مهرجان الإسماعيلية السينمائي.. خمسة أيام حافلة بالعروض

أفلام حية تحاصر الواقع وتنقل صوره وحالاته

مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»
مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»
TT

مهرجان الإسماعيلية السينمائي.. خمسة أيام حافلة بالعروض

مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»
مشهد من فيلم «القيادة في القاهرة»

يختتم مهرجان الإسماعيلية أعماله يوم غد، وذلك بعد خمسة أيام حافلة بالعروض التي شملت أفلاما تسجيلية قصيرة وأخرى طويلة وأفلاما روائية قصيرة كما أفلام رسوم متحركة.
مهرجان الإسماعيلية، في دورته السابعة عشرة، تشرف عليه وزارة الثقافة ويرأسه السينمائي كمال عبد العزيز ويديره الكاتب والمنتج الموهوب محمد حفظي، مع حضور جيّد لأعمال سينمائية تثير قضايا فنية غير روائية تطرحها تلك الأفلام المختلفة المشاركة من نحو 35 دولة. بالإضافة إلى بهجة متكاملة تأتي في الوقت ذاته الذي تدخل فيه مصر عهدا جديدا بانتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية. وإذا ما جرى التغلّب على بعض ما تناقلته الصحف المصرية في العام الماضي من عثرات تنظيمية فإن النتيجة هذا العام تبشر بأن تكون أفضل منها في السنوات السابقة.
وأجمعت الصحف المصرية على أن حفل الافتتاح، في الثالث من هذا الشهر، جاء تتويجا للقاء السياسة، في مثل هذه الظروف الإيجابية، مع السينما. وانعكس ذلك بحضور وزير الثقافة محمد صابر عرب والكلمة التي ألقاها، وتلك التي ألقاها أيضا محافظ الإسماعيلية اللواء أحمد القصاص.

* بدايات مذهلة
كل ذلك يأتي وسط المناخات المختلفة التي يمر بها العالم، والعالم العربي تحديدا. ما عاد خفيًّا أن القصد الإعلامي والمعرفي للسينما التسجيلية لم يعد وحيدا أو جوهريا كما كان الحال أيام قام الأميركي روبرت فلاهرتي بتصوير «نانوك الشمال» سنة 1922 والألماني وولتر روتمان بتصوير فيلمه الأعجوبة «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة» (1927) والروسي دزيغا فرتوف بتحقيق «الرجل ذو الكاميرا السينمائية» (1929).
المعرفة لم تكن وحدها عنصر هذه الإنتاجات المبكرة وسواها، بل تصميم الفيلم التسجيلي ليكون فنًّا رديفا لأي فن تصويري آخر. لذلك تعددت الأساليب وليس المواضيع المطروحة وحدها. «نانوك الشمال» يختلف في أسلوب تحقيقه وتصويره لحياة سكان الأسكيمو آنذاك عن فيلم روتمان الذي قدّم مدينة برلين في 65 دقيقة مذهلة من الصور والموسيقى، وهو بدوره مختلف عن ذلك الهاجس السياسي الذي صاغه فرتوف. وحتى عندما تشاركت الأفلام التسجيلية الطويلة الأولى بطرح موضوعها الاجتماعي، كما الحال في «أرض بلا خبز» للوي بونويل (إسبانيا - 1933) و«المحراث الذي هزم الحقول» لبار لورنتز (الولايات المتحدة - 1936) مثلا، فإن لكل منها منوالا مختلفا عن الآخر يتضمّن طريقة التنفيذ وأسلوب التصوير ومعالجة نواحي العمل المختلفة.
انطلق الفيلم التسجيلي من حب معرفة أمر واقع. ملاحظة حياة ورصد ديناميكيّتها وما يجعلها تمضي. إنه تسجيل مباشر (في الأساس) لواقع ما قبل أن يكون وجهة نظر. لذلك فإن «انتصار الإرادة» للألمانية ليني رايفسنتال حول مسيرة واحتفال الحزب النازي سنة 1934 تحدّى الزمن وبقي علامة فنية فارقة رغم موضوعه. كذلك الحال بالنسبة لـ«الأسف والشفقة» للفرنسي مارسل أوفولوس سنة 1969 الذي تخصص في سرد أوجه التعاون بين حكومة فيشي الفرنسية وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
ليس هناك من فيلم من دون وجهة نظر حتى ولو بدت غائبة، وهذا ينطلي على كل ما هو مصوّر تحت مظلّة السينما. لكن من بين الأفلام التسجيلية ما تتقدّم فيها وجهة النظر بحيث تحتل صلب الموضوع من خلال ذلك العرض المكثّف لما تصوّره الكاميرا. أحد أبرز الأمثلة فيلم الأميركية باربرا كوبل المسمّى «هارلان كاونتي يو إس إيه» سنة 1976 الذي عاين إضراب عمّال منجم فحم في مقاطعة هارلن في ضواحي مدينة أوستن، ولاية مينيسوتا. في المقابل غيّب مخرجون آخرون أي طرح اجتماعي، ومن أبرز هؤلاء أندي وورهول الذي صنع فيلما من 485 دقيقة عنوانه «إمباير» نصب فيه الكاميرا ليومين أمام مدخل ناطحة السحاب في نيويورك «إمباير ستايت» من قبل غروب شمس اليوم الأول إلى الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم الثاني. لا حركة كاميرا ولا إدارة أشخاص أو آليات ولا انتقال من وإلى المكان. لا شيء سوى كاميرا مفتوحة وبلا مونتاج!

