البابا في ميانمار... الطريق لمواجهة العنف والأصولية البوذية

أذاقت مسلمي الروهينغا العذاب في الأعوام الماضية

بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
TT

البابا في ميانمار... الطريق لمواجهة العنف والأصولية البوذية

بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)

ذات يوم تندر الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين على البابا بيوس الثاني عشر، بابا الفاتيكان، بالتساؤل «كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟»، لم يكن أحد يدري بأن هذه السلطة الروحية سيكون لها بعد بضعة عقود من النفوذ ما يمكّنها من مواجهة النفوذ الشيوعي في أوروبا الشرقية.
لنتذكر ما الذي يدعونا إلى هذه الأحداث؟ بلا شك الزيارة الأخيرة التي قام بها بابا الفاتيكان فرنسيس إلى دولة ميانمار بورما، وجعل هدفه مقاومة الشر القائم هناك، والمتمثل في الأصولية البوذية، تلك التي أذاقت مسلمي الروهينغا العذاب الكبير والكثير في الأعوام الماضية.
لم يكن للبابا أن يصطحب معه الجيوش ليغيّر من الأوضاع على الأرض، لكن إعلاء الحقيقة، كان رائده في رحلته، رغم القيود العريضة، والفخاخ التي نصبتها له قوى التطرف قبل الذهاب إلى هناك.
يعنّ لنا أن نذكّر القارئ بأوضاع المعذبين في الأرض من مسلمي الروهينغا، فقد سحبت السلطات الحكومية منهم الجنسية قبل أن تسعى إلى تهجيرهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم، حرقاً أو غرقاً، لا يهم، فجُلّ اهتمامات الحكومة هناك إخلاء إقليم «راخين» منهم، وفرض الحكم البوذي فيها، وهي في ذلك تستخدم كل ألوان الكذب والتضليل على الرأي العام العالي.
ولعل القارئ المحقق والمدقق للمشهد هناك موقن بأن ما يجري في بورما هو عملية إبادة جماعية دون أي تهويل، بل مجزرة وتطهير عرقي؛ فالقوات المسلحة هناك المدعومة من الميليشيات البوذية المغرقة في تطرفها ترتكب أبشع أنواع الظلم والاضطهاد ضد المسلمين الروهينغا؛ ولهذا لم يعد صادماً أو مثيراً قيام القوات البورمية، على تعدد أنواعها واختلاف أشكالها، بالقتل بشكل عمومي ومن ثم إحراق القرى واحدة تلو الأخرى، واغتصاب النساء وتهجير قسري لسكان المدن.
بحسب المراقبين، تتمثل الفكرة الوحيدة في تعزيز نفوذ الأصوليين البوذيين الذين يؤمنون بفكرة النقاء العرقي، وعليه فإنه لا هم لهم ولا هدف ينشدونه سوى تهجير مسلمي أراكان، وجعل المنطقة خالية من أتباع الإسلام، لتضحى فضاءً مباحاً ومتاحاً للبوذيين، وقد وصل عدد الضحايا، بحسب بعض التقارير، إلى 14 ألف قتيل وجريح، وربع مليون مهجّر، منذ بداية الأزمة.
موقف الفاتيكان
الشاهد، أن صوت البابا فرنسيس، الأرجنتيني الجنسية، ارتفع مرات كثيرة أمام التوحش البوذي هناك، وندد في فبراير (شباط) الماضي بما يجري هناك بالقول: «إنهم يتعرضون للقتل والتعذيب؛ لأنهم يريدون ممارسة ثقافتهم ومعتقداتهم الإسلامية».
وفي مواجهة الاضطهاد الممنهج والإبادة الجماعية التي يتعرض لها مسلمو الروهينغا، ارتفع صوت البابا فرنسيس مرة أخرى في 27 أغسطس (آب) الماضي، معلناً تضامنه معهم، ومطالباً باحترام حقوقهم، واصفاً إياهم بأنهم «إخوة لنا، يتعرضون لأذى والاضطهاد بسبب إيمانهم وعقدتهم».
هل كان فرنسيس مرحباً به هناك؟
الواقع أنه وفيما كان البابا في الطريق إلى بورما كانت رحى الأصولية البوذية تعمل بجد ونشاط على تعكير صفو رحلته، وإبداء استعدادهم لتهديد البابا شخصاً إذا تلفظ بـ«كلمة روهينغا».
