تنتهي عن «الحداثة» و«البنيوي» وما بعد البنيوية، أو بحسب وصف رفيقه في رحلة النادي الأدبي، الناقد الأدبي عبد الله الغذامي، الذي يقول في مقال له بعنوان «صناعة الجمهور: نار الحداثة»: «لقد جاءت نار الحداثة، تلك النار التي أنضجت كل ما هو نيء في جسد الثقافة».
ولعل السمة الأبرز في شخصية الأديب أبو مدين تواضعه الجم، الذي أجمع عليه مجايلوه، إذ كان يتمثل دائما مقولة الأديب الأستاذ محمد حسين زيدان: «أنا رجل من عرْض الناس يؤدي بعض واجبه، أو ما استطاع إلى ذلك سبيلا».
إلا أن هذا التواضع لم يدفعه للتقليل من قدره، إذ يوضح: «غير أني أزعم أننا في نادي جدة الأدبي الثقافي، وقد وعينا الخطاب الثقافي المعرفي، ولا أزعم أنني صاحب هذا الخطاب، لكن كنت مع نخبة وعت دورها وكيف تقدم نصوصا ونماذج ثقافية حية، فكسب نادي جدة جولات خلال مرحلة ثرية».
وحتى عندما أتاح النادي الفرصة أمام النساء للمشاركة في النشاطات المنبرية، كنوع من العدالة والإنصاف للمثقفات والأديبات وسط حالة غلب عليها، يومذاك، صوت التشدد، ووصفها أبو مدين في كتابه «أيامي مع النادي» بقوله: «كانت الأصوات المتطرفة تعبر عن نفسها بالمنشورات وأشرطة الكاسيت والكتب ومن على بعض منابر المساجد، ومع ذلك لم نجد بدا من اتخاذ قرار بإنشاء صالة نسائية ترتبط بصالة الرجال، عبر الدائرة التلفزيونية، وإتاحة الفرصة للمثقفات للمشاركة، وببساطة متناهية خاطبت أمير منطقة مكة المكرمة حينها الأمير ماجد بن عبد العزيز (رحمه الله) أستأذنه في فتح الصالة النسائية، وقد بارك الأمير هذه الخطوة، وأذن لنا بذلك».
ويصف الغذامي شخصية أبو مدين الإدارية بقوله: «الرجل على قدر عالٍ من تقدير المشورة والرأي ثم الشجاعة في التنفيذ، مع الفصل التام بين ما يراه هو شخصيا وما يجب عمله، ولا يستبد برأيه الخاص في مشاريع عامة تهم الوسط كله (...)، ولقد قبل أبو مدين الأسئلة ورحب بالتحديات وتحمل التبعات. فكان العاملون معه يشعرون أنهم مع رجل فتح عقله للآراء وسمح لأفكار العمل أن تأخذ مجراها، وترك الحوار هو المتحكم في الموقف».
ومع ذلك كله خرج أبو مدين من النادي الأدبي وبقي في نفسه شيء من حتى، إذ قال في أحد حواراته العامة ردا على تقييمه لفترته في النادي الأدبي: «أود أن أقول لوزيري الثقافة والإعلام الأخ إياد ثم عبد العزيز خوجه، أقول كلمتين أو طلبين: أعطونا صلاحيات، وأعطونا دعما ماديا، ثم حاسبونا».
كما يقترن اسم الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين بعملين صحافيين في جدة بجريدة «الأضواء»، وهي أول جريدة تصدر في جدة في العهد السعودي، أصدرها بالاشتراك مع محمد سعيد باعشن، في عام 1377 من الهجرة، و«الرائد» التي كان هو صاحبها ورئيس تحريرها، وأصدرها في عام 1379 من الهجرة، وهو يومئذ موظف في مصلحة الجمارك بجدة.
استمرت المجلة إلى قيام المؤسسات، حيث توقفت، إذ انتهى امتلاك صحافة فردية في البلاد. وشهدت «الرائد» معارك ضارية بين جيلين من الأدباء، ويروي أبو مدين عن بداية تأسيسها أنه «في مطلع عام 1379 من الهجرة أخذت أتابع الملك فيصل (يرحمه الله) حيثما يكون على حدود العراق في الصيد في فصل الربيع أبعث إليه ببرقية رجاء أن يصدر أمره الكريم بمنحي إذنا بإصدار مجلة أدبية باسم (الرائد)، وتابعت ذلك حتى صدر الأمر، وأصدرت في شكل مجلة على غرار مجلة (الرسالة)، التي كنت أحبها، في البداية أصدرت (الرائد) نصف شهرية لمدة سنة، وبعد ذلك فردتها كالأستاذ السباعي على شكل تابلوه من غير غلاف، واستمررت أصدرها، ويعينني إخواني وأصدقائي من الكاتبين؛ الأستاذ محمود عارف، الدكتور محمد سعيد العوضي».
ويسرد أبو مدين قصة عن الدكتور عبد الله مناع الذي كان أحد أوائل الذين ساهموا في بداية مشوار مجلة «الرائد»، إذ يقول: «كان (المناع) يدرس في الجامعة بالإسكندرية، ويبعث إلى بمقالات مزعجة بعنوان (على قمم الشقاء)، وهي عبارة عن قصة مسلسلة تدور حول حب وغرام الشباب فكنت أسهر على الحلقة الواحدة ليلة كاملة، مثل الطبيب أستبعد كلمة وأضع كلمة.. أحذف حرفا وأضع آخر.. وفي ذات مرة وأنا في الجمارك وفي موسم الحج اتصل بي الشيخ عبد الملك بن إبراهيم (يرحمه الله) رئيس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحادثني 40 دقيقة، فقال: يا فلان، لقد جاءنا من نثق فيهم من الحجاز، وقالوا إن صحيفة (الرائد) هي بمثابة (روزاليوسف) الحجاز.. وكانت (روزاليوسف) في ذلك الوقت غير مرغوب فيها، وطفق الشيخ يعلن، ويعاتبني بقوله: هذا عمل لا يجوز.. وكلام طويل».
ولم تخلُ «الرائد» من تلك المعارك التي كانت ضارية بين الشباب والشيوخ، والتي يمثل الشباب فيها كل من الشابين المتعبين، علي العمير وراشد الحمدان، ويصف أبو مدين ذلك بقوله: «كان العمير في قرية الموسم على حدود اليمن وهي قرية صغيرة، والأستاذ راشد الحمدان كان يدرس في كلية الشريعة بمكة.. وكانا يثيران معارك عنيفة، وكنت أتقبل منهما رسائلهما وأنشرها، ولكن أشهد الله أنني لا أترك لهما ولا لغيرهما مجالا للتطاول على الشيوخ.. لأن جيل التجربة هو موضع الاحترام وموضع التقدير، مهما تغيرت المفاهيم والمقاييس. لقد كانت فترة علي العمير وراشد الحمدان فترة حرجة، وفترة صعبة، ولكن مع هذا كان التوازن مستمرا، وكان هناك احترام للكبار كما قلت، وكنت أوائم بين هذا وهذا، وأقول إني من (الأعراف)، لا أنا من الشيوخ ولا من الشباب، أضع نفسي مع جماعة الأعراف، لا في النار ولا في الجنة، أو بينهما على طريق الجسر».



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».