* المعسكر الواقعي
السينما التسجيلية لها طريق طويل بدأت من فجر السينما إلى اليوم. خلاله تعددت الاهتمامات والأساليب والغايات. وفي الكثير من الأحيان تبعت هذه الغايات الأحداث المختلفة (سياسية أو اجتماعية أو علمية) ولم تسبقها كما الحال مع السينما الروائية التي تتميّز بالمخيلة التي تستطيع فيها - مثلا - الحديث عن الهبوط فوق سطح القمر، كما فعل الفرنسي جورج ميلييس سنة 1902 بعشرة آلاف فرنك التي كانت ثروة كبيرة آنذاك وضعها المخرج - المنتج والمبتكر ميزانية لعمل يصوّر كيف قام فريق علمي بالوصول إلى القمر حيث اكتشفوا وجود مخلوقات متوحشة ما دفعهم للهروب إلى المركبة التي أقلّتهم والعودة بها. هذه المركبة، في إضافة ملموسة وطريفة كالفيلم بكامله، حطّت في قاع البحر حيث بدأت مغامرة أخرى قبل أن يطفو العلماء بعدما برهنوا أن الوصول إلى القمر أمر ممكن.
إذ لا يستطيع الفيلم التسجيلي أن يغادر معسكره الواقعي، يستطيع بالتأكيد أن يصوّر الوقائع أو يعود إليها في شكل توثيقي وأرشيفي أو من خلال مقابلات. فكرة الفيلم التسجيلي هي أن تصوّر الكاميرا ما هو موجود ولو أن البعض - خصوصا في هذه الأيام - يرتكب خطأ المزاوجة بين الدراما والتسجيلي (يسمّونه دوكيودراما) كفعل هجين لا يكفي لاعتباره كفؤًا في أي من المنزلتين. سابقا ما كان مثل هذا التزاوج غير مسموح به على أساس أن من يختار درب التسجيل أو التوثيق لا يستطيع أن يغيّر في الواقع بل عليه الاكتفاء بنقله. على ذلك اتهم روبرت فلاهرتي بأنه طلب من العائلة التي صوّرها في طبيعتها الثلجية القاسية القيام ببعض الأعمال التي عدها ضرورية. بذلك الطلب انتقل من مجرد تصويرها إلى تفعيل حركتها على نحو معيّن بحيث يضمن وجود ما عده مفقودا. لكن هذا الاتهام هو «التلفيق» وكانت ردّة الفعل عليه كبيرة آنذاك. اليوم نجد نماذج من التلفيق لا تكتفي بإخراج روائي لمشهد واحد، بل لمشاهد عدّة. بل الرغبة فيما يُسمّى إعادة البناء وعلى نحو واسع ومغاير لمفهوم السينما التسجيلية كما فعلت المخرجة ناريمان ماري بن عامر في فيلمها الجزائري «لوبيا حمرا» (2013) عندما اختارت الاستعانة بأولاد من اليوم لتمثيل أولاد ما قبل الاستقلال الجزائري في فيلم عد - عن خطأ - تسجيليا وعرض بهذه الصفة في مسابقة الدورة الماضية من مهرجان دبي السينمائي.