القومية والشوفينية القاتلة هي آفة العصر؛ ولهذا رأينا رهبان بوذيين قوميين في ميانمار يستنكرون زيارة البابا للبلاد ودعوة الحكومة له، فقد أصدر «الاتحاد الوطني لرهبان ميانمار» بياناً وصف فيه الزيارة بأنها «قمع» لميانمار البوذية؛ كون البابا قد تحدث في السابق صراحة عن أزمة الروهينغا.
أما الراهب البوذي المتطرف يوثاو باركا، المتحدث باسم المنظمة البوذية «ما باثا»، فقد وجّه تهديداته إلى البابا قائلاً: «سيلقى البابا فرنسيس جميع مظاهر الترحيب المنوط بها لاستقباله، لكن حال إعرابه عن دعمه أقلية الروهينغا سيفتح على نفسه موجة من الانتقادات لن يقوى على التصدي لها».
ورغم أن البابا فرنسيس رفض طوال العام الماضي الإذعان لهذه الضغوط، واستخدم مراراً وتكراراً لفظة «روهينغا»، واصفاً أبناء هذه الطائفة التي تتعرض للاضطهاد بأنهم «إخوة وأخوات لنا»، فإنه امتنع بالفعل في زيارته الأيام الأخيرة عن الإشارة بالتصريح إلى تلك الجماعة المسلمة المضطهدة، وإن كانت أحاديثه قد امتلأت بالإشارات الضمنية وغير المباشرة لهم.
أحاديث خلف الكواليس
على أنه إذا لم يكن البابا قد تحدث علانية عن «الروهينغا» بالاسم، فهذا لا يعني أنه لم يتطرق إلى المسألة في الكواليس وبطريقة لا تثير مشاعر الأصوليين البوذيين.
نؤكد أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث وفي هدوء، ودون صخب أو ضجة، وتمثل في لقاء البابا بقائد جيش ميانمار الجنرال مين أونغ هلاينغ، المتهم بممارسة التطهير العرقي ضد الروهينغا.
اللقاء أدرج في اللحظات الأخيرة ضمن برنامج البابا، وبناء على طلب الكارينال تشارلس بو، رئيس أساقفة رانغون، لكن لماذا هذا اللقاء مع الجنرال مين أونغ هلاينغ؟
أحد المصادر الفاتيكانية المقربة أشارت إلى أنه كان لا بد من هذا اللقاء خلال الرحلة البابوية؛ لأن ذلك: «مهم لمستقبل ميانمار والمصالحة فيها»؛ ولأن «قسماً كبيراً من الاقتصاد والأمن لا يزال بين يديه»، وأضاف المصدر عينه: «الجيش هو الذي سبّب أزمة الروهينغا، وعليه لا بد من إشراكه في مجال تجديد البلاد الذي ترعاه أونغ سان سوتشي، وزيرة الخارجية».
وعلى هامش اللقاء، كان الكاردينال تشارلس بو يؤكد على أن هدف لقاء البابا مع قائد الجيش وصحبه ليس تعزيز ما فعله الجنرال، أي الاعتداء على مسلمي الروهينغا، بل تبادل الحوار معه، «لعل قلبه يلين فيما قد يكون الخطوة الأولى نحو السلام».
طريق لتجاوز الأصولية
بعد الجنرال الممسك بزمام الأمور في ميانمار عمد البابا إلى مخاطبة الحس الإنساني لدى القيادات الدينية في هذا البلد المعروف بأنه أمة كبيرة غنية بالألوان، ومكون من ثماني قبائل. طوال أربعين دقيقة التقى البابا بـ17 مسؤولاً دينياً في البلاد، بين بوذيين وهندوس ومسلمين ويهود ومسيحيين، وأمام هذا الحشد من رجالات الدين المختلفين عقائدياً، وأن جمعهم أصل إنساني واحد، استنكر البابا «الميل العالمي للانتظام» في قتل البشرية، في حديث لم يكن ينقصه سوى الإشارة بالاسم واللفظ لما يجري لمسلمي الروهينغا.
طالب البابا بالوحدة في الاختلاف، مُصرّاً على أننا جميعاً إخوة، حتى لو لم تعني الوحدة أن نكون متشابهين... لكل منا غناه ونقائصه، لكن يمكننا أن نعيش بسلام، والسلام يبني في قلب الاختلافات في حين الوحدة تظهر في تلك الاختلافات.
كلمات البابا عزفت لصالح مسلمي الروهينغا، دون أن يسميهم، وبخاصة عندما تناول قضية ميانمار، البلد الغني في اختلافاته؛ إذ شدد على أن «طبيعة ميانمار غنية جداً باختلافاتها؛ لذا دعونا لا نخاف من الاختلاف؛ إذ أبانا واحد ونحن أخوة، فلنبق كذلك، وإن لم نكن متفقين فيما بيننا، فلنكن كالإخوة الذين سرعان ما يتصالحون».
