مرة جديدة يغلب الرئيس الفرنسي مبدأ «الواقعية السياسية» في قراءته للعلاقات الدولية، وللدور الذي يمكن لباريس أن تلعبه في إطارها. وبرز تمسك إيمانويل ماكرون بـ«البراغماتية»، كنهج سياسي في تناوله للحرب في سوريا، في حديث أذاعته القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، لم يكن في الأساس مخصصاً للأزمة السورية، وإنما لتقويم ما تحقق في عهد ماكرون منذ وصوله إلى قصر الإليزيه في شهر مايو (أيار) الماضي، في المجالين الداخلي والخارجي.
وبعيداً عن الجدل الذي دار في باريس حول «الإخراج» المسرحي للمقابلة التي تمت وقوفاً، وخلال تجوال في قاعات القصر الرئاسي، فإن ما جاء على لسان ماكرون لا يحمل في الجوهر أية تغييرات حول ما نعرفه وما قاله سابقاً بالنسبة للنزاع السوري ودور النظام ومصير رئيسه. ويتلخص ما قاله ماكرون في 3 أمور رئيسية: أولها أن نهاية الحرب في سوريا على تنظيم داعش لم تعد بعيدة، بحيث إنها لن تتعدى «منتصف أو نهاية شهر فبراير (شباط). و(عندها) نكون قد ربحنا الحرب في سوريا». والأمر الثاني يتمثل في الخلاصة التي توصل إليها ماكرون من قراءته لمسار الحرب، حيث يعتبر أن روسيا وإيران هما من ربح الحرب. وبالتالي، فإن الرئيس الأسد، الذي وصفه بـ«المحمي» منهما، ما زال موجوداً في موقعه. وانطلاقاً من مبدأ التعامل مع ما هو موجود، يرى ماكرون أنه يتعين التعامل مع الأسد. وقال الرئيس الفرنسي ما حرفيته: «بشار الأسد سيكون موجوداً، لأنه محمي من جانب أولئك الذين ربحوا الحرب على الأرض، سواء إيران أو روسيا. من هنا، لا يمكن القول إننا لا نريد التحدث إليه أو إلى ممثليه». وبالتالي، فإن «المطلوب إذن التحدث إلى بشار ومن يمثلونه».
لكن ماكرون يستدرك سريعاً، ليتحدث مجدداً عن التجاوزات التي ارتكبها النظام، والتي لا يمكن، وفق كلامه، تناسيها. من هنا، فإن الرئيس الفرنسي الذي يعتبر أن عدوه هو «داعش»، بينما «الأسد عدو الشعب السوري» يدعو إلى «محاسبته على جرائمه أمام شعبه، وأمام القضاء الدولي». وبكلام آخر، لا يرى ماكرون بقاء الأسد في السلطة يعني قلب صفحة ما عرفته الحرب السورية، وتناسي التقارير الدولية التي تحدثت عن الفظاعات التي جرت وما زالت تجري بسببها.
أما الأمر الثالث، فيتناول الرسالة المزدوجة التي أراد ماكرون توجيهها من خلال مقابلته التلفزيونية. فعندما يتحدث عن تاريخ محدد لنهاية الحرب على تنظيم داعش، فإنه يريد لفت الأنظار إلى الدور الفرنسي العسكري والعملياتي الذي قامت به قواته. وبالتالي، فإن لباريس «كلمتها» في الحديث عن نهاية المعارك. وبحسب مصادر فرنسية، فإن باريس تتبنى الرؤية الأميركية التي تقول إن الحرب لم تنته، وبعكس ما يؤكده الطرف الروسي.
وتضيف هذه المصادر أن الرئيس بوتين الذي استغل تعريجه السريع على مطار حميميم الأسبوع الماضي، في طريقه إلى القاهرة، أراد استخدام انتهاء العمليات العسكرية في سوريا، وبدء سحب القوات الروسية، لأغراض محض سياسية، وتوفير «حدث» سياسي مهم للإعلان عن ترشحه لولاية رئاسية رابعة. لكن ثمة سبباً آخر للموقف الفرنسي، وهو قانوني، إذ إن إعلان التحالف عن نهاية الحرب سيعني «سحب الحجة القانونية» التي تسمح له بالقيام بعمليات عسكرية في سوريا، والإبقاء على قوات في أجوائها وأراضيها.