* مدينة
تلك الدورة حوت ثلاثة أفلام نجدها متوفّرة في مهرجان الإسماعيلية الحالي وهي «موج» لأحمد نور (مصر) و«حبيبي بيستناني عند البحر» لميس دروزة (الأردن) و«أرق» لديالا قشمر (لبنان).
«موج» استقبل بترحاب كبير أينما شهد عرضا وهو لمخرج جديد يمزج التعبير عن الوضع الحاضر (أيام ثورة يونيو - حزيران) في مدينة السويس بالتاريخ الشخصي للمدينة. موحٍ كيف أن المخرج أحمد نور يصر على تلك النظرة الحانية للمدينة التي يحبّها رابطا متغيّراتها بخمس مراحل مرّ بها كإنسان أيضا. استعراضه للمدينة وتاريخها يمر على تفاصيل غير معروفة حول المدينة التي شهدت انطلاق الثورة المصرية حديثا.
وهو يجعل من البحر حالات انعكاس ذاتية وتأمّلية ليرتاح عنده من حين لآخر. ما لا ينجح فيه هو الحديث عن تلك الطيور السوداء التي اختفت بعدما صدر الأمر بإبادتها. هذا الإشعار بالحنان لطير ضاجّ ومفترس يتنافى مع الرومانسية التي تعتمر الفيلم ما يعمل ضد الرمز المقصود. بل مع مفهوم «طيور الظلام» الذي يدمجه المخرج كوضع استتب لحين في حياة المدينة الجميلة.
ومن المدينة إلى حي منها. ففيلم «أرق» للمخرجة اللبنانية ديالا قشمر عمل من المقابلات المفتوحة مع شباب حي من بين أفقر أحياء بيروت ينتمون إلى الطائفة الشيعية متحدّثين عن ماض مؤلم ومستقبل مجهول. المرء يبقى مع هذه الحالات ليعلم عنها، لكنه لا يخرج بمفاد أكثر من لعب الفيلم للدور التعريفي من دون بلورة الأبعاد المأمولة.
ينتهي هذا الفيلم بعد 109 دقائق من بدء عرضه من دون أن يوفّر السبب الذي حدا بالمخرجة ديالا قشمر إلى تحقيقه. لا تبدي المخرجة دافعا ذاتيا ولا مبررا اجتماعيا أو وطنيا، بل تلتقط الكاميرا وتصوّر مجموعة من الشباب الشيعي وهو يتحدّث عن كل شيء ولا شيء.
مشاهد الفيلم تمر على سجيّتها بالفعل، وحين لا يجري ترتيبها حسب مفاد ما، تبقى كذلك على الشاشة ما يجعل الفيلم مجرد تسجيل لا يقدّم في حياة أحد أو يؤخر فيها. تتحدّث قشمر إلى شباب واحد من الأحياء الأكثر فقرًا في بيروت (إن لم يكن الأكثر فقرًا بالفعل) وتبدأ بأشخاص يتعهدون بإيجاز تاريخه إنما حسب رواياتهم. على تعدد هذا البوح الذي يوليه البعض من هؤلاء الرجال وجدنا الفيلم يدور حول المحاور ذاتها ولا يضيف إليها جديدًا. يرتفع الفيلم إلى مستوى من الأهمية في الجلسات الأخيرة مع انفتاح الرجال أكثر في أحاديثهم لكن ذلك لا يترك أي تأثير ولا يعكس تصاعدا فنيا من أي نوع. استخدام الكاميرا (أحيانًا خفية) محدود لحدود تطلعات المخرجة التي لا تضع في حسبانها أي طموح فني يمكن للفيلم الاستفادة منه.

* سريالية
الفيلم الثالث، «حبيبي بيستناني عند البحر»، الذي سبق الحديث عنه هنا، بضع مرات، هو الأكثر تكاملًا بين هذه الأعمال المشاهدة. المخرجة ميس دروزة تنتقل بين أشعار حسن حوراني وبين الصور المسجّلة اليوم في منحى بحث المخرجة عما بقي من الهوية الفلسطينية. وبطريقة لا تخلو من الشعرية بدورها، يطل البحر ليس فقط من خلال العنوان بل من خلال الحاجة إليه. هو محور من محاور البحث والأحاديث التي تجريها المخرجة مع من تلتقيهم من نساء ورجال إلى جانب محور التمسّك بالهوية الوطنية رغم تشتت الوضع وشعور الشباب بالمنفى حتى وإن كانوا يعيشون فوق أرضهم الواقعة ضمن خطر الاقتضام المتواصل. بين من تتناول حياتهم كاميرا المخرجة الأردنية عائلة من رجل وزوجته وطفلهما ترتسم في أرجاء عيشهم المشترك تاريخ القضية وحاضرها راسمة علامات على مستقبلها أيضًا.
حسنًا فعل مهرجان الإسماعيلية بالحد من عروض الأفلام التي سبق لها واشتركت في مهرجاني دبي وأبوظبي رغم أن هذين المهرجانين عرضا في العام الماضي بعض أفضل ما جرى تحقيقه (والقليل من الأسوأ أيضًا).
المهرجان ليس عربي الاهتمام فقط، بل هناك أفلام من بقاع العالم المختلفة في مسابقاته المتعددة، ولو أنه من المثير للاهتمام كيف أن استقبال الفيلم المصري يحتفظ بوقعه الوطني كإنتاج يتحدّث لغة البلد وثقافته قبل أن يقود للحكم له أو عليه. في هذا الإطار جاء فيلم الافتتاح «عن يهود مصر: نهاية رحلة» لأمير رمسيس الذي هو رديف لفيلمه السابق حول يهود مصر. لكن في حين أن الفيلم السابق تعامل مع التاريخ وحده، ينتقل الفيلم الجديد إلى حاضر الجالية اليهودية التي آثرت البقاء في مصر ويستدرجها في الحديث عن أسباب عدم نزوحها أو هجرتها.
الفيلم الآخر في هذا الاحتفاء هو «القيادة في القاهرة». على هناته (نتيجة التطويل) هو فيلم قفشات مرحة ضمن الملاحظات الناقدة لما تحمل به قيادة السيارات والمركبات المختلفة في العاصمة المصرية. ذلك القاموس الخاص من المفردات الشفهية والصامتة. الفوضى المحببة (وأحيانًا الخطرة) وفن البقاء قيد الحياة في منوال يومي ملؤه الخطر مع تلك السيارات والعربات والدراجات المتلاحمة. من العربة التي يجرّها الحمار إلى السيارات الخاصّة مرورًا بالتاكسيات والدراجات النارية يرسم المخرج عالمًا هو سريالي في كلّيّته.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)