آدامز وجيفرسون... رئيسان مختلفان وحّد بينهما الموت في اليوم نفسه

هل أميركا واقعية أم مثالية؟

جون آدامز - توماس جيفرسون
جون آدامز - توماس جيفرسون
TT

آدامز وجيفرسون... رئيسان مختلفان وحّد بينهما الموت في اليوم نفسه

جون آدامز - توماس جيفرسون
جون آدامز - توماس جيفرسون

صدرت مئات، وربما آلاف، الكتب عن جون آدامز، الرئيس الأميركي الثاني (بعد جورج واشنطن)، وتوماس جيفرسون، الرئيس الأميركي الثالث. وقارنت بعض هذه الكتب بين الرجلين، لكن يتميز كتاب «صديقان منقسمان: جيفرسون وآدامز» لثلاثة أسباب: أولاً، مؤلفه غوردن وود واحد من أكثر المؤرخين الأميركيين تخصصاً في الرجلين؛ كتب عن كل منهما أكثر من كتاب، لكن هذه أول مرة يقارن بينهما، وهو الآن أستاذ متقاعد في جامعة براون (ولاية ماساتشوستس). وثانياً، ليست هذه مقارنة عسكرية أو سياسية، بقدر ما هي فلسفية، عن الصراع الأبدي بين المثالية (جيفرسون) والواقعية (آدامز).
هل أميركا مثالية أم واقعية؟ يظل هذا السؤال يؤرق الأميركيين منذ عهد جيفرسون وآدامز، كما يوضح هذا الكتاب الذي ضمت فصوله عناوين مثل: «تناقضات بين صديقين»، و«نساء في حياة كل واحد»، و«الاستقلال»، و«الثورة الفرنسية»، و«ثورة جيفرسون»، و«المصالحة».
يقول الكاتب: «تمتلئ العلاقة بينهما بتناقضات ومفارقات، هي نفسها - تقريباً - التي تمتلئ بها الولايات المتحدة عبر تاريخها. فميل شخص نحو المثالية، أو نحو الواقعية، ينمو في أعماق الشخص منذ بداية حياته، اعتماداً على بيته وتربيته وتعليمه».
كان جيفرسون أرستقراطياً ومزارعاً إقطاعياً يملك عشرات العبيد، وكان آدامز شعبياً فقيراً لا يملك عبيداً. وكان جيفرسون جنوبياً من ريف ولاية فرجينيا، وكان آدامز شمالياً من ولاية ماساجوتيشستش. وكان جيفرسون سفيراً في فرنسا (تأثر بمثاليات الثورة الفرنسية، ومنها القضاء على الملكية)، بينما كان آدامز سفيراً في بريطانيا (تأثر بواقعية البريطانيين، وقبلوهم بالملكية).
ويرى المؤلف أن جيفرسون كان أخلاقياً مثالياً، يؤمن بأن الإنسان خلق صالحاً، لكنه واجه إغراءات القوة والثراء، في حين آمن آدامز بقوة أخلاقية داخلية، لكنها ضعيفة لا تقدر على مواجهة هذه الإغراءات.
في ذلك الوقت، لم تكن أوصاف مثل «ليبرالي» و«محافظ» قد دخلت القاموس السياسي الأميركي؛ كانت «الوطنية الأميركية» تجمع الجميع تقريباً ضد الاستعمار البريطاني. لكن بمقاييس اليوم، كان جيفرسون ليبرالياً، وكان آدامز محافظاً.
صار الأرستقراطي أب المثالية، وصار الشعبي أب الواقعية.
كان جيفرسون يؤمن بأن كل المواطنين متساوون؛ أيد النظام الرأسمالي، لكنه دعا إلى قيود حكومية عليه، وذلك لضمان عدم استغلال مواطن لمواطن، بينما كان آدامز يرى أن النظام الرأسمالي ليس عن المساواة («سيظل هناك دائماً أغنياء وفقراء»)، ولكن عن التقدم الحضاري («يمكن أن تعرقل الديمقراطية التقدم الحضاري»).
وأضاف الكتاب: «قال جيفرسون للأميركيين كلاماً جميلاً، يريدون أن يسمعوه، عن مثاليتهم ونزاهتهم وطموحاتهم وأحلامهم، لكن آدامز خاطبهم بخطاب واقعي: لسنا أحسن كثيراً من غيرنا؛ عندنا محاسن ومساوئ، وعندنا ذنوب، مثل الشعوب الأخرى».
ويستنتج المؤلف من كل ذلك أنه «عبر تاريخنا، نظل نكرر ما قال جيفرسون، ونهمل - بل ننكر (وكأنه لم يحدث) - ما قاله آدامز».
ليس كل هذا الكتاب فلسفياً ونظرياً، إذ يوجد فيه فصل عن اختلافات أخرى بين الرجلين، مستنداً إلى ما كتبه الصحافي ويليام ماكلي عام 1790: «جيفرسون إنسان راقٍ مثير للانتباه، وآدامز يضحك بطريقة سخيفة ويعتقد أنه شخص مهم»، إضافة إلى ما كتبه المؤرخ صمويل كناب عام 1826: «كتابات جيفرسون تسبح بك في سماوات عالية وتسعدك، وكتابات آدامز تتوقف ثم تسير، ثم تتوقف ثم تسير».
وتوجد هناك اختلافات أخرى، إذ لم يكن الاثنان متدينين حقيقيين، لكن جيفرسون ابتعد أكثر من آدامز عن الدين، كما أن عصر التنوير في فرنسا أثر على جيفرسون في مجال التعامل مع النساء، فكن لهن احتراماً غير عادى، كجزء من إيمانه بالتحضر. وعلى الرغم من أن آدامز كان «جنتلماناً»، لكنه اعترف بتجاوزات «خشنة».
ولكن على الرغم من اختلافهما، خصوصاً في مفهومي المثالية والواقعية، جمعهما دورهما التاريخي في تأسيس الولايات المتحدة، وجمعهما أيضاً يوم موتهما، فقد ماتا يوم 4 يوليو (تموز) عام 1826، يوم الاحتفال بمرور 50 عاماً على تأسيس الولايات المتحدة، غير أنهما تنافسا حتى في الموت؛ علم آدامز وهو على فراش الموت بأن جيفرسون مريض، فقال: «لكنه حي، وها أنا أموت»، ولم يكن يعرف أن جيفرسون مات قبل 5 ساعات من موته هو.
اليوم، يزور ملايين السياح «مونتشيلو»، منزل جيفرسون العملاق في شارلوتزفيل (ولاية فرجينيا)، ولا يكاد الناس يعرفون منزل آدامز المتواضع في كوينزي (ولاية ماساتشوستس). ويوجد نصب تذكاري عملاق لجيفرسون في واشنطن العاصمة، مع نصب واشنطن وإبراهام لنكون وفرانكلين روزفلت (وحتى مارتن لوثر كينغ)، ولكن لا يوجد أي نصب تذكاري لآدامز.
حقاً، يفضل الأميركيون المثالية على الواقع.


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».