وتؤكد هذه المصادر أن باريس «لا تريد أن تستعجل واشنطن الانسحاب، وترى أن البقاء في سوريا يمكن أن يكون وسيلة للتأكد من التوصل للحل السياسي المنشود».
وفي سياق هذا الحل، يقع الشق الثاني من الرسالة المزدوجة، وهو يتناول الدور الذي ما زالت باريس تسعى للقيام به. وقد أعلن ماكرون أنه «في العملية التي تأمل فرنسا في أن تنطلق بداية العام المقبل، سيكون هناك ممثلون للأسد، لكنني آمل أيضاً أن يكون هناك ممثلون لكل مكونات المعارضة، بمن فيهم أولئك الذين غادروا سوريا من أجل أمنهم بسبب بشار الأسد، وليس بسبب (داعش)».
ويستشف من كلام ماكرون أن باريس لم تتخل نهائياً عن «مبادرتها» القائمة على «مجموعة الاتصال»، المشكلة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي عقدت اجتماعين: الأول، على المستوى الوزاري في نيويورك، في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. والثاني، على مستوى ممثلي الحكومات في جنيف، قبيل انطلاق الجولة الثامنة التي انتهت من غير نتائج ملموسة، على غرار ما سبقها من جولات.
ومع ذلك، فإن باريس ما زالت متمسكة بمشروعها، بل إن ماكرون أضاف إلى مجموعة الخمس ممثلين عن النظام وآخرين عن المعارضة. ويبدو أن اختيار التوقيت يرتبط باقتراب مؤتمر سوتشي لـ«الحوار الوطني السوري»، الذي تعمل موسكو على عقده بدعم تركي وإيراني. لكن الغربيين، رغم تسليمهم ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية على الأقل، واقترابهم من التصور الروسي للحل، ما زالوا مقتنعين بأن الحل السياسي لن يقوم من غير مظلة دولية، أكان في صيغة جنيف أو أية صيغة أخرى، ما يعني ضمناً إعادة تدوير خطة «مجموعة الاتصال» التي يمكن أن تتوسع لتضم الخمسة الكبار والدول الإقليمية المؤثرة في الملف السوري، والسوريين أنفسهم، نظاماً ومعارضة.
هل تنجح الصيغة الجديدة، حيث بقيت الصيغة القديمة من غير نتيجة؟ السؤال مطروح، لكن كثيراً من المتابعين والخبراء في الملف السوري يبدون مشككين بذلك، رغم قناعتهم بالمقاربة «النظرية» الفرنسية. فمن جهة، ليس من دلائل حتى اليوم تؤشر على رغبة موسكو في أن تتقاسم مع الغربيين صيغة ما تراه مناسباً كحل. وما زالت العواصم الغربية الكبرى (واشنطن وباريس ولندن) تدعو وتلح على موسكو للتدخل لدى الأسد من أجل القبول ببدء النقاش بشأن الحل السياسي، ما يعني أنها فاقدة للأوراق الضاغطة.
وأمس، عادت الخارجية الفرنسية لتطالب موسكو بذلك. أما السبب الآخر المتعارف عليه، فيتناول «النأي» الأميركي عن الأزمة السورية في شقها السياسي، واستمرار واشنطن في التركيز على الجوانب العسكرية من الحرب على «داعش»، وعلى الدواعي والضمانات الأمنية لإسرائيل والملف الكردي السوري.
ماكرون لا يستبعد حواراً مع الأسد {عملاً بمبدأ البراغماتية السياسية}
باريس تسعى لإعادة طرح «مجموعة الاتصال» عبر توسيعها
ماكرون لا يستبعد حواراً مع الأسد {عملاً بمبدأ البراغماتية السياسية}
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة