نظرة إلى الصراع المتنامي بين «القاعدة» و«داعش» في سيناء

مزاعم التنافس على «الصدارة» و«الشرعية» تتكرر بعد حادث الروضة

قوات الأمن المصرية قبل أول صلاة جمعة أمام مسجد الروضة بعد الهجوم الإرهابي (رويترز)
قوات الأمن المصرية قبل أول صلاة جمعة أمام مسجد الروضة بعد الهجوم الإرهابي (رويترز)
TT

نظرة إلى الصراع المتنامي بين «القاعدة» و«داعش» في سيناء

قوات الأمن المصرية قبل أول صلاة جمعة أمام مسجد الروضة بعد الهجوم الإرهابي (رويترز)
قوات الأمن المصرية قبل أول صلاة جمعة أمام مسجد الروضة بعد الهجوم الإرهابي (رويترز)

في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أعلنت جماعة «أنصار الإسلام» المنتمية لتنظيم «القاعدة» تبنيها لعملية الواحات التي وقعت في 21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وراح ضحيتها 16 عنصرا من قوات الأمن، لكنها على العكس من ذلك سارعت في 26 نوفمبر بنفي مسؤوليتها عن تفجير مسجد قرية الروضة التي تبعد عن محافظة العريش 50 كم، وتبعد عن مركز بئر العبد 40 كم والذي وقع ضحيته 305 قتلى و138 مصابا يوم الجمعة قبل الماضية 24 نوفمبر الماضي.
يعد تفجير مسجد «الروضة» من حيث عدد الضحايا، الأكثر ضخامة بين عمليات الإرهاب في مصر، إذ إنه يتجاوز حادث التفجير الإرهابي للطائرة الروسية التي تحطمت بعد مغادرتها مطار شرم الشيخ الدولي في 31 أكتوبر 2015، وراح ضحيته 224 قتيلا على متنها، ومتجاوزاً كذلك حادث الأقصر الشهير في نوفمبر عام 1997 الذي راح ضحيته 58 سائحاً، كما أنه رغم قربه الزمني يتجاوز أضعافا كثيرة حادث عملية الواحات في الصحراء الغربية قبله بأسابيع قليلة.
كما يعد الحادث الثاني في ترتيب عمليات الإرهاب في العالم خلال العام الحالي 2017 وقبله التفجير الانتحاري الذي قامت به حركة الشباب، في أكتوبر الماضي (2017)، في العاصمة الصومالية مقديشو، الذي أودى بحياة أكثر من 358 قتيلاً. يرشح حادث مسجد الروضة لمزيد من الصراع بين «القاعدة» وفروعها من جهة وبين «داعش» من جهة أخرى، وهو الصراع الذي بدأت بوادره خلال الشهرين الماضيين، حيث أعلنت جماعة جند الإسلام في سيناء إصرارها على إقامة الحد على خوارج «داعش» كما وصفتهم في 11 نوفمبر الماضي.
نرجح أن الصراع بين «داعش» و«القاعدة»، سينقل بملامح مشهديه السوري والعراقي، كاملا إلى سيناء المصرية، في الصدام بينهما، والصراع على قيادة الجهاد العالمي وشرعية القبول لدى الآخرين، والتوسع في استهداف المدنيين ودور العبادة، الكنائس والمساجد، والصراع الوجودي بينهما واستهداف كل منهما للآخر بشكل كامل، خاصة مع تحول غلاة «داعش» لمنحى أكثر تكفيرية تجاه رموز «القاعدة» الكبيرة شأن زعيمها الراحل أسامة بن لادن أو زعيمها الحالي أيمن الظواهري وتكفيرهم في عدد من الكتيبات التي صدرت مؤخرا في الجبهة السورية والعراقية، ويتم تداولها.
الارتباك الداعشي ووعيد «القاعدة»