انغلاق أم تسامح؟
من المؤكد أن دوائر الفاتيكان كانت تدرك أن البوذية لها الباع الطويل في ميانمار «بورما»؛ ولهذا حرص البابا على لقاء القائد البوذي ستياغو سالياداو، في لقاء وصف بالضروري والحيوي، ضمن الجهود المبذولة لتحفيز السلام والتعايش الأخوي كطريق وحيدة لسلوكه.
أما اللقاء الأكبر مع البوذيين في ميانمار، فكان من خلال الاجتماع بمجلس «سانغان» الأعلى للرهبان البوذيين، الذي اعتبره البابا فرصة لتعزيز وتجديد وتمتين روابط الصداقة والاحترام بين البوذيين والكاثوليك.
مرة جديدة ودون مباشرة واضحة أو إشارة صريحة للمذابح التي تعرض لها مسلمو الروهينغا، أشار البابا إلى أن الإنسانية اختبرت على مدى العصور الظلم ومراحل من الصراعات وانعدام المساواة بين الأشخاص، مشيراً إلى الجراح التي ولّدها الفقر والاضطهاد والصراعات التي لا تزال قائمة على الرغم من الإنجازات التكنولوجية الكبيرة التي تحققت في مجتمعات اليوم.
في حين الأهم والأكثر حساسية وقرباً من الإشكالية الحقيقية في ميانمار، أنه اعتبر أن هذه القيم أساسية بالنسبة للنمو المتكامل للمجتمع بدءاً من العائلة وصولاً إلى الجماعات الوطنية والعرقية والعائلة البشرية برمتها.
تضميد الجراح
كانت ولا تزال وستظل كارثة الأصوليات حول العالم، أنها أبداً ودوماً تقف أمام فكر متحجر ومتكلس تؤمن من خلاله بمسار واحد، وعقلية وذهنية أحادية، لا تلوي عنها شيئاً.
لهذا السبب؛ كان حديث البابا للسلطات الحكومية والمجتمع المدني في القصر الرئاسي البورمي بـ«ناي بي تاو» في العمق والصميم، مؤكداً على أنه يود أن يعانق سكان ميانمار كافة، ويوجّه كلمة تشجيع إلى جميع الأشخاص الساعين إلى بناء نظام اجتماعي عادل ومتصالح، ولا يستثني أحداً. وإذ أشار البابا إلى أن ميانمار تنعم بطبيعة خلابة وبموارد مهمة، أكد أن الكنز الثمين الذي يتمتع به هذا البلد هو الشعب الذي عاني ولا يزال يعاني بسبب صراعات داخلية دامت لفترة طويلة، وولدت انقسامات عميقة.
لقاء بابا الفاتيكان بممثلي الحكومة كان مناسبة لدفع عملية بناء السلام والمصالحة الوطنية الصعبة قدماً، رأى البابا أن ذلك يمكن أن يتحقق من خلال الالتزام لصالح العدالة واحترام حقوق الإنسان، مذكراً بأن الحكماء والأنبياء قد أثنوا على مبدأ العدالة أساساً لسلام حقيقي ومستدام.
لم ينس البابا في كلمته، التشديد على ما للطوائف الدينية من دور بالغ الأهمية في قيادة عملية المصالحة والاندماج الوطني في ميانمار؛ ولهذا شدد على أن الاختلافات الدينية لا يجب أن تكون مصدراً للانقسامات ولعدم الثقة، إنما دافع للوحدة والصفح والتسامح والبناء الحكيم للبلد، وكذلك باستطاعة الأديان أن تقوم بدور مهم في شفاء الجروح الوجدانية والروحية والنفسية، جروح أولئك الذين عانوا خلال سنوات الصراع. ويمكنها إذ تستقي من هذه القيم المتجذرة بعمق، أن تساعد على استئصال أسباب الصراع، وبناء جو للحوار، والبحث عن العدالة.
لقد راهن البابا على الشباب، على الأجيال الجديدة، التي رأى أن المستقبل لا يزال اليوم بين أياديهم، وقد وصفهم بأنهم عطية يجب أن نحبهم ونشجعهم، ورأى أنهم استثمار سوف ينتج مردوداً غنياً إن وضعوا أمام فرص عمل حقيقية وتربية جديدة، وهذا شرط ملح للعدالة بين الأجيال.
لقد أضحت ميانمار بؤرة سلطت عليها الأضواء، وأضحت كلمات البابا هناك عن التعددية والتنوع وقبول الآخر، مجالاً خصباً لمجابهة الأصوليات والراديكاليات الأحادية، وما تجره على البشرية من وبال وكوارث.


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.