باستثناء «داعش»، أعلنت مختلف المجموعات الإرهابية في سيناء تبرؤها من استهداف المسجد ومصليه في قرية الروضة، بدءا من جماعة «أنصار الإسلام»، وجماعة «جند الإسلام» وقبله بيان حركة «حسم» الإرهابية، غير الموجودة أو النشطة في سيناء، وهو ما تزامن مع عظم الغضب والتنديد الشعبي والرسمي والدولي ضد هذه العملية الإرهابية.
بدأ الارتباك والتردد واضحا على «داعش سيناء»، في تعاطيها مع حادث تفجير مسجد الروضة، ومن باب التورية، نشرت «داعش» الأم بعد الحادث بيوم بيانين بعيدين عن موضوعه، وعن استهداف عناصر من الجيش المصري وفي العراق واليمن وغيرها، دون أن تتبنى عملية مسجد الروضة أو تدينها، وسكت التنظيم، عبر مختلف أذرعه الإعلامية عن التصريح أو إصدار أي بيان، ولكن ظلت إشارة الاتهام إليه، قائمة ومرجحة عند الكثيرين، واتهامه الذي يرجحه الجميع، وهو ما يفسر بخوفه من وقع وتداعيات العمل عليه، الذي لا يعدم الكثير من الأذرع الإعلامية التي تعبر عنه.
فقد جاء بيان جماعة «أنصار الإسلام» يحمل الوعيد، وينذر بمزيد من الصدام بين «داعش» و«القاعدة» في سيناء، وجاء عنوانه «قتل المصلين براءة من الله وعهد على الثأر من المعتدين»، مؤكدا على الثأر ممن قام بهذه الجريمة، ومن أيدها، في بيان جماعة «أنصار الإسلام» المرجح ارتباطها بـ«القاعدة» كذلك فعلت جماعة «جند الإسلام» التي يرجح ارتباطها بالسابقة أو بـ«القاعدة» كذلك، وتهديدها القائمين بهذا العمل، وسبق أن استهدفت هذه الجماعة تحديدا عناصر «داعش» في عدد من العمليات أعلنتها في 11 نوفمبر الماضي 2017 «جند الإسلام»، ضد تنظيم داعش أو من سمتهم بخوارج البغدادي في سيناء.
«داعش» وأدلة التورط
يرجح توجه «داعش» وارتكاب هذا الجرم الشنيع الذي يليق بها تاريخها في مناطق وجودها المختلفة، حيث تنفي الاختلاف ولا تبالي باستهداف المدنيين أو المختلفين، أيا كانوا من تنظيمات منافسة أو اتجاهات معادية أو مخالفة، يفعلها غلاتهم مع كل مخالفيهم سواء كانوا علماء كما فعلوا في العراق أو سوريا، أو متشددين مختلفين معها، كما فعلوا مع أبي خالد السوري القيادي القاعدي المعروف في مارس (آذار) سنة 2014 والذي كان منطلق الخلاف مع «القاعدة» فيما بعد، أو معاركهم الدائمة مع التنظيمات المخالفة التي ترفض بيعتها وخليفتها في كل مكان، حتى استهدف الأخير شيخه السابق أبو عبد الله المنصور قائد جيش المجاهدين في العراق وأصر على قتله حسب ما رواه أبو ماريا القحطاني وغيره، وكان من مواضع الخلاف القوية بينهم وبين النصرة التي فصلت بينهم كذلك فيما بعد، ثم استمر قتالهم وتصفية المتطرفين والغلاة لبعضهم بعضا أو لمخالفيهم.
وفي سيناء تحضر الكثير من الشواهد على ارتباك «داعش» وترددها في إعلان مسؤوليتها عن عملية مسجد الروضة، في مقدمتها ما قام به التنظيم في 19 نوفمبر سنة 2016 حين نفذ مجرموه جريمة قتل سليمان أبو حراز، أحد أكبر مشايخ الطرق الصوفية بمحافظة سيناء المصرية والبالغ من العمر حينها 98 عاما مع شيخ آخر، ونشر التنظيم فيديو يظهر إعدامه ذبحا على الهواء.
كما يؤكد المسؤولية الداعشية عن تفجير مسجد الروضة ما نشره منظر التنظيم أبو مصعب المصري، منسوب سابق لجماعة الإخوان المسلمين، وكبير شرعيي «داعش» سيناء الآن، في العدد 58 من نشرة «داعش» «النبأ» الصادر في 7 ديسمبر (كانون الأول) عام 2016 حيث هدد هذا الداعشي في حوار معه ثلاثة مساجد للصوفية في مصر باستهدافها، كان في مقدمتها مسجد عيد أبو جرير بقرية الروضة بسيناء الذي شهد المجزرة البشعة الجمعة الماضية وسقط فيها 305 قتلى، وزاوية العرب بالإسماعيلية، وزاوية سعود بالشرقية، وكلها مساجد تابعة للطريقة المذكورة.
استحلال دور العبادة... سمة مشتركة
مما يرجح مسؤولية «داعش» عن هذا الجرم الإرهابي غير المسبوق فهو تاريخ عمليات الإرهاب، من «داعش» إلى بعض فروع «القاعدة» في تفجير دور العبادة واستحلالها، الذي سنه سلفه أبو مصعب الزرقاوي في فبراير (شباط) 2006 بتفجير مزارات ضريحي علي الهادي والحسن العسكري في سامراء في العراق المقدسين لدى الطائفة الشيعية، وهو ما ردت عليه بعض الميليشيات الشيعية الفعل بإحراق مساجد سنية وهدمها وحدثت أعمال قتل عشوائي وأعلن الوقف السني أن ما يقرب 168 مسجداً سنياً تعرض للهجوم وتم قتل 10 أئمة في المساجد وخطف 15 آخرين في بغداد وحدها.
ثم أتى النموذج المعروف في تفجير كنيسة سيدة النجاة في 31 أكتوبر عام 2010، والتي أسفرت عن مقتل 58 قتيلا وإصابة 78 آخرين، ثم كان التفجير التالي في تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية الأول من يناير (كانون الثاني) سنة 2011 الذي أسفر عن سقوط 21 قتيلا وسبعة وتسعين جريحا حينها.
ويبدو هذا الاستهداف سمة كل الأبجديات المتطرفة وتوظيفاتها المتبادلة، قصدا أو من دون قصد، فردا على جرائم «داعش» في المدن العراقية وتماهيا معه كان تفجير وقتل سبعين من المصلين في مسجد ديالى السني في أغسطس (آب) سنة 2014 ثم مقتل 75 مصليا في مسجد بها أيضا في يناير سنة 2015 بعد خروج «داعش» منها من قبل ميليشيات شيعية.
كذلك بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء وتمددهم جنوبا، بلغ عدد المساجد في تعز وحدها التي تم تفجيرها والاعتداء على حرمتها عشرين مسجدا بها فقط، في الفترة بين 24 أبريل (نيسان) إلى 22 يونيو (حزيران) من العام الحالي، حسب شبكة الراصدين المحليين، وفي 29 يوليو (تموز) الماضي أعلنت «داعش» تبنيها تفجير مسجد لطائفة البهرة في صنعاء العاصمة، راح ضحيته أربعة قتلى وسبعة مصابين.
كذلك، بعد سيطرة «داعش» على الموصل العراقية، أقدمت عناصرها على تدمير وحرق 11 كنيسة وديراً من أصل 35 موجودة في عموم المدينة التاريخية.
وبعد سيطرتهم على دير الزور السورية تم رصد هدم كنيسة السريان وكنيسة اللاتين ودير الرهبان الفرنسيسكان الكبوشيين، والكثير من كنائس وأديرة سوريا تعود إلى القرون المسيحية الأولى، وأهمها كاتدرائية مار سمعان العامودي الواقعة على بعد نحو 40 كيلومترا من حلب والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي، وهي من أجمل وأكبر الكنائس في العالم حيث تبلغ مساحتها 5000 متر مربع.
وقد بلغ عدد المساجد التي دمرتها «داعش» في سوريا والعراق، حتى أواخر يونيو 2015 نحو 50 مسجدا، لكن بجوار عملياتها العسكرية والانتحارية الأخرى حتى سقوطها.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